فصل: تفسير الآيات (60- 61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآيات (60- 61):

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين}. إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صلى الله عليه وسلم، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال.
وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم: هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة. (والمباهلة): هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة- بضم الباء- هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: (يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا) فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد.
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة- كما قلنا- وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء، فنحن نقول: (نبتهل إلى الله)، أي ندعو الله.
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: «أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك».
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: لا لن نستطيع المباهلة، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لابد ان يرجع عنها.
وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا.
إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} إنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين}.
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولأن الله سبحانه يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال- جل شأنه-: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق...}.

.تفسير الآية رقم (62):

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}
وقوله الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} يلفتنا إلى أن ما يرويه الحق لنا هو الحق المطلق، وليس مجرد حكاية أو قصة، أو مزج خيال بواقع، كما يحدث في العصر الحديث، عندما أُخذت كلمة القصة في العرف الأدبي الحديث- القادم من حضارة الغرب- إن القصة بشكلها الحديث المعروف إنما يلعب فيها الخيال دورا كبيرا، لكن لو عرفنا ان كلمة (قصة) مشتقة من قص الأثر لبحث أهل الأدب فيما يكتبون من روايات وخيالات عن كلمة أخرى غير (قصة)، فالقصص هو تتبع ما حدث بالفعل لا تبديل فيه ولا أخيلة.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} فإذا جاء القصص من الإله الواحد فلنطمئن إلى أنه لا يوجد إله آخر سيأتي بقصص أخرى، ولأن الله الواحد هو {العزيز الحكيم} أي الغالب على أمره، ومع أنه غالب على أمره فهو حكيم في تصرفه.
لكن هل اتعظ القوم الذين جادلوا؟ لا، إن الحق يقول: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين...}.

.تفسير الآية رقم (63):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
إن قوله {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يدل على أن الله قد علم أزلا أنهم لن يقبلوا المباهلة، وهكذا حكموا على أنفسهم بأنهم المفسدون، فصدق الحق سبحانه في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} ومع ذلك فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدين الكامل لأنهم مؤمنون بالإله، وبالسماء، وبالكتاب، لذلك يقول الحق: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (64):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
إنها دعوة إلى كلمة مستوية لا التواء فيها {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهذا أمر لا جدال فيه، ثم {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} أي لا ندخل معه من لا يقدر على الارتفاع إلى جلال كماله، فالعقول السليمة ترفض كلمة (الشرك)؛ لأن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق أشركوه في الألوهية إنما جاء من بعد أن خلق الله الكون. أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟
إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لأن الحق سبحانه قادر على إدارة هذا الكون، وأنزل منهجا إذا ما اتبعه الإنسان صار الكون منسجما، إذن فأي شرك لا لزوم له. وإن كان- والعياذ بالله- له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات الإله الثاني. وهذا عجز في قدرة هؤلاء الآلهة، ولهذا يحسم الحق هذا الأمر بقوله الكريم: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة، وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله}. أي ألا نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة، يضع الواحد منهم الحلال لنا أو الحرام علينا، فالتحليل والتحريم إنما يأتي من الله، وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم. ثم يقول الحق: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ: اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي إن من لا يقبل عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له ولا أرباب تحلل أو تحرم، إنما يريد أربابا وشركاء، وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية الإيمان؛ لأن قضية الإيمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة، وهو مصدر الأمر في الحركة وهو الواحد الأحد، فلا تتضارب الحركات في الكون.
إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج الله ب (افعل) و(لا تفعل) فلو أن هناك إلها قال: (افعل) وإلها آخر قال: (لا تفعل)، لكان معنى ذلك والعياذ بالله أن هؤلاء الآله أغيار لها أهواء. والحق سبحانه يحسم هذا بقوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
وهكذا كانت دعوة الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، إنها آية تحمل دعوة مستوية بلا نتوءات، فلا عبادة إلا لله، ونحن لا نأخذ (افعل) و(لا تفعل) إلا من الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم، فإن رفضوا وتولوا، فليقل المؤمنون: {اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي أنه لا يوجد إلا إله واحد، ولا شركاء له، وبعضنا لا يتخذ بعضا أربابا، وتلك شهادة بأن الإسلام إنما جاء بالأمرالمستوى الذي لا عوج ولا نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به.
وبعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ...}.

.تفسير الآية رقم (65):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}
إن الحق يسألهم: لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا كما يدعي اليهود، فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى لا يمكنهم الادعاء بأن إبراهيم كان نصرانيا، لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام، فلم المحاجة إذن؟ لقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟
وبعد ذلك يقول الحق: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ...}.

.تفسير الآية رقم (66):

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)}
أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح، تجادلوا في كل شيء، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب.
ويوضح الحق هذا الأمر فيقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً...}.

.تفسير الآية رقم (67):

{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} ونحن نفهم أن كلمة {حَنِيفاً} تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ.
وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة، فتلتزم، وتغفل مرة، فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك.
ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟
هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب.
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه.
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور، ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها، لكنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج.
قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: (إن إبراهيم كان مستقيما) ولماذا جاء بكلمة (حنيفا) التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: (مستقيما) لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} وكلمة {مُّسْلِماً} تقتضي (مسلما إليه) وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج.
وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب (افعل ولا تفعل) وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين.
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (افعل ولا تفعل) ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك قال الحق: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه...}.