فصل: تفسير الآية رقم (147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (147):

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
فكأن ما حدث نتيجة لذنب تقدم ففطنوا إلى السبب، كان المفروض أنهم في معركة، وهذه المعركة أجهدتهم وأنهكتهم، صحيح أنهم لم يضعفوا، وكان المفروض أن يقولوا: (يارب انصرنا أولا) لا. بل قالوا: لابد أن نعرف السبب في النكسة الأولى، السبب في هذه النكسة أن الله لم يسلمني إلى نفس إلا لأني نسيته.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا}، {ربَّنَا}، وانظر لكلمة النداء في {ربَّنَا}، كان يمكن أن يقولوا: يا ألله إنما جاءوا بكلمة (ربنا) لماذا؟ لأن علاقة العبد بالربوبية هي قبل علاقته بالألوهية، فالألوهية مكلفة، فمعنى (إله) أي: معبود، وما دام معبودا فله تكليف يطاع فيه، وهذا التكليف يأتي بعد ذلك، هو سبحانه له ربوبيته في الخلق. قبل أن يكلفهم، وما دام الرب هو الذي يتولى التربية، فالأولى أن يقولوا: يارب، إذن قولهم: (ربنا) يعني أنت متولي أمورنا، أنت الذي تربينا.
{ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فكأنه لا شيء يصيبنا إلا بذنب من الغفلة ارتكبناه. ونعرف من كلمة (ذنب) أن الذي يفطن إلى معناه لا يفعلها أبدا، لأن كلمة (ذنب) مأخوذة من مادة (الذَنَب). والذَّنْبُ سيأتي بعده عقوبة. فاللفظ نفسه يوحي بأن شيئا سيأتي، وعندما تتذكر عقاب الذنب فأنت لا تفعله.
{اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} لأن كل معصية تكون تجاوزا عما أَحلَّه الله لك، وزيادة غير مشروعة وإن كانت من نوع ما أحله الله، ولكنها زيادة عن مقومات حياتك، فالله شرع لنا الزواج لنأتي بالأولاد، وعندما نأخذ أكثر من هذا من غير زواج نكون قد أسرفنا، والله أعطانا مالا بقدر حركتنا، فإن طمعنا في مال غيرنا فقد أسرفنا. (وأسرفت) يعني أن تأخذ حاجة ليست ضرورية لقوام حياتك ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الزمر: 53].
إنه سبحانه يوضح: أنا حللت لك كذا من النساء فما الذي جعل عينيك تزوغ وتميل إلى غير ما أحله الله لك؟ أنا أحللت لك كسب يدك وإن كنت فقيراً فستأخذ صدقة، لماذا أسرفت؟ إذن فكل أمر زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة اسمه (إسراف) {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}. لقد بدأوا يدخلون في الحق، لكنهم في البداية رَأَوْا الباطل، والباطل هو من أسباب تخلي الحق عن نصرتنا أولا، لكن عندما يغفر سبحانه الذنب ويغفر الإسراف في الأمر نكون أهلاً للمدد وأهلاً لتثبيت الله.
{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} كيف يقول الحق ذلك والمفهوم في المعركة أن الأقدام لا تثبت؟ المعركة تطلب من المقاتل أن يكون صوالاً جوالاً متحركا، إذن فما معنى {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}؟ إن قول الحق: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} يعني لا تجعلنا نفر من أرض المعركة، ولا نترك أرض المعركة أبدا.
ولذلك قلنا: إن الكفار عندما حدث منهم ما حدث لم يظلوا في ارض المعركة، بل تركوا أرض المعركة وانصرفوا، وهؤلاء المؤمنون ولو أنهم انهزموا إلا أنهم مكثوا في أرض المعركة مدة، وكروا وراء أعدائهم وطاردوهم. وقد اهتدى البشر أخيراً إلى هذا المعنى، ففي فرنسا نيشان يسمونه (نيشان الذبابة) لماذا الذبابة؟ لأن الذبابة إن طردتها عن مكان لابد أن تعود إليه، فكذلك المفروض على القائد- ما دام انسحب من منطقة- أن يوطن نفسه على العودة إليها، فيعطوه نيشان الذبابة.
فقوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في أي منطقة؟ وفي أي معركة؟ علينا ألا نبرح أماكننا؛ لأننا ساعة أن نبرحها فهذه أول هزيمة، وهذا أمر يُجَرِّئ العدو علينا.
{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين}. كلمة {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} هي حيثية، فما داموا قد قالوا: {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فهم إذن مؤمنون ومؤمنون بحق؛ ولذلك فإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قولته المشهورة: إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة الله، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم.
ولذلك فالإيمان يتطلب أن تنتبهوا إلى موطن الضعف فيكم أولا، والذي استوجب أن يصيبكم ما أصابكم، حقاً إنكم لم تضعفوا، ولم تستكينوا وأصابكم من المعركة شيء من التعب والألم. كأن الحق يوضح لنا أنهم قد تنبهوا فأحسنوا البحث في نفوسهم أولا، لقد تكلموا عن الذنوب وطلبوا المغفرة وتكلموا عن الإسراف على النفس، وبعد ذلك تكلموا عن المعركة. فماذا كان العطاء من الله؟
ويأتينا الجواب في قوله الحق: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة...}.

.تفسير الآية رقم (148):

{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
أي أن الذي يريد الدنيا فالله يعطيه من الدنيا غنائم وأشياء، ولنا أن نلحظ أن الحق عندما يتكلم هنا عن الدنيا فهو لم يصفها بحُسن أو بشيء، فقط قال: {ثَوَابَ الدنيا}، لكن عندما تكلم عن الآخرة فهو يقول: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} وهذا هو الجمال الذي يجب أن يُعشق؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي متاع وغرور وزخرف زائل، ومهما كنت منعماً فيها فأنت تنتظر حاجة من اثنتين: إما أن تزول عنك النعمة، وإما أن تزول أنت عن النعمة.
ويختم الحق الآية بقوله: {والله يُحِبُّ المحسنين} وقد أحسنوا حين ناجوا ربهم بعدما أصابهم. إنهم سألوا المغفرة، وسألوا أن يغفر لهم إسرافهم في أمرهم، وأن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين؛ لأنهم رأوا أن قوتهم البشرية حين يتخلى عنهم مدد الله تصبح هباءً لا وزن لها.
{فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين} ومثلما قلنا في الصبر: {والله يُحِبُّ الصابرين} كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوباً لله، كذلك كفى بالجزاء على الإحسان أن تكون محبوبا لله. وبعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُوا...}.

.تفسير الآية رقم (149):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)}
وما دمتم مؤمنين وهم كفار فكيف يتأتي منكم أن تطيعوا الكافرين؟ إنكم وهم من أول مرحلة مختلفون؛ أنتم مؤمنون وهم كفار، والكافر والمنافق سيستغل فرصة الضعف في النفس الإيمانية المسلمة، ويحاول أن يتسلل إليها، مثلما قلنا: إن جماعة من المنافقين قالوا: قتل محمد، ولم يعد فينا رسول فلنلجأ إلى دين آبائنا. والمؤمنون الذين أصابتهم لحظة ضعف قالوا: نذهب إلى ابن أبي- المنافق الأول في المدينة- ونطلب منه أن يتوسط لنا عند أبي سفيان ليأخذ لنا الأمان.
ولذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ}، فإن كان الموقف يحتاج إلى ناصر فلا تطلبوا النصير من الكافرين، ولكن اطلبوه ممن آمنتم به. وينزل القول الحق: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين}

.تفسير الآية رقم (150):

{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}
ألم يقل أبو سفيان: (لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم)، فقال لهم النبي قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم، وعندما قال: يوم بيوم، أي يوم أٌحد بيوم بدر، الحرب سجال. فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: لا سواء، أي نحن لسنا مثلكم؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فكيف تكون سواء وكيف تكون سجالاً!؟
{بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} ونفهم قول الحق: {خَيْرُ الناصرين} أي يجوز ان يوجد الله بشراً كافرين أو غير كافرين وينصروكم نصراً سطحياً، لا نقول ان هذا نصر انما النصر الحقيقي هو النصر الذي ياتي من الله، لماذا؟ لأن النصر أول ما يأتي من ناحية الله فاطمئن على أنك خالص ومخلص لله والا ما جاءك نصره، فساعة يأتيك نصر الله فاطمئن على نفسك الايمانية وانك مع الله. وقول الحق: {خَيْرُ الناصرين} دليل على أنه من الممكن أن يكون هناك ناصر في عرف البشر. وقد قال المؤمنون: يارب نحن ضعاف الآن وإن لم نذهب لأحد ليحمينا ماذا نضع؟ فيوضح لهم الحق: كونوا معسكرا إيمانيا أمام معسكر الكفر، وإياكم أن تلجأوا إلى الكافرين بربكم؛ لأنهم غير مأمونين عليكم. وإن كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا سأفعل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب}. فإذا ألقى الرعب في قلوب الكافرين فماذا يفيدهم من عَدَدِهم؟! عددهم وأموالهم تصير ملكا لكم وتكون في السَلَب والغنيمة.

.تفسير الآية رقم (151):

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}
وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل. فساعة قالوا لأبي سفيان: إن محمداً قادم إليك بجيش كثيف من المدينة، وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل، وقادم إليكم في حمراء الأسد. ماذا صنع أبو سفيان وقومه؟ ألقى الله الرعب في قلوبهم وفروا.
وكلمة {سَنُلْقِي} مأخوذة من (الإلقاء) وهو لا يكون إلا لمادة وعين. ويبين لنا القرآن هذا الأمر حين يقول: (فألقى الألواح)، هذه حاجة مادية. قال تعالى: {وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني} [الأعراف: 150].
إنه أمر مادي.. ونحن نقول: ألقى الحجر. والحق سبحانه يقول: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44].
إنها حبال، أي أمر مادي. وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].
فالإلقاء أمر مادي، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا، فقال: أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب، ويكون عمله ماديًّا. فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا، فيقول: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكأنه مثل لنا الرعب، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء، فأوضح: بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان.
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} انظروا إلى التعابير الصادرة عن الله إنه هنا يأتي ب (نون العظمة)، {سَنُلْقِي} ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل فهو سبحانه يأتي ب (نون العظمة) كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولأن إنزال الذكر عملية عظيمة، فنأتي ب (نون العظمة). لأننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة، وننزله بعلم وننزله ببصر، وننزله بقيومية، وننزله بقبض وننزله ببسط، فقوله: {إِنَّا نَحْنُ} فكأن نون العظمة تأتي هنا، لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول: (إنني أنا الله). لم يقل إننا، ولكن في الإنزال يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
لأن هذه عملية عظيمة جليلة؛ ف (نون العظمة) تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة، ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيُّ عمل تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) لماذا؟ لأن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه، ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله، ويحتاج إلى حكمة، أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة، فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي يُقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك، وباسم الحكيم الذي يحكمك.
وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الاستعانة، فلا يقول لك: هات الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لأن هناك صفات أنت لا تعرفها، فيقول لك: هات الاسم الجامع لكل صفات الكمال. قال: (باسم الله)، وهي تضم كل صفات الكمال.
إذن فأنت تلاحظ انك إذا رأيت (نون العظمة) التي نسميها (نون الجمع) نجد أننا نقول: (نحن) للجماعة. أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه، ولذلك نلاحظها حتى في قانون البشر، ألم يقولوا في الملكية: (نحن الملك)، وهذه النون بالنسبة لله ليست نون الجماعة. إنما هو (نون العظمة)، العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الأفعال، لذلك قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه. إذن فتأتي نون العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟.
وهو سبحانه لا يتجنى عليهم بالقاء الرعب، ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب، لماذا؟ (بما أشركوا). إن الإشراك بالله هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لأن الله يفعل، والشركاء لا يفعلون. ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم. فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم الرعب لأنهم ليس لهم مولى، ولو كان لهم آلهة قادرة- كما يدعون- لقالوا لتلك الآلهة: رب محمد يعمل معنا هكذا فلماذا لا تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بالله ما لا يضر ولا ينفع، بل ضره أقرب من نفعه.
{بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة (السين واللام والطاء) ونقول: فلان تسلط على فلان، أي أرغمه بقدرته عليه. ويقولون: فلان سليط اللسان، أي قادر أن يسب، إذن فالسلطة هي: القهر، والقوة التي ترغم على الفعل، وفي المعنويات هي الحجة والبرهان، والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا: إن إبليس يأتي يوم القيامة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].
وقلنا إن السلطان نوعان: إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية، وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل المعصية.
والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل. أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك، فمرة يأتي السلطان بمعنى: قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت مرغم.
إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل، فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الآخرة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا المعصية، لا هذا ولا ذاك، فما الحكاية إذن؟ قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي}. أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بلا سلطان قوة أقهركم به على شيء، ولا سلطان دليل أقنعكم به.
ويذيل الحق الآية بقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي أن المرجع الذي يأوون إليه هو النار، والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه. وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه على النار فهو- أي الكافر- مأواه ومثواه الذي يرجع إليه. ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق في بعض الأساليب: (وإليه تَرجَعون) وقوله: (وإليه تُرجعون). {وَبِئْسَ مثوى الظالمين}.. أي مثوى لا مفر بعده أبدا، فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه، لكن المثوى الذي سيبقى خلودا للظالمين هو النار وهو بئس المثوى. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ ما أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ...}.