فصل: تفسير الآية رقم (168):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (168):

{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}
فعندما أراد ابن أُبَيٍّ أن يخذل الجيش، وافقه بعض المنافقين ولم يوافقه البعض. هؤلاء الذين خرجوا للقتال والجهاد ولم يوافقوهم ثم قتلوا فرحوا فيهم، وقالوا: لو كانوا أطاعونا ومكثوا في المدينة ولم يخرجوا لما انهزموا ولما قتلوا، وكأن الحق يوضح لنا أسلوبهم؛ لذلك سنأخذهم من منطقهم.. هم قعدوا وقالوا عن إخوانهم الذين قُتلوا في المعركة والذين هم من جماعتهم: {لَوْ أَطَاعُونَا} كأن قولا صدر منهم: (أن اقعدوا) ولكن القوم الآخرين الذين هم أقل نفاقا. لم يطاوعوهم وخرجوا، فحدث لهم ما حدث.
فكيف يرد الله على هذه؟ انظروا إلى الرد الجميل: أنتم تقولون: {لَوْ أَطَاعُونَا}، فكأن طاعتكم كانت وسيلة لسلامتهم من القتل. إذن فأنتم تعرفون طريق السلامة من القتل. والذي يعرف طريق السلامة من القتل هل يعرف طريق السلامة من الموت؟ ولذلك يقول الحق سخرية بهم: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفي ذلك رد عليهم من كلامهم {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}.
وما دمتم تعرفون وسيلة للسلامة من القتل فاستعملوا هذه الوسيلة في أن تدفعوا عن أنفسكم الموت. وأنتم مع المتقدمين منكم والحاضرين تموتون ولا تستطيعون رد الموت عنكم، إذن فأنتم لا تعرفون طريق السلامة من الموت؛ فكم من مُحارب عاد من الحرب سليما، وكم من هَارب من القتال قد مات وانتهى، وهَبْ أن بعضا من المؤمنين المقاتلين قد قُتل، إن الذي قُتل في المعركة ليس أهون على الله ممن سلم من المعركة، هؤلاء أحب إلى الله وقد عجل الله لقاءهم وأنزلهم المنزل المقرب عنده.
ونعرف أن الحدث إنما يُحمد ويُذم بالنسبة للغاية منه، فكل حدث يُقربك من الغاية يكون محموداً، وكل حدث يُبعِدك عن الغاية يكون غير محمود، فإذا كانت الغاية أن تذهب إلى الاسكندرية مثلا؛ فقد تذهب إليها ماشيا فتحتاج إلى عدة أيام، وقد تذهب إليها راكبا دابة فتحتاج إلى زمن أقل، أو تذهب إليها راكبا عربة فيقل الزمن لساعات، أو تذهب إليها راكبا طائرة فتصلها في نصف الساعة، فكلما كانت الوسيلة قوية كان الزمن قليلا؛ لأننا نعلم أن القوة الفاعلة في النقلة تتناسب مع الزمن تناسبا عكسيا. وكلما زادت القوة قل الزمن، وما دامت غايتي أن أذهب إلى الاسكندرية. فالذي يُعجل لي الزمن ويقلله لأذهب إليها أفضل أم لا؟ إنها الوسيلة الأفضل.
فما دامت الغاية أن تذهب إلى لقاء الله وأن تعيش في جواره ومعيته، فحين يُعجل الله ببعضنا فيأخذهم من أقصر طريق فهذا أفضل بالنسبة لهم أم لا؟ هذا أفضل، وهكذا نرى أن الناس تنظر للموت نظرة حمقاء، إن موت المؤمن الحق الصادق الإيمان إنما يقربه إلى الغاية، فما الذي يُحزنني!

.تفسير الآية رقم (169):

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}
أنتم تخافون الموت، ولكن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بميتين، لأن حياتهم حياة موصولة؛
إن هناك فارقا كبيرا بين الموت والشهادة، فالذي يقتل شهيدا تكون حياته موصولة، ولن يمر بفترة موتنا نحن، ولنفهم أنهم أحياء عند ربهم، أي بقانونه سبحانه، فلا تُحَكّم قانونك أنت، فأنت- كما قلت- لو فتحت القبر ستجد هؤلاء القتلى مجرد أشلاء. هم عندك أشلاء وأموات في قانونك أنت. لكنهم أحياء عند ربهم يرزقون؟
فالحياة تختلف عن الموت في ماذا؟ إن الإنسان إذا زهقت روحه وفارقت جسده انقطعت حياته، في ظاهر الأمر انتهى ولم يعد ينتفع برزق ولا بأكل؛ لأن الرزق جُعل لاستبقاء الحياة إذن فلا رزق، لكن الله سبحانه يريد أن يعطينا مواصفات تؤكد أن الشهيد حي. ومن ضروريات الحياة أنه يٌرزق أي ينتفع باستبقاء الحياة، وعلينا أن نفهم أن العندية عندك غير العندية عند الله. فالشهيد حي عند ربه ويُرزق عند ربه رزقا يناسب الحياة التي أرادها له ربه. ونعلم أن الرزق هو الخاصية التي توجد للأحياء. وعندما نقرأ قول الله: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قد يقول قائل: من الجائز أنك تأخذ إنسانا وتُبقيه حيا وتعطيه طعاما وشرابا لكن أهو فرح بموقعه؟ لا. لذلك يجب أن ندرك ونعرف أن حياة الشهيد ليست في قبره ولكنها عند ربه وهو فَرِح بموقعه لذلك يقول الحق: {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}

.تفسير الآية رقم (170):

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}
والعدل يتحقق بين البشر بأن كلا منهم يموت. ولكن الفضل أن يعجل الله انقضاء الحياة في الدنيا لمن يُحبهم بالاستشهاد وينقلهم إلى رضوانه ونعيمه {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وليس هذا فقط، بل إننا نجد الأخوة الإيمانية قد بقيت فيهم وليست كخاصية الأحياء بل أنقى وأبقى من خاصية الأحياء، فالخاصية الإيمانية تقتضي أن يُحب المؤمن لأخيه ما يُحب لنفسه، والشهداء في حياتهم عند ربهم كذلك، مما يدل على أن الحياة التي يحياها الشهداء هي حياة نامية فيها رزق ومواجيد وفرح، وكل شهيد يعتبر أن هذا فضل من الله قد فضله به. ولذلك فالشهيد يستبشر بالذي لم يأت من بعده من إخوانه المؤمنين ويقول: يا ليتهم يأتون ليروا ما نراه.
{وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم}: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} من البُشرى، والبشرى هي الخبر السّار {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} ويلحقوا أي يأتوا بعدهم، فالشهداء يقولون: إنهم سيأتون لنا وما داموا سيأتون لنا فنحن نٌحب أن يكونوا معنا في النعيم والخير الذي نحيا فيه. وكل منهم يشعر بالمحبة لأخيه، لأنه يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه». وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن فضلهم قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا من الحرب. فقال الله- عز وجل-: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها».
ونعرف أن البِشْرَ عادة هو الفرحة، وهي تبدو عَلَى بشَرة الإنسان، فساعة يكون الإنسان فرحا، فالفرحة تظهر وتُشرق في وجهه ولذلك نُسميها البشارة، لأنها تصنع في وجه المُبشَّر شيئا من الفرح مما يعطيه بريقا ولمعانا وجاذبية.
{وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم، فهؤلاء الذين لم يستشهدوا بعد قد يخوضون معركة ما، فيقول الحق على لسان الشهداء لكل منهم: لا تخف لأنك ستذهب لخير في الحياة {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وبعد ذلك يقول الحق: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ...}.

.تفسير الآية رقم (171):

{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}
إن الحق سبحانه لا يضيع أجر هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل الله، وها هو ذا سبحانه وتعالى يقول: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ ما أَصَابَهُمُ القرح...}.

.تفسير الآية رقم (172):

{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}
انظر إلى المنزلة العالية كي تعلم أن الهزة التي حدثت في أُحُد أعادت ترتيب الذرات الإيمانية في نفوس المؤمنين. ولذلك أراد الله ألا يطول أمد الغم على مَن ندموا بسبب ما وقع منهم، وألا يطول أمد الكفار الذين فرحوا بما أُلحق بالمؤمنين من الضرر في المعركة الأخيرة، هؤلاء المشركون فرحون، وهؤلاء المسلمون في حزن؛ لأننا قلنا: ما داموا مسلمين ومؤمنين فلهم الحق، وإن قَصَّروا فعليهم عقوبة، وسبحانه قد أنزل بهم العقوبة لكن بقي لإسلامهم حق على الله؛ لأنه أجرى تلك الأقدار ليُهذب ويُمحص ويُربي، فلا يطيل أمد الغم على المؤمنين ولا يمد الفرحة للكافرين، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والحالة كما تعلمون هكذا، ويؤذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب قريش قائلا: (لا يخرجن معنا إلا من حضر معنا القتال).
ويخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم بعدد لا يزيد على عدد المقاتلين الذين كانوا يواجهونهم حتى لا يقال إنهم جاءوا بمددٍ إضافي، بل بالعكس، فالذين خرجوا لمطاردة الكفار هم الذين بقوا مع الرسول في أُحد، ونقص منهم من قُتل ونقص منهم أيضا كل من أثقلته جراحه. لقد كانوا أقل ممن كانوا في المعركة، وكأن الله يريد أن يبين لنا أن التمحيص قد أدى مطلوبه.
هم في هذه الحالة استجابوا للرسول، كأن المسألة جاءت رد اعتبار لمن شهدوا المعركة؛ حتى لا يضعفوا أمام نفوسهم؛ وحتى لا يجعلوها زلة تطاردهم وتلاحقهم في تاريخهم الطويل، بل يعلمون أن معركة أُحد قد انتهت وعرفوا آثارها.
وبمجرد أذن مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنداء السابق استجابوا جميعا، ولم يُسمح إلا لجابر بن عبد الله أن يكون إضافة لهم؛ لأنه أبدى العذر في أنه لم يكن مع القوم؛ لأن له أخوات سبعاً من البنات وأمره أبوه أن يمكث مع أخواته لرعايتهن، فسمح له رسول الله.
- وكما قلنا- فإن الله أراد بكل أحداث أُحُدٍ أن يُعيد ترتيب الذرات الإيمانية، وما دامت الذرات الإيمانية قد انتظمت فقد تم إصلاح جهاز الاستقبال عن الله، وفي لحظة واحدة يستجيبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أنهم يلاحقون الكفار، وذهبوا إلى حمراء الأسد وكان ما كان. وبعد ذلك أرسل الله لهم من جنوده من يُخَذِّلُ هؤلاء القوم الكافرين، ويقول لهم: إن محمدا قد خرج إليكم بجيش كبير.
ونلحظ أن الحق سبحانه يجيء هنا بقوله: {الذين استجابوا} وهي تقابل (من خالفوا) أمر رسول الله وهم الرماة، {الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ ما أَصَابَهُمُ القرح}.
لقد استجابوا وهم مُرهقون ومُتألمون ومثخنون بالجراح؛ فكل واحد منهم قد ناله نصيب من إرهاق القتال، ومع ذلك استجابوا لله وللرسول، وكل منهم أصابه القَرح أو القُرح.. يعني الألم أو الجرح، {مِن بَعْدِ ما أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهم قد أحسنوا في الاستجابة؛ لذلك فلهم الأجر العظيم، {أَجْرٌ عَظِيمٌ} لأن ما حدث منهم من أمر المخالفة قد أخذوا عليه العُقوبة.
ويقول الحق بعد ذلك: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً...}.

.تفسير الآية رقم (173):

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}
المسألة ليست ذلك فقط، المسألة أن المنافقين راحوا يُروجون إشاعات كاذبة بأن المشركين قد اسْتَدعوا عددا جديدا من كفار مكة وذلك ليخيفوا المؤمنين، فلم يخف مؤمن واحد {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} وساعة ترى كلمة (الناس) فاعرف أن الإيمان بعيد عنها، وما داموا (أناسا) فهم يقابلون أناسا آخرين، ومن يغلب فهو يغلب بجهده وشطارته وحسن تصرفه، لكن المؤمن يقابل الكافر، والمؤمن يتلقى المدد من ربه.
قيل: إن الشيطان قد يتمثل على هيئة حشد من الناس ليُرهب المؤمنين، والشيطان من عالم الجن، وعالم الجن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، وقد أعطاه الله القدرة على أن يتشكل بما يُحب. فله أن يتشكل في إنسان، في حيوان، أو كما يريد، ولكن إذا تشكل فالصورة تحكمه لأنه ارتضى أن يخرج عن واقعه ليتشكل بهيئة أخرى، فإذا ما تشكل على هيئة إنسان، فقانون الإنسان يسري عليه، بحيث إن كان معك مسدس أو سيف أو خنجر وتمكنت منه وطعنته يموت. وهذا هو ما رحمنا من تخويفهم لنا.
ولذلك تجد أن الشيطان يظهر لمحة خاطفة ثم يختفي، لأنه يخاف أن يكون الإنسان الذي أمامه واعيا بأن الصورة تحكمه، فعندما يتمثل لك بأي شكل تخنقه فيُخنق؛ لذلك يخاف من الإنسان، فلا يظهر إلا في لمحات خاطفة.
ويمكن أن نفهم أيضا قول الحق: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أن هناك بعضا من الكفار أشاعوا أن أبا سفيان وصحبه قد حشدوا حشودهم، فكلمة (جمعوا) تعطي إيحاء بأنهم جاءوا بمقاتلين آخرين، أو أن فلولهم قد تجمعت، وسواء هذا أو ذاك فهم عندما فروا فروا فلولا، لأن القوم المنهزمين لا يسيرون سيرا منتظما يجمعهم، بل يسير كل واحد منهم حسب سرعته، ويصح أن يتجمعوا ثانية، أو جاءوا بناس آخرين، ولنا أن نلحظ أن الأسلوب يحتمل كل ذلك.
{الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} ومثل هذا القول قد يفت في عضد المؤمنين، لكن التمحيص الإيماني قد صقل معسكر الإيمان فلم يهتموا بهذا الكلام، وهكذا أثمر الدرس الأول، لقد تعلموا أن المخالفة عن أمر الله الممثل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد المخالفة تجعل الضعف يسرى في النفس، لكن التثبت والتمسك بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعزز الإحساس بالقوة؛ لذلك لم يأبهوا لهذا التهديد بل قالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} فلم يهتموا بالعدد وفهموا أن الإيمان يقتضي أن يقاتلوا الكافرين حتى يُعذبهم الله بأيديهم، وفي هذا درس لكل مُحارب، فعندما تحارب، فأنت إما أن تكون منصورا بإيمانك بالله وإما أن تكون على عكس ذلك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
لقد فطنوا إلى أنفسهم، وتغير الترتيب الإيماني في أعماقهم، ونلمس ذلك في أن بعضا من الناس جاءوا يصدونهم ويخذلونهم، فلم يستطيعوا بل زادهم هذا القول إيمانا {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، لقد فطنوا إلى أن قوة الله هي التي تنصرهم والله حسبهم وكافيهم عن أي عدد من الأعداد وهو نعم الوكيل، ومعنى (الوكيل) أنني عندما أعجز عن أمر أُوَكِّلُ أحدا فهو وكيل عني، وعندما نوكل الله فيما عجزنا عنه فهو نعم الوكيل، لماذا؟ وتأتينا الإجابة: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله}، ولقد نصروا بالرعب الذي أنزله الله في قلوب أعدائهم ولم يشتبكوا مع الكفار، فصدق قول الله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [الأنفال: 12].
ويأتي الحق من بعد ذلك بما يصدق القضية: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا...}.