فصل: تفسير الآية رقم (174):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (174):

{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
وهذه القضية يجب أن يستشعرها كل مؤمن يتعرض لتمحيص الحق له، وعلى كل مسلم أن يتذكر تلك التجربة، تجربة أحُد، فليلة واحدة كانت هي الفارق بين يوم معركة أحُد ويوم الخروج لملاحقة الكفار في حمراء الأسد، ليلة واحدة كانت في حضانة الله وفي ذكر لتجربة التمحيص التي مر بها المؤمنون إنها قد فعلت العجب؛ لأنهم حينما طاردوا الكفار، لم يأبهوا لمحاولات الحرب النفسية التي شنها عليهم الأعداء، بل زادهم ذلك إيمانا وقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}.
إذن فقد تجردوا من نفوسهم ومن حولهم ومن قوتهم ومن عددهم ومن أي شيء إلا أن يقولوا: الله كافينا وهو نعم الوكيل لمن عجز عن إدراك بغيته. لقد عرفوا الأمر المهم، وهو أن يكون كل منهم دائما في حضانة ربه، وقد أخذ صحابة رسول الله وآل بيت رسول الله هذه الجرعة الإيمانية واستنبطوا منها الكثير في حل قضاياهم.
وقول الله سبحانه: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} يُذكرنا بالإمام جعفر الصادق ابن سيدي محمد الباقر بن سيدي علي زين العابدين وكان من أفقه الناس بالقرآن، وكان من أعلمهم في استنباط أسرار الله في القرآن، إنّه كان يجد في قول الحق: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} استنباطا رائعا، فهو يتعجب لأي إنسان أدركه الخوف من أي شيء يخيف، والإنسان لا يخاف إلا أمرا يَنْقُضُ عليه رَتََابَة راحته، ويقلقه ويهدده في سلامه وأمنه واطمئنانه، ويكون لهذا الخوف مصدر معلوم، فإذا ما تعرض المؤمن لمثل هذا الخوف فعليه أن يتذكر قول الحق: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} لأنها قضية نفعت الجيش كله في معركته مع الكفار، فحين يأخذ الفرد هذه الجرعة فهو يستعيد رباطة الجأش. واشتداد القلب فلا يفر عند الفزع.
وينبهنا سيدنا جعفر الصادق إلى هذه القضية لنفزع إليها عند كل ما يُخيفنا فيقول: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} إنه بنظرته الإيمانية يتعجب لإنسان أدركه الخوف ثم لا يفزع إلى هذا القول الكريم {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، ثم يستنبط بإشراقاته سر هذا فيقول: لأني سمعت الله بعقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} وانظروا إلى قول سيدنا جعفر الصادق: (فإني سمعت الله بعقبها) هو قرأ بنفسية المؤمن الصادق، فالمؤمن حين يقرأ كلام الله إنما يستحضر أنه يسمع الله يتكلم إنه يقول: فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} ولذلك فالحق يقول: {وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
فأنت حين تستمع إلى القرآن فالله هو الذي يتكلم، ومن العيب أن يتكلم ربك في أذنك ثم تشغل عنه وهو ربك، إذن فعلاج الخوف هو أن تقول من قلبك: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} وأن تقولها بحقّها، فإن قلتها بحقها كفاك الله شرّ ذلك الخوف، لأن الله يقول بعد {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} انظر إلى النعمة والفضل، إنهما من الله، وقد تصيبك النعمة والفضل ولكن تقدر ذلك في أخريات الأمور، فأوضح الله أن النعمة زادت في أنها غنيمة باردة، ولم يحدث فيها أن مسّنا سوء، إن ذلك هو قمة العطاء ورأسه وسنامه، فإذا قدرته في أخريات الأمور فقد أخطأت التقدير {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} ونتيجة لتلك التجربة النافعة هي أن {اتبعوا رِضْوَانَ الله}، وقد نجحت التجربة مع المؤمنين.
ويقول الإمام جعفر الصادق ليكمل العلاج لجوانب النفس البشرية، ويصف الدواء فالنفس البشرية يفزعها ويقلقها ويجعلها مضطربة أن تخاف شرًّا يقع عليها، وعلاج هذا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، ويضيف: وعجبت لمن اغتمّ ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87].
و(الغمّ) قلق في النفس، ولكنك لا تدرك أسبابه، فأسبابه مُعقدّة، صدر يضيق، ولذلك تقول: أنا صدري ضيق، أنا متعب ولا أدري لماذا؟ أي لم يمرّ بك الآن أشياء تستوجب هذا، إنما قد تكون حصيلة تفاعلات لأحداث وأمور أنت لا تتذكرها الآن، هذا اسمه (غمّ)، فإذا ما فزع العبد إلى قول الحق سبحانه: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فالعبد يقرّ بذنبه ويقول: هذا الغمّ لم يأتني إلا لأنني خرجت عن المنهج، ويذكرنا سيدنا جعفر الصادق بأنه سمع بعدها قول الله: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88].
والذي قال ذلك هو سيدنا يونس {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم}.
وهذه الاستجابة من الله ليست خاصّية كانت ليونس عليه السلام، لأنه سبحانه قال: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} أي أنه باب واسع أدخل الله فيه كل المؤمنين، ويضيف سيدنا جعفر الصادق: وعجبت لمن مُكر به ولم يفزع إلى قول الله: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} [غافر: 44].
فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ}.
ومُكر به معناها بيّت له الشر بحيث يخفى، لأن المكر هو: تبييت من خصمك لشرّ يصيبك، بينما أنت تقف يجانب الحق، فيكون هذا المكر شراً يُبيِّت لخير وحق، وهذا هو المكر السّيء، ويقابله مكر حَسن، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
إذن فهناك مكرٌ ليس بسيء، كأن يُبيت صاحب الحق لصاحب الشرّ تبييتا يخفى عليه، هذا اسمه مكر خير؛ لأنه محاربة لشرٍّ؛ ولذلك يوضح لنا الله هذا الأمر: افطنوا إلى هذه، فإن كانوا يمكرون ويُبيِّتون، فهم إن بيّتوا على الخلق جميعاً لا يُبيِّتون على الله لأنه سبحانه العليم، الخالق، المُربّي، وإن يُبيّت الله لهم فلن يستطيعوا كشف هذا التبييت، إذن فالله خير الماكرين؛ لأن تبييتهم مكشوف أمام الخالق؛ لذلك فهو مكر ضعيف، أما المكر الحقيقي فهو الذي لا توجد وسيلة تعرفه بها.
ونواصل مع سيدنا جعفر الصادق قوله في علاج النفس البشرية فيقول: وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قول الله: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} [الكهف: 39].
فإني سمعت الله يعقبها بقوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 39-40].
واستنبط سيدنا جعفر الصادق ذلك من حكاية صاحب الجنة: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 39-40].
إنك حين تقول: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} فإن الدنيا تأتيك مهرولة، لأنك جرّدت نفسك من حولك، ومن قوة حيلتك وأسبابك، وتركت الأمر لله سبحانه وتعالى القادر على كل عطاء.
إذن فالجوانب البشرية في النفس: هي خوف له علاج ووَصْفَة، وهمٌّ له علاج ووصفة، ومكر بك له علاج ووصفة، وطلب دنيا وسعادة لها علاج ووَصْفَة، والوصْفة التي نحن بصددها هنا: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء}.
والنعمة أن يعطيك الله على قدر عملك، والفضل من الله هو أن يزيدك عطاء، ولم يمسس السوء أحداً من المؤمنين الذين طاردوا المقاتلين من قريش، وكان من نتيجة ذلك أنهم جمعوا بين كل ما وهبه الله لهم؛ من نعمة وفضل مع اتباعهم رضوان الله؛ فقد صارت المسألة بالنسبة لهم تجربة مُحسّة ومُجرّبة {واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
لقد حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن لقاء كفّار قريش، فيريد الحق أن يكشفهم، ويظهر الدافع إلى مثل ذلك الموقف من المنافقين؛ لذلك قالوا للمؤمنين: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم}
ويظهر الله للمؤمنين حقيقة موقف المنافقين: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (175):

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
إنها صرخة الشيطان الذي يخوِّف أولياءه، ويَصحُّ أن يصرخ الشيطان صرخته وهو يتمثل في صورة بشر، ويصح أن ينزغ الشيطان بصرخته لواحد من البشر فيصرخُ هذا الإنسان بنزغ الشيطان له {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}.
وعندما نقرأ القرآن بدقة صفائية إيمانية فلابد أن نفهم عن القرآن بعمق، فمن هم أولياء الشيطان؟ أولياء الشيطان في هذا الموقف، إما كفّار قريش، وإما المنافقون أو هما معا. و{أَوْلِيَاءَهُ} هم أحبابه الذين ينصرون فكرته.
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يُبلّغنا: إنما ذلكم الشيطان الذي قال: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، هذا الشيطان إنما يخوف أولياءه.
وللوهلة الأولى نجد أن الشيطان مُفترض فيه أن يخوّف أعداءه. ونحن هنا أمام شيطان ينزغ بعبارة التخويف، فمن الذي يخاف وممن يخاف؟
المفروض أن يُخيف الشيطانُ أعداءه، هذا هو المنطق.
فنحن في حياتنا العادية نقول: خوّفت فلاناً من فلان، أو خوفت فلاناً فلاناً إذن فالشيطان يحاول هنا أن يتسلط على المؤمنين ويخوفهم من أوليائه الكفار والمنافقين، ونعرف في اللغة أن هناك في بعض المواقف يمكننا أن نحذف حرف الجر ونصل الجملة، ونُسمّيه (مفعولاً منه). مثال ذلك قول الحق: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الأعراف: 155].
فموسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً.
وعلى ذلك نقرأ قول الحق: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ونفهم منها؛ أن ذلكم الشيطان يخوِّفكم أنتم من أوليائه، لأن حرف الجر في الآية الكريمة محذوف، ويعاضد هذا ويقويه قراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه، وينبه الحق المؤمنين ألاّ يخافوا من أولياء الشيطان فيقول: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ}.
وهذا يوضح لنا أن الشيطان إنما أراد أن يُخوّف المؤمنين من أوليائه وهم المنافقون والكافرون. وبعض المفسرين قال: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} المقصود بهم أن الشيطان يخوّف أولياءه حتى يَجبنوا من القتال، فنزغ فيهم أنهم إن خرجوا للقتال فقد يموتون ولكن إن جاز ذلك القول على المنافقين الذين لم يخرجوا مع الرسول لملاقاة المشركين فكيف يجوز ذلك على الصنف الثاني من أوليائه وهم الكفار؟ إن الكفار قد خرجوا فعلا لقتال المؤمنين. ونفهم من قول الحق: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} أن أولياء الشيطان ليسوا هم الخائفين ولكنهم هم المخوِّفون: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
فالحق سبحانه يطلب من المؤمنين أن يصنعوا معادلة ومقارنة، أيخافون أولياء الشيطان، أم يخافون الله؟ ولابد أن يصلوا إلى الخوف من الله القادر على دحر أولياء الشيطان.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً...}.

.تفسير الآية رقم (176):

{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)}
لقد كان المنافقون في أول المعركة مُختفين ومستورين، ثم ظهرت منهم بادرة الانخذال في أُحُد فكانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ولكنهم من بعد ذلك سارعوا إلى الكفر، فكأن هناك من يلاحقهم بسوط ليتسابقوا إلى الكفر.
وها هو ذا الحق سبحانه قد حدّد عناصر المعركة، أو قوى المعركة، أو ميدان المعركة أو جنود المعركة فينبه رسوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} ولم يقل: لن يضروكم شيئا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته المؤمنين ليسوا طرفاً في المسألة، فعداء الذين يسارعون في الكفر هو عداء لله؛ لذلك يقول الحق: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً}. كأن المعركة ليست مع المؤمنين. ولكنها معركة الكافرين مع الله، وما دامت المعركة مع الله فالمؤمنون جند الله؛ وهم الصورة التي أرادها الله لهزيمة الكافرين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
فلو كانت معركة الكفر مع المؤمنين بالله فقط لقال الله: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروكم شيئا، لكن المسألة ليست هكذا، لقد أراد معسكر الكفر والنفاق أن يدخل معركة مع الله، ولا توجد قوة قادرة على ذلك، ولهذا يطمئن الله المؤمنين أكثر، ليزدادوا ثباتاً على الإيمان؛ لأن الكل من البشر مؤمنين وكفاراً أغيار، وقد يتحول بعض من البشر المؤمنين الأغيار عن المنهج قليلاً، فعندما تكون المعركة بين بشر وبشر فقد يغلب أحد الطرفين بقوته.
ومن أجل المزيد من الاطمئنان الكامل نقل الله المعركة مع الكفر إلى مسألة أخرى، إنه بجلاله وكماله وجبروته هو الذي يقف ضد معسكر الكفار. والمهم فقط أن يظل المؤمنون في حضانة الله. والرسول كان يحزنه أن يُسارع البعض إلى الكفر. فهل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم أنه إنما جاء مٌبلّغًا فقط؟. إنه يعلم ولكنه كان يحرص صلى الله عليه وسلم على أن يؤمن الناس جميعاً ليذوقوا حلاوة ما جاء به، هذا الحرص هو الذي يدفع الحُزن إلى قلب الرسول، وعندما يرى واحداً لا يتذوق حلاوة المنهج، فالرسول يأمل أن يذوق الناس كلهم حلاوة الإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم بالمؤمنين، بل وبالناس جميعا {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ودليل ذلك أن جاءه التخيير. فقد نادى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا».
فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبقى على هؤلاء فقط ولكنه يحرص أيضاً على الأجيال القادمة. وقد كان. وخرج من أولاد كفار قريش صناديد وأبطال وجنود دعوة وشهداء. فَكَان رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما أخبر الله في آيات القرآن- يحزن عندما لا يذوق أحد حلاوة الإيمان، ويقول الحق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].
وفي موقع آخر يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
والحق سبحانه وتعالى لا يريد أعناقاً، لكنه يريد قلوباً تأتي له بعامل الاختيار والمحبة، فباستطاعته وهو الخالق الأكرم أن يخلق البشر على هيئة غير قابلة للمعصية، كما خلق الملائكة، إن كل الأجناس تٌسبّح بحمده، إذن فالقرآن يُبيّن حِرصَه صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن الناس جميعاً وأن يذوقوا حلاوة اللقاء بربهم، واتّباع منهج الله وحلاوة التشريع الذي يُسعدهم ويُسعد كل ملكاتهم. فإذا ما جاءت المسائل على غير ما يُحبُّ رسول الله. فها هو ذا قول الله سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر}.
وهذا دليل على أن الله يريد أن يُبلّغ البشر: أيها الناس إن من فَرْط حُبّ الرسول لكم أنه يحزن من أجل عِصيانكم وأنا الذي أقول له: لا تحزن. والرسول صلى الله عليه وسلم رحيم بالأمة كلّها، كما يقول القرآن: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
ويكفيه موقفه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حين تذهب كل أمة إلى رسولها ليردّها، فتأتي الأمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُكرمه الله بقبول شفاعته حتى يُعجل الله بالفصل والحساب، وهذه رحمة للعالمين؛ لأنهم من هول الموقف يتمنون الانصراف ولو إلى النار.
ونحن قلنا سابقا: إن الحق سبحانه وتعالى علم انشغال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وبرحمته بهم، فقال له الله- ليريح عواطفه ومواجيده- ما ورد هنا في الحديث الشريف: فعن عبد الله ابن عمر بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} وقول عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}. فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موقف آخر يدل على كمال رحمته بأمته، فقد أنزل الله فيما أنزل من القرآن الكريم- بعد فترة الوحي- قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}.
انظروا إلى ما ورد عن سيدنا علي في هذه الآية، فقد روِيَ أنه- رضي الله عنه- قال لأهل العراق: إنكم تقولون: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}. قالوا: إنا نقول ذلك قال: ولكنّا- أهل البيت- نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}. وفي الحديث لما نزلت هذه الآية قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار).
كما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة».
وهكذا نرى شغل رسول الله بأمته كأمر واضح موجود في بؤرة شعوره.
إذن فقول الله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} هو توضيح من الله لرسوله بأنهم لم يسارعوا في الكفر تقصيراً منك، فأنت قد أديت واجبك، ويضيف سبحانه: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} ولم يقل سبحانه: إنهم لن يضروك، أو لن يضروا المؤمنين، لا بل لقد جعل سبحانه وتعالى المعركة معه وهو القوى ذو الجبروت إنّه هنا يطمئن المؤمنين.
ويريد الله ألا يجعل للذين يسارعون إلى الكفر حظاً في الآخرة فيقول: {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وما دامت هذه إرادات الله في ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة، أيكون لهم عمل يصادم مرادات ربهم؟ لا.
إنه سبحانه يريد بما شرّع من منهج أن تأتيهم سُنّته، والله يعذّب من يخالف سُنته التي شرعها. لأنه جلت قدرته يطلب من المكلفين أن يطبقوا سنته التي شرعها لهم.
وفرق بين وجود (لام العاقبة) التي تأتي حين يكون في مُراد العبد شيء، ولكن القُدرة الأعلى تريد شيئاً آخر، وهي تختلف عن (لام الإرادة) والتعليل ف (لام الإرادة والتعليل) تتضح في قولنا: ذاكر التلميذ لينجح، لأن علّة المذاكرة هي الرغبة في النجاح، أما (لام العاقبة) فتتضح عندما يقول الأب لابنه: أنا دللتك لترسب آخر العام.
أدللّ الأب ابنه حتى يرسب؟ لا، ولكن الأب يأتي هنا ب (لام العاقبة) أي كان للأب مراد، ولكن قدرة أعلى جاءت على خلاف المراد.
ونوضح المسألة أكثر، فالحق يقول في قصة سيدنا موسى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].
ونحن لابد أن نتنبه إلى قول الحق: {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} والإنسان العادي لو قال لامرأة تحمل رضيعها: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر. هذه المرأة لن تُصدّق هذا القائل، لكن أم موسى تلقت هذا الوحي من الله، والتّلقّي من الله لا يُصادمه فكر شيطان ولا فكر بشر، فالإلهام من الله يتجلّى في قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى}. وما دام الله هو الذي ألهمها، فإن خاطر الشيطان لا يجيء. ولذلك قامت أم موسى بتنفيذ أمر الله. ويطمئنها الله فقال لها: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}.
ويُنبّه سُبحانه أم موسى أنه لن يردّه إليها لمجرد أنه قرة عين، ولكن لأن لموسى أيضاً مُهمّة مع الله. وفي لقطة أخرى يقول الحق عن مسألة الوحي لأم موسى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38-39].
والحق هنا في هذه اللقطة يصف وقت تنفيذ العملية التي أوحى بها، ففيه فرق بين التمهيد للعملية قبل أن تقع كما حدث في اللقطة السابقة حيث قال لها الحق: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم}. كان ذلك هو الإعداد، ثم جاء وقت التنفيذ، فقال الحق لموسى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى}. إنها سلسلة من الأوامر المتلاحقة التي تدل على أن هذه العملية كانت في وقت أخذ جنود فرعون لأطفال بني إسرائيل ليقتلوهم، إنه سبحانه يبين لنا أن جنود الله من الجمادات التي لا تعي تلقت الأمر الإلهي بأن تصون موسى، فكلمة (اقذفيه) تدل على السرعة، وتلقّي (اليم) الأمر من الله بأن موسى عندما يُلقى في البحر، فلابد أن يلقيه إلى الساحل. {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} إنها أوامر للمُسخّر من المخلوقات التي لا تعصى.
لكن كيف تكون أوامر الحق لعدو لله؟ إن الله يدخلها كخاطر مُلحّ في رأس فرعون ليُنفّذ مُراد الله. إن امرأة فرعون تقول له ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].
لقد دخل أمر الله كخاطر، والتقطه آل فرعون لا ليكون قرة عين لامرأة فرعون، ولكن لأمر مختلف أراده الله.
فهل ساعة الالتقاط كان في بالهم أن يكون موسى عدوّاً أو قرة عين؟ إنها (لام العاقبة) التي تتضح في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}. فالإنسان يكون في مُراده شيء، ولكن القدرة الأعلى من الإنسان- وهو الله- تريد شيئاً آخر.
الإنسان في تخطيطه أن يقوم بالعملية لكذا، ولكن القوة الأعلى من الإنسان تريد العملية لهدفٍ آخر، وهي التي أوحت للإنسان أن يقوم بهذه العملية. ويتجلّى ذلك بوضوح في العلة لالتقاط آل فرعون لموسى. كان فرعون يريده قٌرّة عين له، ولكن الله أراده أن يكون عدوّاً لفرعون. وفي هذا المثال توضيح شامل للفرق بين (لام العاقبة) و(لام الإرادة والتعليل) وعندما نرى أحداثاًَ مثل هذه الأحداث فلا نقول: (هذا مراد الله) ولكن فلنقل: (العاقبة فيما فعلوا وأحدثوا خلاف ما خططوا).
وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان...}.