فصل: تفسير الآية رقم (180):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (180):

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
لقد ظن بعض من المنافقين والكفار أن طول العمر ميزة لهم، وها نحن أولاء بصدد قوم آخرين ظنوا أن المال الذي يجمعونه هو الخير فكلما زاد فرحوا. فيقول الحق: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}. فالمال قد جاءهم من فضل الله، ذلك بأنهم دخلوا الدنيا بغير جيوب. ولا أحد فينا قد رأى كفناً له جيوب. ولا أحد فينا قد رأى قماط طفل وليد له جيوب. فالإنسان يدخل الدنيا بلا جيب، ويخرج بلا جيب. وكل ما يأتي للإنسان هو من فضل الله، فلا أحد قد ابتكر الأشياء التي يأتي منها الرزق. ويمكن أن تبتكر من رزق موجود. فتطور في الوسائل والأسباب وللإنسان جزء من الحركة التي وهبها الله له ليضرب في الأرض، ولكن لا أحد يأتي بأرض من عنده ليزرع فيها، ولا أحد يأتي ببذور من عنده لم تكن موجودة من قبل ويزرعها، ولا أحد يأتي بماء لم يوجد من قبل ليروي به، فالأرض من الله، والبذور عطاء من الله، والماء من رزق الله، وحتى الحركة التي يتحرك بها الإنسان هي من فضل الله.
فبالله لو أراد إنسان أن يحمل الفأس ليضرب في الأرض ضربة، فهل يعرف الإنسان كم عضلة من العضلات تتحرك ليرفع الفأس؟ وكم عضلة تتحرك حين ينزل الفأس؟!!
وعندما يضرب الإنسان الفأس. فهو يضربها في أرض الله. والذي أراد لنفسه فأساً فإنه يذهب إلى الحداد ليصنعها له، لكن هل سأل الإنسان نفسه من أين أتى الحديد؟ وفي هذه قال الحق: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].
إذن فماذا تُوجد أنت أيها الإنسان؟
أنت تأخذ المواد الخام الأولية من عند الله، وتبذل فيها الحركة الممنوحة لك من الله، وأنت لا توجد شيئاً من معدوم؛ بل إنك توجد من موجود، فكل شيء من فضل الله. وأنت أيها الإنسان مضارب في كون الله. فعقلك الذي يفكر، من الذي خلقه؟ إنه الله. وجوارحك التي تنفعل للعقل من الذي خلقها؟ إنه الله.
وجوارحك تنفعل في منفعل هو الأرض، بآلة هي الفأس، ثم ترويها بماء هو نازل من السماء. فما الذي هو لك أيها الإنسان؟ إن عليك أن تعرف أنه ليس لك شيء في كل ذلك، إنما أنت مضارب لله. فلتعطه حق المضاربة.
والحق سبحانه لايطلب إلا قدراً بسيطاً من نتاج وثمرة الأرض.. إن كانت تروي بماء السماء فعليك عشر نتاجها. وإن كانت الأرض تروي بآلة الطنبور أو الساقية فعليك نصف العشر.
والذي يزرع أرضا فإنه يحرثها في يوم، ويرويها كل أسبوعين.
أما الذي يتاجر في صفقات تجارية فهي تحتاج إلى عمل في كل لحظة، لذلك فإن الحق قدّر الزكاة عليه بمقدار اثنين ونصف بالمائة.
إذن فكلما زادت حركة الإنسان قلل الله قدر الزكاة. وهذه العملية على عكس البشر. فكلما زادت حركته. فإنهم يأخذون منه أكثر!!
والله سبحانه يريد أن توجد الحركة في الكون؛ لأنه إن وجدت الحركة في الكون انتفع الناس وإن لم يقصد التحرك. وبعد ذلك فأين يذهب الذي يأخذه الله منك؟. إنه يعطيه لأخ لك ولغيره. فما دام سبحانه يعطي أخاً لك وزميلاً لك من ثمرة ونتيجة حركتك، ففي هذا اطمئنان وأمان لك، لأن الغير سيعطيك لو صرت عاجزاً غير قادر على الكسب. وفي هذا طمأنينة لأغيار الله فيك. فإن جاءت لك الأغيار فستجد أناساً يساعدونك، وبذلك يتكاتف المجتمع وهذا هو التأمين الاجتماعي في أرقى معانيه. إذن فهذا كله من فضل الله.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} إن الذين يبخلون بفضل الله يظنون أن البخل خير لمجرد أنه يكدس عندهم الأموال، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن الحق يقول: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} أي أن ما بخلوا به يصنعه الله طوقاً في رقبة البخيل، وساعة يرى الناس الطوق في رقبة البخيل يقولون: هذا منع حق الله في ماله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يصور هذه المسألة تصويراً دقيقاً حين يبين لنا أن من يُطلب منه حق الله ولم يؤده، يأتي المال الذي منعه وضن وبخل به يتمثل لصاحبه يوم القيامة (شجاعاً أقرع) وهو ثعبان ضخم، ويطوق رقبته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- يقول: أنا مالُك أنا كنزك. ثم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} إلى آخر الآية».
إذن فالذي يدخر بخلاً على الله فهو يزيد من الطوق الذي يلتف حول رقبته يوم القيامة.
{وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} نعم فلله ميراث السماوات والأرض، ثم يضعها فيمن يشاء، فكل ما في الكون نسبته إلى الله، ويوزعه الله كيفما شاء. إن الإيمان يدعونا ألاّ ننتظر بالصدقة إلى حالة بلوغ الروح الحلقوم، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: «إن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» لانه عند وصول الروح إلى الحلقوم لا يكون له مال.
قول الحق: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قضية تجعل القلب يرتجف خوفاً ورعباً، فقد يدلس الإنسان على البشر، فتجد من يتهرب من الضرائب ويصنع تزويراً دفترين للضرائب، واحداً للكسب الصحيح وآخر للخسارة الخاطئة ويكون هذا المتهرب من الضرائب يملك المال ثم ينكر ذلك، هذا الإنسان عليه أن يعرف أن الله خبير بكل ما يعمل. وبعد ذلك يقول الحق: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ...}.

.تفسير الآية رقم (181):

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)}
روى- في سبب نزول هذه الآية الكريمة: قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك، فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ}.
والذين عايشوا الإسلام في المدينة كانوا من اليهود. واليهود كما نعرف كانوا يَدِلون ويفخرون على العالم بأنهم أهل كتاب وعلم ومعرفة، ويدلون على البيئة التي عاشوا فيها أنهم ملوك الاقتصاد كما يقولون الآن عن أنفسهم. كل من يريد شيئاً يأخذه من اليهود. وكانوا يبنون الحصون ويأتون بالأسلحة لتدل على القوة. وجاء الإسلام وأخذ منهم هذه السيادات كلها، ثم تمتعوا بمزايا الإسلام من محافظة على أموالهم وأمنهم وحياتهم.
أكان الإسلام يتركهم هكذا يتمتعون بما يتمتع به المسلمون أمناً واطمئناناً، وسلامة أبدان وسلامة أموال ثم لا يأخذ منهم شيئاً؟ لقد أخذ منهم الإسلام الجزية. فلم يكن من المقبول أن يدفع المسلم الزكاة ويجلس اليهود في المجتمع الإيماني دون أن يدفعوا تكلفة حمايتهم. ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر الصديق إلى اليهود في المكان الذي يتدارسون فيه فعن ابن عباس قال: دخل ابو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله من عند الله قد جاء بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، إنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيَّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر- رضي الله عنه- فضرب وجه فنحاص ضربا شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر»؟ فقال يا رسول الله: إن عدوّا الله قال قولا عظيما، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجَهه فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك.
فأنزل الله فيما قال فنحاص {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ}.
هؤلاء لم يفطنوا إلى سر التعبير الجميل في قوله سبحانه: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 11].
فإن هذا القول هو احترام من الحق سبحانه لحركة الإنسان في التملك. لماذا احترم الله حق الإنسان في التملك؟ هو سبحانه يريد أن يغري المتحرك بزيادة الحركة، ويحمل غير المتحرك على أن يتحرك. فإن طلب سبحانه شيئاً من هذا المال فهو لا يقول للإنسان: أعطي ما أعطيت لك. بل كأنه سبحانه يقول: إنني سأحترم عرقك، وسأحترم حركتك، وسأحترم فكرك، وسأحترم جوارحك وطاقاتك وكل ما فيك، فإن أخذتُ منك شيئاً فلن أقول لك أعطني ما أعطيت لك، لكن أقول لك: أقرضها لي؛ وإن أقرضتها فسوف تقرضها لا لأنتفع بها، ولكنها لأخيك. وقد اقترض من القادر فيما بعد وذلك لك أنت إذا أصابتك الحاجة. لماذا لأنني أنا الله الذي استدعيت خلقي إلى الوجود. وما دمت أنا الله الذي استدعيت الخلق إلى الوجود فأرزاقهم مطلوبة مني.
إن الواحد من البشر عندما يدعو اثنين من أصدقائه فهو يصنع طعاماً يكفي خمسة أو عشر أشخاص. وما دام الله هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود فهو الذي يكفل لهم الرزق. وعندما يكفل لهم الرزق فلابد أن يتحركوا. وعندما يتحركون فهو سبحانه يضمن آثار الحركة، وذلك حتى ينال كلٌ ما يرضيه، أو على الأقل ما يكفيه من الضروريات.
ولذلك عندما جاءت آثار الحركة من المال وتدخل البشر فيها تأميماً وغير ذلك من الإجراءات قلّت الحركة. لكن الله سبحانه وتعالى يعلم حرص الإنسان على منفعة نفسه فيغريه بذلك حتى يتحرك وسينتفع المجتمع بحركته، سواء قصد الإنسان أو لم يقصد. إذن فحين يقترض الحق سبحانه وتعالى من بعض خلقه لبعض خلقه، فهو سبحانه لا يتراجع فيما وهب. بل يقول جل وعلا: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].
وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نحن البشر قد نضطر إلى هذا الموقف؛ فالواحد منا عندما يعطي أبناءه مصروف اليد، فكل ابن يدخر ما يبقى منه، وبعد ذلك يأتي ظرف لبعض الأبناء يتطلب مالاً ليس في مُكنْة الوالد ساعة يأتي الحدث. فيقول الوالد لأبنائه: أقرضوني ما في (حصّالاتكم)، وسأردها لكم مضاعفة، هو أخذها لأخيهم، لكن لأنه الذي وهب أولاً فلم يرجع في الهبة، لكنه طلبها قرضاً. وعندما يأتي أول الشهر فهو يرد القرض مضاعفاً، فإن كان ذلك ما يحدث في مجال البشر فما بالنا بما يحدث من الخالق الوهاب لعباده؟.
هو سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً}.
لكن اليهود لم يأخذ المسألة بهذا الفهم، لكنه أخذها بغباء المادة فقال: إن الله فقير ونحن أغنياء. لذلك قال الحق سبحانه: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ}.
ولماذا يكتب الله ذلك وهو العالم بكل شيء؟. جاء هذا القول ليدل على التوثيق أيضاً، فعندما يأتي هذا الرجل ليقرأ كتابه يوم القيامة يجدها مكتوبة؛ فالكتابة لتوثيق ما يمكن أن يُنكر- بالبناء للمجهول- فإذا كان العلم من الله فقط فالعبد قد يقول: إنك يارب الذي تعاقب. فلك أن تقول ما تقول. فإذا ما كان مكتوباً عليهم ليقرأوه. فهذا توثيق لا يمكن إنكاره.
ولم يفهم ذلك اليهودي أن القرض لله هو تلطف من الحق سبحانه وتعالى واستدرار لحنان الإنسان على الإنسان. فقد شاء الحق أن يحترم أثر مجهودك وعرقك أيها الإنسان، فإن وصلت إلى شيء من المال فهو مالك. ولم يقل الله لك: أعط أخاك، فسبحانه وتعالى تلطفاً مع خلقه يقول: أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند ملئ. لكن أدب بني إسرائيل مع الله مفقود، فقد قالوا من قبل: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64].
وسبب ذلك إنه أصابتهم سنة وجدب وذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: إن الله وسع على اليهود في الدنيا حتى كانوا أكثر الناس مالا، فلما عصوا الله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيّق الله عليهم في زمنه صلى الله عليه وسلم، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه من يهود: يد الله مغلولة فأنزل الله هذه الآية. إنهم قالوا: السماء بخلت علينا ويد الله مغلولة، فلم تعطنا رزقاً. وهكذا كان اجترأوا عليه بكلمة أو على أصحابه باستهزاء، فسبحانه يوضح لرسوله: أنهم لم يصنعوا ذلك معك ولا مع أتباعك، إن هذا هو موقفهم مني أنا فإذا كان موقفهم وسوء أدبهم وصل بهم إلى أن يجترئوا على الذات المقدسية العليّة، ويقولون: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغنياء} ويقولون: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}. أفتحزن وتأسى على أن يقولوا لك أو لأتباعك أي شيء يسيء إليكم؟
إنها نعمت المواساة من الله لرسوله ونعمت التسلية. ويضيف الحق: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ}. لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا يُنسى؟ {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52].
لقد جاءت كلمة {سنكتب} حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنهم فعلوه، ولكن بما كتب عليهم وليقرأوه بأنفسهم، وليكون حجة عليهم، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها؟ {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} وهم قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} وهذا معصية في القمة، وتبجح على الذات العلية، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ}.
وعندما يأتي هذا النبأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له من الحق سبحانه. لقد قالوا في ربك يا محمد ما قالوا، وقتلوا الأنبياء إخوانك، فإذا صنعوا معك ما صنعوا فلا تحزن فسوف يُجازَوْن على ما كتبناه عليهم بشهادة أنفسهم، ونقول: ذوقوا عذاب الحريق. والحريق يصنع إيلاماً إحساسياً في النفس.
والإحساس يختلف من حاسة إلى أخرى، فمرة يكون الإحساس بالبصر، ومرة بالأذن، ومرة بالشم أو باللمس أو بالذوق.
والذوق هو سيد الأحاسيس، فهو لا يضيع من أحد أبداً، فقد نجد إنساناً أعمى، وآخر أصم، أو شخصاً ثالثاً أصيب بالشلل فلا تستطيع يده أن تلمس، وقد يصاب واحد بزكام مستمر فلا يصبح قادراً على الشم، أما الذوق فهو حاسة لا تختفي من أي إنسان، لذلك أن الذوق أمر من داخل الذات؛ لذلك فهو أبلغ في الإيلام. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
انظر إلى التعبير القرآني {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف}. جاء التعبير بالإذاقة، وجاء بشيء لا يذاق وهو اللباس. وهل اللباس يذاق؟ لا، لكنه سبحانه يريد ان ينبه الإنسان إلى أن كل الحواس التي فيه تحس، حتى تلك الحاسة المختفية داخل النفس، إنّ ذلك يَشمل كل جزء في الإنسان.
فالإذاقة تحيط بالإنسان في هذا التصوير البياني القرآني الكريم: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف}. إذن فهي شدة وقع الإيلام؛ واستيعاب العذاب المؤلم لكل أجزاء الجسم حتى صار الذوق في كل مكان. {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، والحريق هو النار القوية التي تحرق ومن بعذ ذلك يقول الحق: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ...}.