فصل: تفسير الآية رقم (186):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (186):

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}
والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح أو بالمرض. فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله.
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} هما إذن معسكران للكفر: معسكر اهل الكتاب، ومعسكر المشركين. هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام، والأذى الكثير تمثل في محاولة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين، وأهل الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا.
ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ، لا. إن الإبتلاء مجرد اختبار، والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب، فإذا قال الله: (لتبلون)، أي سأختبركم- ولله المثل الأعلى- كما يقول المدرس للتلميذ: سأمتحنك (فنبتليك) يعني نختبرك في الامتحان، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟. إنه شرّ على من لم يتقن التصرف. فالذي ينجح في البلاء في المال يقول: كله فائت، وقلل الله مسئوليتي، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية، فيكون المال عليّ فتنة. فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار، ولذلك قال في سورة (الفجر): {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
فهنا قضيتان اثنتان: الإنسان يأتيه المال فيقول: ربي أكرمني، وهذا أفضل ممن جاء فيه قول الحق: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص: 78].
إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن انه إهانه، هذا الإنسان لا يفطن إلى الحقيقة، والحقيقة يقولها الحق: (كلا) أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة، ولكن متى يكون المال دليل الكرامة؟ يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقاً في أن تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة، فقد اكون غنياً لا أعطى الحق، فالفقر في هذه الحالة أفضل، ولذلك قال الله للاثنين: (كلا)، وذلك يعني: لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل الإهانة.
وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17-19].
{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون المال دليل الكرامة؟ إن المال هنا وزر، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم يكون إهانة؟.. إنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهانا، فلا تتحمل مسؤلية المال. إذن فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة.
{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} وحتى إن كنت لا تمتلك ولا تعطي أفلا تحث من عنده أن يُعطي؟ أنت ضنين حتى بالكلمة، فمعنى تحض على طعام المسكين أي تحث غيرك.. فإذا كنت تضن حتى بالنصح فكيف تقول إن المال كرامة والفقر إهانة؟.. {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} أي تأكلون الميراث وتجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم دون ان يتحرّى الواحد منكم هل هذا المال حلال أو حرام.. فإذا كانت المسألة هكذا فكيف يكون إيتاء المال تكريماً وكيف يكون الفقر إهانة؟.. لا هذا ولا ذاك.
{لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} والذي يقول هذا الكلام: هو الله، إذن لابد أن يتحقق- فيارب أنت قلت لنا: إن هذا سيحصل وقولك سيتحقق، فماذا اعطيتنا لنواجه ذلك؟- اسمعوا العلاج: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور}.. تصبر على الإبتلاء في المال، وتصبر على الابتلاء في النفس، وتصبر على أذى المعسكر المخالف من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا، إن صبرت فإن ذلك من عزم الأمور، والعزم هو: القوة المجتمعة على الفعل. فأنت تنوي أن تفعل، وبعد ذلك تعزم يعني تجمع القوة، فقوله: {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} أي من معزوماتها التي تقتضي الثبات منك، وقوة التجميع والحشد لكل مواهبك لتفعل.
إذن فالمسألة امتحان فيه ابتلاء في المال، وابتلاء في النفس وأذى كثير من الذين أشركوا ومن الذين أوتوا الكتاب، وذلك كله يحتاج إلى صبر، و(الصبر)- كما قلنا- نوعان: (صبر على) و(صبر عن)، ويختلف الصبر باختلاف حرف الجر، صبر عن شهوات نفسه التي تزين للإنسان أن يفعل هذه وهذه، فيصبر عنها والطاعة تكون شاقة على العبد فيصبر عليها، إذن ففي الطاعة يصبر المؤمن على المتاعب، وفي المعصية يصبر عن المغريات.
و{لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} توضح أنه لا يوجد لك غريم واضح في الأمر، فالآفة تأتي للمال أو الآفة تأتي للجسد فيمرض، فليس هنا غريم لك قد تحدد، ولكن قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} فهذا تحديد لغريم لك. فساعة ترى هذا الغريم فهو يهيج فيك كوامن الانتقام. فأوضح الحق: إياك أن تمكنهم من أن يجعلوك تنفعل، وأَجِّلْ عملية الغضب، ولا تجعل كل أمر يَسْتَخِفّك. بل كن هادئا، وإياك أن تُسْتَخَفَّ إلا وقت أن تتيقن أنك ستنتصر، ولذلك قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور}.
واتقوا مثل (اتقوا الله) أي اتقوا صفات الجلال وذلك بأن تضع بينك وبين ما يغضب الله وقاية. عن أسامة بن زيد«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أُبَيّ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تُؤْذنا في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد، ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب؟ - يريد عبد الله بن أبي - قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعفُ عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ...}.

.تفسير الآية رقم (187):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}
ونعرف- من قبل- أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
ونأتي هنا إلى عهد وميثاق آخذه الله على أهل الكتاب الذي آمنوا بأنبيائهم، هذا العهد هو: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}.
فما الذي يبينونه؟ وما الذي يكتمونه؟
وهل هم يكتمون الكتاب؟ نعم لأنهم ينسون بعضا من الكتاب، وما داموا ينسون بعضاً من الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14].
والذي لم ينسوه من المنهج، ماذا فعلوا به؟: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} [البقرة: 159].
لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب، فالكتم عملية اختيارية، أما النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى، إذ لو كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه. والذي لم ينسوه كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه.
وهل اقتصروا على ذلك؟ لا. بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا: هو من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
وقولهم: {هذا مِنْ عِنْدِ الله} ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله، وكلمة {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} لابد أن توسع مدلولها قليلاً، ولها معنى عام، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به، فكيف تشتري أنت الثمن؟ أنت إذا جعلت الثمن سلعة، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل في الأثمان أن يُشتري بها، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89].
إذن فقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} يعني لتبينن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله. وهكذا نجد أن المعاني تلتقي، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه نعت محمد، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران ملتقيان.
{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} يقال: نبذت الشيء أي طرحته بقوة، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده، ومثال ذلك: لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم وجدها جمرة تلسعه، ماذا يفعل؟ هو بلا شعور يلقيها بعيداً. والنبذ له جهات، ينبذه يمينه، ينبذه أمامه، ينبذه شماله، أما إذا نبذه خلفه، فهو دليل على أنه ينبذه نبذة لا التفات إليها أبداً، انظر التعبير القرآني {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ}.
إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه، إمعان في الكراهية والبغض، فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره، لكن إن رماه وراء ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماما، ولذلك يقولون: لا تجعلن حاجتي بظهر منك، يعني لا تجعل أمرا أريده منك وراء ظهرك، والحق يقول: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} أي أنهم جماعة و(ظهور) جمع (ظهر) كأن كل واحد منهم نبذه وراء ظهره. وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية، وكأنهم اتفقوا على الضلال، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. والمشتري هنا هو الثمن، والثمن يُشترى به، ولندقق النظر في التعبير القرآني، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة، وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي، إنما هم يقولون: نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب، هذا معنى {واشتروا بِهِ ثَمَناً}.
ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} لماذا؟ لأنك قد تظن أن بالمال- وهو الثمن- تستطيع أن تشتري به كل شيء، ولكن النقود لا تنفع الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً: هب أن إنساناً في مكان صحراوي ومعه جبل من ذهب وليس معه كوب ماء، صحيح أن المال يأتي بالأشياء، إنما قد يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب، فيكون كوب الماء مثلاً بالدنيا كلها، ولا يساويه أي مال {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
وبعد ذلك يقول الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواَ...}.