فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (39):

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}
وقوله سبحانه: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} وأي تبعه ومشقة وضرر عليهم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه- جل شأنه- يَذُمُّهُمْ ويوبخهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم.
فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له: وماذا عليك لو أنك ذاكرت؟! يعني أي ضرر عليك في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته أن يفعل الفعل، فمثل هذا التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في القامة مثلاً ثم نقول لك: ماذا عليك لو كنت طويلاً؟! هذا قول لا ينفع ولا يصح.
إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبريّة قالت: إن الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافراً، لكنهم لم يلتفتوا إلى قول ربنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر} فمعنى هذا القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ}. وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبريَّة، بل تهدم مذهب الجبريَّة كله. فالإنسان ليس مجبراً على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون: كالريشة في مهب الريح. ومثلما قال الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء

نقول لهم: أنتم نسبتم لله- والعياذ بالله- الظلم، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب من الإنسان أن يؤمن به إلا وقد أودع فيه قوة اختيارية تختار بين البديلات. وأنتم لم تفطنوا إلى حقيقة كتابة كل شيء أزلاً فأخذتم منها الشيء الذي لابد للناس أن تنفذه ولم تلتفتوا إلى أن هناك فرقاً بين أن يكون قد كتب ليلزم، وأن يكون قد كتب لأنه علم.
هو سبحانه كتب لماذا؟ لأنه علم أزلاً أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
وحتى نوضح ذلك نقول: إن الصفات نوعان: صفة تكشف الأشياء على ما هي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد: جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختباراً للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة: لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجدّ ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقنع عميد الكلية ويضع هو اختباراً أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ.
وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقاً بالدرجة الأولى.
أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولاً لأنه يعلم.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار بين البديلات، لكنه أوضح: أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذا سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله} فقوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة (عليهم) دائماً تكشف للإنسان ما عليه؛ لذلك لا يقول (لهم) بل يقول: أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله؛ ولذلك يقول الحق: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 46].
لم يقل سبحانه: الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقناً؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت (المعرّي) عما أتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال:
تحطمنا الأيام حتى كأننا ** زجاج ولكن لا يُعاد لنا سَبْكُ

فقالوا: إن قوله (لا يعاد له سبك) معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك: إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ** لا تحشر الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر ** أو صح قولي فالخسار عليكما

فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثاً، نقول له: إما أن يجيء بعث فيكذب من قال: لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث يخسر ولا يكسب، لكن من قال: إن هناك بعثاً لا يخسر، وهكذا.
وقول الحق: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم {لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة.
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً}. وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكلّ شيء علما؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ...}.

.تفسير الآية رقم (40):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
والظلم: الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحداً فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قوياً. لكن ماذا عن الذي يظلم إنساناً لحساب إنسان آخر؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شرّ من الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا».
لأن ظلم إنساناً لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئاً لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه- وهو قوة القوى- إذا أراد أن يظلم- وحاشا لله أن يظلم- فماذا يكون شكل ظلمه؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الظالم، إذن فقوة القوى عندما تظلم فظلمها لا يُطاق، ثم لماذا يظلم؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب؟ إنه سبحانه مستغنٍ، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، كلهم متساوون، فلماذا يظلم؟
إن الظلم بالنسبة لله محال عقلياً ومحال منطقياً، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، وتلك لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعاً. وما دام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
فكلمة (ظلاّم) مثل قولنا: فلان (أكّال) وفلان (نوّام) وهي تختلف عن قولنا: فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن (نوام) فهذا يعني مداومته على النوم كثيراً، أي أنه إما أن يكون مبالغاً في الحدث، وإما أن يكون مكرراً للحدث، فالمبالغة- كما نعرف- تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عادياً لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ} نفي للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول: الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيراً كثيراً، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعَمّ الخلق جميعا فيكون كذلك كبيراً كثيراً ولكن الله سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}. وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما الحسنة فيضاعفها، {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (مثقال): يعني ثقل ووزن، والثقل هو: مقدار جاذبية الأرض للشيء.
فعندما يكون وزن الشيء قليلاً وتُلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة (مثقال)؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا (الذرة). وما (الذرة)؟
قال العلماء فيها: هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سُئل عنها: أخذ شيئاً من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم: كل واحدة من هذه اسمها (ذرة) وهو ما نسميه (الهباء)، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئاً من الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية- أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس- فساعة ترى ثقباً يُدخل أشعة الشمس ترى غباراً كثيراً يسبح. والمهم أنك لا تراه جارياً إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجوداً ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه؟. لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغاً فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه (الهباء) وواحدة الهباء هي الذرة.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة، وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر، وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يُفتّت به الذرة، وقد حدث أن استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديماً، ومعنى جزء لا يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل التكبير فهو أيضاً يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر.
ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك؛ خرجت الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة؛ فأخرجوا أرقام السيارات التي كانت تسير!. كيف حدث هذا؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل أكثر دقة لا تراها العين المجردة، وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى أرقام السيارات وضحت بعد أن كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجوداً في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها؟ لا يمكن أن تظهر.
لماذا؟.. لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم وهكذا، فالنور عندما يكون محزوماً، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من القوة التي تظهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها.
إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفي على نور الخالق ذرة؟ لا يمكن أن تخفي عليه سبحانه ذرة؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجوداً ولا نراه، فلن يخفي على نور النور ذرة في الأرض.
وهكذا نعرف أن المسألة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من الحديد. والعمود الواحد اسمه (اسطوانة) وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم يمررون عود القصب بينهما، فلابد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود القصب يُعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، وما دامت الاسطوانتان تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جداً، وحاول العلماء الألمان تضييق الاسطوانتين تضييقاً يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من الذرة.
وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه منفذاً. قالوا: إن الله قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}. على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا لهؤلاء: أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صُب مرة واحدة في عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه.

وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلاً كقضية الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح؛ لأن من يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لذلك لابد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب أحكام فهذا أمر واضح وضوحاً لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكماً ثم جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكماً آخر، بل كل الأحكام سواء.
والقرآن كمعجزة هو أيضاً معجزة للجميع. ولابد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة للأحكام. مثال ذلك: لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل؟ لا.. فنحن ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتها أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها.
وعندما فتتوا الذرة قال المشككون: إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد عليهم: أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا- كما قلنا- إلى أن من فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فُتت. والآية التي نحن بصددها الآن: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن (أصغر) هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلا إن وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر؛، لأن كل أصغر لابد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز؛ لأنها أصغر وأكبر، تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول: لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح؟.
ونقول لك: إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث لا تتعلق به الباصرة فلا يُرى، وأيضاً لا يُدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط به الباصرة، فحين ترى جبلاً كبيراً على بعد اثنين من الكيلو مترات أو ثلاثة فأنت لا تدركه؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا يوجد صغير يَدِقُّ لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلابد أن تأتي {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ}.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرحيم الغفور} [سبأ: 2].
وانظروا إلى دقة الحق في الدر على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل العصور.. فيقول سبحانه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3].
كان يكفي أن يقول: إن الساعة آتية، لكنه أوضح: اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما فعلتموه معروف، ولماذا يقولون: لا تأتي الساعة؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم لم يعملوا على مقتضى ما يتطلبه قيام الساعة، فالذي لم يعمل لذلك يود لأن من مصلحته ذلك- أن تكون مسألة الساعة كذب؛ لأنه قد عمل أشياء يخاف أن يحاسب عليها، فجاء سبحانه بالآية لكي تردّ على المقولة وعلى الدافع للمقولة. وكل مقولة لها دافع. لقد كان الدافع لمقولتهم هو إسرافهم على أنفسهم فلم يقدموا عملاً صالحاً فمن مصلحتهم الآمالية ألا تأتي الساعة، كي لا يعاقبوا، وسبحانه يعلم أزلا ما فعلوا وردّ على المقولة وردّ على الدافع الذهني للمقولة، فأوضح سبحانه: أنا عالم كل أمر ولن يغيب عني عمل من أعمالكم.
وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} يعني: وإن يكن الوزن لحسنة يضاعفها الله، وعندما يحدثنا سبحانه عن الحسنة وأنها تُضاعف ثم لا يتكلم عن السيئة فها يدل على أن السيئة بمثلها، والحق قد تكلم عن المضاعفة للحسنة في كثير من الآيات {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ}.
وفي آية أخرى يقول الحق: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261].
وبعد ذلك يقول: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261].
ففيه فرق بين نظام حساب الحسنات ونظام حساب السيئات، فالحسنة تضاعف لعشر أمثالها لسبعمائة ضعف، هذا هو نظام الحساب، وإرادة خالق هذا النظام تعطي كما تريد، إذا كنا نحن- كبشر- عندما توظف واحداً نقول: أنت تدخل السلم الوظيفي، وتبدأ السلم الوظيفي من أول درجاته ثم تترقي درجة بعد درجة، ثم يأتي رئيس الدولة ليعينك في درجة أعلى من ذلك بكثير، فما بالنا بحساب الرب الأعلى؟ إنه يعطي بعملية حسابية فيها زيادة فضل؛ ولذلك قال بعد هذه الآية: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} أي إنه سبحانه يعطي من عنده ذلك الأجر العظيم، وهذا اسمه (محض الفضل) وكيف يسميه الله أجراً مع أنه زائد؟ لأن هذا الفضل جاء تابعا للأجر، فإذا لم يعمل الإنسان هذا العمل فإنه لا يستحق أجرا، وبالتالي فلا ينال فضلاً وحين يضرب الله الأمثال للناس فذلك لتقريب المعاني؛ لأن الله قاله والله صادق فيما يقول، فيعطي الحق سبحانه وتعالى مُثلاً إيناسية في الكون، حتى لا تستبعد أن الحسنة تذهب لهذه الأضعاف المضاعفة.
فيوضح لك: هذه الأرض أمامك هات حبة واحدة وضعها في الأرض تخرج لك سبع سنابل وكل سنبلة فيها مائة حبة فإذا كانت الأرض- وهي مخلوقة لله- أعطت سبعمائة ضعف، فكم يعطي من خلق الأرض؟ إنه يعطي بغير حساب.
إذن فكلمة (من لدنه) هذه تعطيك الباب الواسع الذي يتناسب مع الله. فالأرض تعطيك على قدر جهدك، وعلى قدر العناصر الغذائية الموجودة فيها.. والذي عنده وبيده الخير وخلق كل الكون يوضح: إذا كان خلق من خلقي يعطي حتى الكافر، سبعمائة ضعف فالذي خلق هذا يعطي للمؤمن أجراً للحسنة بلا حدود؛ ولذلك فالإيناسات التمثيلية في الكون يتركها الله لتقرب للعقل المعنى البعيد الذي قد يقف فيه. فالإنسان منا مادة: هي البدن وتحل فيه الروح. وعندما تسحب الروح من البدن، ماذا يصير؟ يصير الجسد رِمة، ويتحلل لعوامله الأولى وتنتهي منه مظاهر الحياة.

إذن فالروح هي السبب في الحركة، وفي أن كل جهاز يقوم بعمله، وفي النمو، وعندما تسحب الروح ينتهي الأمر، إن الروح هي التي تدير كل هذا الجسم، والروح لا لون لها، ولا أحد يراها، ولا يشمها كائن، فكيف ندركها إذن؟
نقول: إن الجوهر الذي يدخل في جسدك ويعطيه الحركة فيديره. أنت لا تراه ولا تحسّه، وهو غيب بالنسبة لك، فإذا حُدّثت أن ربك غيب فلا تتعجب، فروحك التي بين جنبيك لا تعرف كُنهها، وعليك إذن أن تصدق عندما يقال لك: ربك ليس بمحدود بمكان وعنما يقول سبحانه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103].
فكلنا نقول: نعم هذا كلام صحيح؛ لأنه إذا كان هناك مخلوق لله وهو الروح لم تدركه الأبصار، أفتريد أن يُدرَك من خَلَقَ؟ لا يمكن وهو سبحانه من عظمته أنه لا يُدَرك.
وسبحانه يقول: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ونقف عند كلمة (من لدنه). ونعرف أن فيه فرقا بين الإتيان بالناموس- وهو النظام الموضوع- والعطاء المباشر، وعندما يقول الحق: (من لدنه) فهذا يعني أن الوسائط تمتنع. ونعلم قصة سيدنا موسى عندما ذهب ليقابل العبد الصالح قال تعالى في وصف العبد الصالح: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} [الكهف: 65].
وهذا يعني أن العبد الصالح قد تعلم ليس بوساطة أحد. بل من الله مباشرة، بدليل أن الذي جاء ليتعلم منه وتعلم منه ثم وقف معه في أمور جاءت على خلاف ما تجري به النواميس والعادات فكلمة (من لدنا) تعني تجاوز الحجب، والوسائط، والأنظمة.
والحق سبحانه يحترم أصل عملك ويسمي عطاءه لك (أجراً)؛ لأنه أعطى من لدنه بعدما أعطى له النصيب المقدر كأجر، وهذا الأجر موصوف بأنه عظيم؛ لأنه مناسب للمعطي.
ثم يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ...}.