فصل: تفسير الآية رقم (132):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (132):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)}
ومجيء المقولة لثالث مرة لطمأنة الإنسان أن الله يضمن ويحفظ مقومات الحياة. فلن تتمردالشمس يوماً ولا تشرق. أو يتمرد الهواء ولا يهب. أو تضن الأرض عليك عناصرها؛ لأن كل هذه الأمور مسخّرة بأمر الله الذي خلقك وقد خلقها وقدّر فيها قوتك.
ولذلك يوضح ربنا: أنا الوكيل الذي أكلفكم وأكفيكم وأغنيكم عن كل وكيل.
والوكيل هو الذي يقوم لك بمهامك وتجلس أنت مرتاح البال. والإنسان منا عندما يوكل عنه وكيلاً ليقوم ببعض الأعمال يحسّ بالسعادة على الرغم من أن هذا الوكيل الذي من البشر قد يُخطئ أو يضطرب أو يخون أو يفقد حكمته أو يرتشي، لكن الحق بكامل قدرته يطمئن العبد أنه الوكيل القادر، فلتطمئن إلى أن مقومات وجودك ثابتة؛ فسبحانه مالك الشمس فلن تخرج عن تسخيرها، ومالك المياه ومالك الريح ومالك عناصر الأرض كلها. ومادام الله هو المليك فهو الحفيظ على كل هذه الأشياء. وهو نعم الوكيل؛ لأنه وكيل قادر وليس له مصلحة.
وتعالوا نقرأ هذا الحديث: فقد ورد أن أعرابيا جاء فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللّهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال؟) قالوا: بلى، قال: (لقد حَظرت رحمة واسعة. إن الله- عز وجل- خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جِنّها وإِنْسها وبهائمها وأَخَّر عنده تسعاً وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره).
هو إذن كفى بالله وكيلاً وهو نعم الوكيل، وهو يطمئن عباده ويببن أنه سبحانه هو القيوم، وتعني المبالغة في القيام، إذن كل شيء في الكون يحتاج إلى قائم؛ لذلك فهو قيوم. ويوضح الحق لكل إنسان: أَنِ اجتهد في العمل وبعد أن تتعب نم ملء جفونك؛ لأني أنا الحق لا تأخذني سنة ولا نوم. فهل هناك وكيل أفضل من هذا؟.
{وكفى بالله وَكِيلاً}.
ثم يأتي الحق بحيثية أخرى تؤكد لنا أنه غني عن العالمين، فلا يكفي أن يقول: إنه غني وإنه خلق كل ما في السموات وما في الأرض، وإن كفرت أيها الإنسان فالذنب عليك، وإن آمنت فالإيمان أمان لك، وأوضح: إياكم أيها البشر أن تعتقدوا أنكم خُلِقْتُم وشردتم وأصبحتم لا سلطان لله عليكم. لا. فالله سبحانه يقول: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (133):

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}
وبعض الفاقدين للبصيرة من الفلاسفة قالوا: صحيح أن الله قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه. لا، بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعاً وأتى بآخرين، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل: {وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً}.
حين نقرأ (كان) بجانب كلمة (الله) فهي لا تحمل معنى الزمن؛ فالله قدير حتى قبل أن يوجد مقدور عليه، فلم يكن قديراً فقط عندما خلق الإنسان، بل بصفة القدرة خلق الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس أغيار؛ لذلك يظل قديراً وموجودا في كل لحظة، وهو كان ولا يزال.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (134):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
ومادام الرسل قد أبلغوا الإنسان أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلمَ الغفلة؟ ولمَ لا تأخذ الزيادة؟، ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء، وإن اجتهد الإنسان في الأسباب يأخذ نتيجة أسبابه. فالحق يقول: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
ولم يقل الحق: إن (الآخرة) في مقابلة للدنيا؛ وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الاخرة أو العكس، بل يريد- سبحانه للإنسان أن يأخذ الدنيا والآخرة معاً، فيا من تريد ثواب الدنيا لا تحرم نفسك بالحمق من ثواب الآخرة. وكلمة (ثواب) فيها ملحظ؛ فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل، وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل. وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك، فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك.
مثال ذلك الأرض، فإن بذرت فيها تخرج الزرع، واختلافات الناس في الدنيا تقدماً وتأخراً وحضارة وبداوة وقوة وضعفاً إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للإنسان، لا من القسم الذي يُفْعَل للإنسان. ويسخر له، وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لأنهم بحثوا في المادة والعناصر، وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل، فإن أردت أن تكون متقدماً فعليك أن تتعامل مع العناصر التي تنفعل لك، والأمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها، وهم والمتأخرون شركاء فقط فيما يُفعل لهم ويسخَّر لصالحهم.
وإن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر.. فعلينا أن نذهب إلى ما يُفْعل ويسخّر لنا ونتعامل نعه حتى ينفعل لنا.. كيف؟.
الشمس تمدنا بالضوء والحرارة، ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملاً آخر يجعلها تنفعل لنا، مثلما جئنا بعدسة اسمها (العدسة اللاّمة) التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الأشعة في بؤرة العدسة؛ فتحدث حرارة تشعل النار، أي أننا جعلنا ما يُفْعَل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضاً. ويسمون ذلك الطموح الانبعاثي. والمطر يفعل للإنسان عندما ينزل من السماء في وديان، ويستطيع الإنسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضع توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج الكهرباء.
إذن فحضارات الأمم إنما تنشأ من مراحل. المرحلة الأولى: تستخدم ما ينفعل لها، والمرحلة الثانية: ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها. والمرحلة الثالثة: تستخدم ما يفعل لها كمنفعل لها؛ مثال ذلك استخدام الطاقة الشمسية بوساطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاءً مع استخدام ما يفعل للإنسان لينفعل مع الإنسان.
وأسمى شيء في الحضارة الآن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب. وكلمة (ليزر) مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة الانبعاث الاستحثائي، فكلمة (ليزر)- إذن- مثلها كلمة (ليمتد) فاللام من كلمة.
والياء من كلمة، والتاء من كلمة، والدال من كلمة، وذلك لتدل على مسمّى.
وترجمة مسمّى (ليزر) هو تضخيم الطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي. ففيه انبعاث تلقائي هو مصدر الطاقة الذي يُفعل للإنسان وإن لم يطلبه، أما الانبعاث الاستحثائي فينتج عندما يحث الإنسان الطاقة لتفعل له شيئاً آخر. والانبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة. وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الأشعة أهاجوها وأثاروها وأخذوا ليصنعوا منها طاقة كبيرة. وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي، ولأن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفاً وكوّنوا كلمة (ليزر).
إذن فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان، واستحثاث واستخدام ما يُفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثلا.
وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا}. وكلمة (ثواب) إذن توحي بأن هناك عملاً، فالثواب جزاء على عمل. فإن أردت ثواب الدنيا، فلابد أن تعمل من أجل ذلك. فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل.
ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل، سواء آمن أم كفر، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة.
ولذلك يقال: (الدنيا متاع). ويزيد الحق على ذلك: {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً}. ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد.
وهنا ملحظ آخر؛ فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا، دل على أنه لابد من العمل لنأخذ الدنيا، ولم يذكر الحق ثواباً للآخرة، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين.. الدنيا والآخرة، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضاً؛ لأن الآخرة هي دار جزاء، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل. فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله.. فالله يعطيه ثواباً في الدنيا، ويعطيه ثواباً في الآخرة.
ويذيل الحق الآية: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً}- إذن- فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل، والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان، القول- مثلاً- حدث من اللسان، وهو عمل أيضاً، والمقابل للقول هو الفعل. فالأعمال تنقسم إلى قسمين: إلى الأقوال وإلى الأفعال. ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17-19].
وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم، ولما سمع الفقراء هذا القول، كأنهم قالوا: نحن لا نملك ما نطعم به المسكين، فكان في قوله تعالى: {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء: أي حضوا غيركم على العطاء.
أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين، والحضُّ هو كلام. والكلام من العمل.
والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91].
هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه، ولكن في الآية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلاء، وهو أن ينصحوا لله ورسوله. إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكِّر به الآخرين وينصح به، هذا هو معنى قول الحق: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} فسبحانه يسمع قول مّن لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما، وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك.
إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل، والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها، فاللسان جارحة تتكلم، واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل، لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب لا يُسمع ولا يُرى، ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي: (الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي).
وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء. ونجد الحديث الشريف يقول لنا: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
فالعمل يكون بالجوارح، ومن الجوارح اللسان، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل. نقرأ ونفهم هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
ونجد المقابل للقول هو الفعل. والكل عمل. ويأتي نوع آخر من الأعمال، لا هو قول ولا هو فعل، وهو (النية القلبية). وعندما يقول الحق: إنه كان سميعاً بصيراً، فالمعنى سميع للقول، وبصير بالفعل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (135):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلاً: يا أيها الذين آمنوا، فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده، ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم، يورد حيثيته، فيقول: (بما أن المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا، حكمنا بكذا). إذن: فالحيثيات تتقدم الحكم. وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به، مثل قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183].
حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بالله رباً، فليسمع العبد من ربه. وسبحانه لا يكلف كل الناس بالتكاليف الإيمانية، ولكنه يكلف المؤمنين فقط. وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القِسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه. وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد.
إن قمة القِسط- إذن- هي الإيمان. ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القِسط وهو الإيمان، فليجعل القِسط سائداً في كل تصرفاته. وإياك أن تجعل القسط أمراً أو حدثاً يقع مرة وينتهي، وإلا لما قال الحق مع إخوانك المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط}.
ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين: كونوا قائمين بالقسط، بل قال {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسلوك العادل. فنحن نقول: (فلان قائم) و(فلان قَوَّام). ونعرف أن كلمة (قَوَّام) هي صيغة مبالغة. وعلى ذلك يكون الأمر الألهي لكل مؤمن: لا تقم بالقسط مرة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك، ولتفعل القسط في كل أمور حياتك. والقِسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضاً الأقساط هي العدل.
وقد احدثت كلمة (القسط) ضجة عند العلماء، وقلنا تعليقا على ذلك: إن المسألة بسيرة.. فقسط يقسُط قسوطاً أي جار وظلم، فإذا أذهب الإنسان الجور والظلم يقال: (أقسط فلان) أي أذهب الجور. إذن: القِسط- بكسر القاف- هو العدل الابتدائي، لكن الإقساط هو عدل أزال جوراً كان قد وقع.
وهب أن أناساً جاءوا لقاضٍ فحكم بينهم بالعدل، فهذا هو القِسط، وقد يستأنف أحد الطرفين حكم المحكمة الابتدائية ووجدت محكمة الاستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكماً بإزالة الجور، وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط. وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة، فالقِسط عدل من أول درجة، والإقساط يعني أنه كان هناك جور فرُفِع، لأنه مسبوق بهمزة اسمها (همزة الإزالة)، فيقال: أعجم الكتاب. أي أن الكتاب كان فيه عجمة، أي كان بالكتاب شيء مستتر وخفيّ أي يعطي معاني الألفاظ فيزيل خفاءها.
وكذلك معنى (أقسط) أي أزال الجور.
والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} فأنت أيها المؤمن قد فعلت بالعقل أول مرتبة في القسط؛ ورددت الإيمان إلى الرب فهو المستحق له فقط، بل لابد أن تكون الشهادة لله. لماذا؟.
هب أن رجلاً كافراً بالله- والعياذ بالله- ويقيم العدل بين الناس لكنه لا يدخل بذلك في حيثية الإيمان، فالذي يدخل في حيثية الإيمان يكون قائماً بالقسط وفي باله الله وبذلك تكون الشهادة وإقامة حقوق الله لا لمنفعةٍ ولا لغايةٍ ولا لهوى ولا لغرضٍ، وإنما ليستقيم كون الله كما أراد الله، وإلا لو حكم أحد بهوى لفسدت الأرض، والحق يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
لذك لابد أن يكون المؤمن قوّاماً بالقسط وفي باله الله، ولذلك فالقيام بالقسط وحده لا يكفي، ونحن نسمع: فلان عادل ولو أنه من ديانة أخرى غير الإسلام أو كان ملحداً. ونقول: هذا العادل من أي دين أو عقيدة غير الإسلام يأخذ ثناء البشر لكنه لا يأخذ ثناء الله ولا ثوابه، ولذلك فالقوّام بالقسط يجب أن يفعل بقصد امتثال أمر الله لينال الثواب من الله.
{كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} والشاهد في العادة هو من يشهد لمصلحة واحد ضد آخر، وعندما يقر الشاهد بذنب فهو قد شهد على نفسه، والشاهد لمصلحة واحد إنما يفعل ذلك ليرجح الحكم، والشاهد على نفسه يقر بما فعل، والإقرار سيد الأدلة. وشهادة الشاهد تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم. وهكذا يشهد المؤمن على نفسه.
وهناك معنى آخر: أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبالا عليه، وهذه المعاني من معطيات الإشعاعات القرآنية؛ فالمؤمن يشهد على نفسه للإقرار، وقد لا تكون الشهادة على النفس بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ولا يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله، ومن الناس من أصابه وبال في نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت. فالسلطان قد لا يأخذ الإنسان بذنبه، بل قد يأخذ أهل الإنسان بهذا الذنب. والحق يوضح للعبد: لا تهتم بذلك ولا تقولن سيعذبون العيال أو سيأخذون كل شيء، إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي.
ويطلب الحق من المؤمنين: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين}. وحين يشهد الإنسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه.
ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الأهواء، وحين يرجح إنسان الباطل غير الواقع على حق واقع، فالمرجح هو هوى النفس، ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنياً فيخاف الإنسان أن يشهد عليه، فيمنعه من خير ما.
ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال، بل يجب أن يكون البال مع الله فقط؛ لذلك قال: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ}.
وقد يقول قائل: إن الهوى قد ينحاز إلى الغنيّ طمعاً في ثرائه؛ فلماذا يذكر الله الفقير أيضاً؟ ونقول: قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحمةً بالفقير فيحدِّث الشاهد نفسه (أنه فقير ويستحق الرحمة)؛ لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير.
ولا دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير؛ لأن العبد المؤمن ليس أولى او أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم- جل شأنه- ولذلك جاء بالحيثية الملجمة {فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} أي أنك أيها العبد لم تخلق أحداً منهما ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لأنك لست القَيّم على الوجود.
والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول: (آفة الرأي الهوى). وإياكم أيها المؤمنون واتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيداً عنه. والتاريخ العربي يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له: أعفني من القضاء! فقال الخليفة: فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك؟
فقال القاضي: والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرُّطب- أي البلح- وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب، ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه، ويتابع القاضي حكايته للخليفة: فقلت للخدام من جاء به؟ فأجاب الخادم: إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن مَن أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي، فرددت عليه الرطب، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب، دخل الرجل عليّ فعرفته فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق. وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء.
ويتابع الحق سبحانه: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}. أن تلووا في الشهادة والليّ هو التحريف.. أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، فإن الله بما تعملون خبير، أو أن يُعْرِض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه؛ لذلك يقال: إنه خائف من المشهود عليه؛ لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له؛ لهذا فهو يعرض عن الشهادة، وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها؛ لذلك يقول الحق: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى، والهوى عمل القلب؛ لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف. فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام: قول لسان، وفعل بجوارح غير اللسان، ونيات قلوب وهوى.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ...}.