فصل: تفسير الآية رقم (116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (116):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}
ونعرف أن هذا هو الحوار الذي سوف يدور بين الحق وبين عيسى ابن مريم عليه السلام يوم يجمع الحق سبحانه وتعالى الرسل: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 109].
وقد يقول قائل: ولماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي؟: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116].
وكلنا يعرف أن لكل حدث زمناً ومكاناً. وزمان الحدث هو يوم القيامة. ومكان هذا الحدث في ساحة المشهد والحشر، وسبحانه هو خالق كل زمن وكل مكان، وله أن يتحدث عن أي أمر بأي صيغة شاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل، فقد أوجد كل شيء من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، وبيده أمر كل ما خلق ومن خلق. وهو أزلي قيوم، أما نحن بنو الإنسان فأمر الزمن يختلف، الزمن بالنسبة لأفعالنا هو واحد من ثلاثة؛ ماضٍ: أي أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم؛ مثل قولي (قابلني زيد)، ومعنى ذلك أن الفعل قد تم وصار محققاً.
وحاضر: أي أن يكون الحدث في حالة وقوعه، أي يحصل الآن مثل قولي: (يقابلني زيد) وأنت تقصد الحال أي أنه يقابلني الآن.
إن معنى ذلك أن العين ترى زيداً وليس مع العين أين. ومستقبل: أي أن يكون الحادث سوف يقع مقولي: (سيقابلني زيد). وهنا لا يملك الإنسان نفسه أن يحدث منه الحدث، ولا يملك ألا يقع على الإنسان الذي سوف يقابله أمرٌ قد يمنعه من إتمام الحدث، ولا يملك الإنسان أن يظل السبب للمقابلة قائماً. إذن فمع المستقبل لا يصح للإنسان أن يحكم بشيء، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث. والذي يملك هذا هو الحق سبحانه وتعالى وحده. ولذلك يعلمنا القرآن شرف الصدق في الكلمة بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23-24].
وعلى الإنسان أن يحترم قدرته المحدودة، وان يتذكر دائماً قدرة الحق سبحانه وتعالى عليه. وهذا لا يعني أن الحق سبحانه يمنعنا من التخطيط للمستقبل، لا، بل يطلب منا أن نخطط وأن ندرس كل الاحتمالات، وعلينا أن نقول: (إن شاء الله)؛ لأننا بذلك نقدم مشيئة من يملك كل أمر وهو الله- سبحانه وتعالى-.
وقد حاول بعض المستشرقين من أعداء الإسلام أن ينفذوا بسمومهم إلى عقول المسلمين بالتساؤل عن عدم ترتيب الأفعال على نسق حدوثها في بعض من آيات القرآن، فقال قائل منهم: كيف يقول الحق- سبحانه-: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1].
وهذا خبر عن يوم القيامة فكيف يأتي به الله على صيغة الماضي، ثم يقول بعد ذلك: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}؟ واستعجال الشيء لا يكون إلاّ إذا لم يكن قد حدث، فكأن في الكلام تناقضاً، ذلك لأنه يقول: أتى، ويقول بعد ذلك: فلا تستعجلوه؟
ونقول: إن الذي يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنساناً مثلك محكوماً بأزمانه. بل المتكلم هو صاحب كل الأزمان وخالقها. وعندما يقول سبحانه: {أتى أَمْرُ الله} فمعنى ذلك أن أمر الله آتٍ لا محالة، لأنه لا قدرة تخرج مراده على ألاّ يكون. وأي فعل من الحق سبحانه وتعالى إنما يتجرد عن ملابسات الزمان وعن ملابسات المكان، فإن كنا نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100].
فليس معنى ذلك أن مغفرة الله ورحمته قد مضى زمانها وانقضى وقتها. ولكن لنقل: كان الله غفوراً رحيماً ولا يزال غفوراً رحيماً، فسبحانه وتعالى غفور ورحيم قبل أن يوجد من يغفر له ويرحمه، ومن باب أولى يكون غفورا رحيما بعد أن يوجد من يستحق المغفرة والرحمة. وسبحانه منزه عن أن تعتريه الأحداث فيتغير؛ لأن الزمن مخلوق من الله، فلا تقل متى أو أين؛ لأنهما به وجدا. والحق يأتي بالماضي لأنه متحقق الوقوع، ليثبت حدوث أمر لم يحدث بعد، ذلك لأن الله إذا قال عن شيء إنه سيحدث فلابد أن يحدث.
ويؤكد الحق سبحانه في أي كلام من عيسى ابن مريم على أنه (ابن مريم) وهنا يسأل الحق عيسى- عليه السلام-: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} ونعرف أن السؤال إنما يأتي دائماً على وجهين: إما سؤال يعرف به السائل ما كان يجهله فيريد أن يعلمه من المسئول، كقول القائل: أقابلك فلان أمس؟ وإما أن يأتي السؤال لا ليعلم السائل من المسئول، ولكن ليقرر السائل المسئولَ.
ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- يسأل التلميذ أستاذه ليتعلم منه وليخبره الأستاذ بعلم جديد وخبر جديد. وأيضاً يسأل الأستاذ التلميذ ليقرره بالحقيقة ويوافقه عليها لتستقر لدى التلميذ. وسؤال الله عيسى من النوع الأخير؛ ليكون ذلك حجة على من قال بألوهية عيسى أو بنوته لله. وحاول بعض المستشرقين أن يشككوا في القرآن فقالوا: إن هناك تناقضاً في القرآن- والعياذ بالله- واستندوا على ذلك بقول الحق: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
أي أن الحق يقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويعتقد، ولكنه سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39].
فهل معنى ذلك أنهم لن يُسألوا؟ لا، بل سوف يُسألون ليقرروا ما فعلوا لا ليعلم الله منهم ما فعلوا، فهو سبحانه عليم بكل شيء.
وهؤلاء المستشرقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين، وجه ليعلم السائل، ووجه ليقرر المسئول، وسؤال الحق للناس يوم القيامة ليقرروا ما فعلوا وكان منهم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، وليس سؤال الحق سبحانه هو سؤال من يرغب في أن يعلم فسبحانه عليم بكل شيء، وعلى الإنسان أن يحتفظ بالمقام الذي وضعه فيه ربه، وكذلك كان عيسى ابن مريم. وكذلك يكون سؤال الله لعيسى، إنه لتقريع وتأنيب وتوبيخ من قالوا عن عيسى ما لم يبلغهم إياه.
إن عيسى عليه السلام لم يبلغهم ولم يطلب منهم أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله؛ لأن عيسى ابن مريم، إنما يبلغ ما أُوحي إليه من ربه فقط، ولهذا تأتي إجابة عيسى رداً على أي تزَيُّد من الأتباع: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وساعة نسمع {سُبْحَانَكَ} فلنعرف أنها إجمال التنزيه لله، وهو تنزيه أن يشابهه خلق من خلق الله، فلله وجود، وللإنسان وجود، ولكن إياك أيها الإنسان أن تقول: إن وجودي كوجود الله؛ لأن وجود الله ذاتي، ووجودك غير ذاتي وكل ما فيك موهوب لك من الله؛ لذلك فلا غناك مثل غنى الله، بل غناه ذاتي وغناك موهوب منه سبحانه، ولا أي صفة من صفاتك كصفات الله، فله سبحانه مطلق القدرة والقوة، وعليك أن تأخذ كل شيء يتعلق بالله في نطاق (سبحانه) (وليس كمثله شيء).
وكذلك يكون تنزيه عيسى لربه وخالقه: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فعيسى ابن مريم يعلم أن الرسول المصطفى من الله ليس له أن يقول إنه إله. ويرد عيسى على ذلك بقضية متفق عليها: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأن الكل متفق على أن الله يعلم كل ما يبدر من العباد من سلوك وأقوال وأفعال {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}. والكل يعلم ارتفاع الحق وتنزهه عن أن يوجد له معلوم جديد لم يعلمه من قبل. والكل يعلم- كذلك- أن الله يعلم خفايا الصدور؛ لذلك يقول عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ويقرر أن الحق العليم بكل شيء يعلم أن ذلك لم يخطر له على بال، وهذه هي العلة في إيراد ثلاث صور في هذه الآية.
الصورة الأولى هي قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهذا تنزيه من عيسى لربه، والصورة الثانية هي قول عيسى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، والصورة الثالثة هي: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. إذن فلا شيء من عند عيسى، وقد يسأل سائل: وماذا يكون في النفس؟ الذي يكون في النفس هو ما أسِرُّ به ولم يظهر؛ لأن النفس تُطلق مرة ويراد بها الذات التي تضم الروح والجسد معا، وعندما تُطلق على ذات الله فنحن ننزهها عن أن تكون أبعاضاً، ولكنها ذاته المأخوذة في نطاق التنزيه.
والمثال هو قول الحق: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54].
وهكذا يكون فهمنا لمجيء كلمة (نفس) منسوبة لله، إنه المنزه أن يكون مثلنا، فلله وجه ولنا وجه، ولكن وجه الله نفهمه في نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكذلك يد الله وكذلك كل صفات الله. ونعلم أن لله أسماء أعلمنا ببعضها، وعَلَّم بعضاً من خلقه بعضها، واستأثر ببعضها لذاته. وهناك بعض من الصفات لله تأتي لمجرد المشاكلة، كقول الحق: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
ولا نقول أبداً: إن الله مخادع، ولكن الصفة هنا جاءت للمشاكلة لذكرها في مقابلة يخادعون الله. ولذلك لا نأخذ منها اسماً لله، بل إنه جاء للرد على ما يبدو من أعداء الله.
ويختم عيسى ابن مريم قوله: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} هي مبالغة في ذات الحدث، ومبالغة في تكرير الحدث، فهو سبحانه يعلم غيب كل واحد من خلقه وغيب كل ما في كونه، وهكذا جاء القرآن برد عيسى عليه السلام وهو رد يستوعب كل مجالات الإنكار على الذين قالوا مثل هذا القول: ويتابع القرآن على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ما يناقض ما قاله بعض من أتباعه فيقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (117):

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
لقد عرض سيدنا عيسى عليه السلام- من خلال قوله لربه تبارك وتعالى- المنهج الذي جاء به على الناس جميعاً وبلغه تمام البلاغ، فقد أبلغ أنه عبد الله وأنه لرسوله، ومادام الحق علاّم الغيوب فهو أعلم بكل شيء حتى بما في النفس، كأنه يثبت أيضاً أن نفسه لم تحدثه بأي خاطر من تلك الخواطر. ويعلن أنه لم يبلغ إلا ما أمر به ربه.
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
والشهيد هو الرائي الذي لا عمل له في تحريك المشهود إلى غير ما شهده.
ويقول عيسى ابن مريم عليه السلام: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْْ} وأمر توفيه الحق لرسالة عيسى ورفعه إليه، قد ذكرناه من قبل في خواطرنا ولكن أضيف الآن بعضاً من اللمحات؛ لأني أرى أنّ من حق كل قارئ أو متلق لهذه الخواطر أن يجد الخلاصة الملائمة التي تغنيه عن الرجوع إلى ما سبق من قول في هذا الأمر، وذلك حتى تتصل المعاني في ذهن القارئ.
لقد كان لميلاد عيسى عليه السلام ضجة، وكذلك كان لمسألة توفِّي الله له ضجة. ولقد شبه الله لقتلة عيسى أنهم قتلوه، فعندما أرادوا أن يقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي باب في باب، وهذا نظام البيوت القديمة حيث يوجد باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد. وفي سقف هذا البيت فتحة. وعندما دخل رجل يدعى (تطيانوس) طالباً لعيسى عليه السلام نظر عيسى لأعلى ووجد شيئاً قد رفعه، واستبطأ القوم تطيانوس وخرج عليهم من بعد ذلك، فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بعد أن ألقى الله شبه عيسى على تطيانوس. أو أن عيسى حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال عيسى للحواريين: أيكم يُلقى شبهي عليه وله الجنة؟. وكان كل حواري يعلم أنه لا رسالة له مثل عيسى عليه السلام. فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟. وتقدم (سرخس) فألقي عليه شبه المسيح عليه السلام وقتل اليهود سرخس. أو أن الذين ذهبوا لقتل عيسى وعرفوا أنه رفع فخافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا به، ولهذا جاء القتلة بشخص وقتلوه، أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا عيسى لليهود وتيقظت في نفسه ملكة التوبة فقدم نفسه بدلاً وفداءً للرسول.
ومسألة التوفي- كما نعلم- هي الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل، ونحن- المسلمين- نعرف أن الحق رفع محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسراء والمعراج إلى السموات وعاد إلينا مرة أخرة ليكمل رسالته؛ لذلك نصدق أمر رفع عيسى وأن الله توفاه، أي استرده كاملاً دون نقض للبنية، وأنه سيعود مرة أخرى ليصلي خلف مؤمن بالله وبمحمد رسول الله.
وإن أمر الرفع في الإسلام مقبول. فقد رفع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعراج، ودار بينه وبين إبراهيم عليه السلام حوار، وكذلك دار حوار بينه وبين يحيى عليه السلام، وآدم عليه السلام وغيرهم من الأنبياء، وفرض الحق الصلاة على أمة المسلمين في تلك الرحلة.
نحن- إذن- نصدق تماماً مسألة صعود الإنسان بشحمه ولحمه إلى السماء كأمر وارد وحاصل، أما طول المدة أو عدمها فذلك لا ينقض المبدأ.
أما مسألة ارتباط نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض بقيام الساعة، فالنصوص في هذه المسألة من القرآن الكريم محتملة وغير قطعية الدلالة، وقد وردت في السنة النبوية المطهرة، ولكنها غير معلومة من الدين بالضرورة فلا نكفر من يتأبى عليه فهمها، وقد أراد الحق سبحانه الرحمة بالخلق؛ لذلك فكل شيء يقف فيه العقل ولا يزيد به حكم من الأحكام يأتي به الله في أسلوب لا يسبب الفتنة. فإن صدقنا أن عيسى رفع فلن يزيد ذلك علينا حكماً ولن ينقض حكماً، ولذلك جاء الحق سبحانه بمسألة الإسراء بنص قطعي، أما مسألة المعراج فلم تأت نصاً في القرآن بل جاءت التزاماً لأن الحق سبحانه قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} [النجم: 13-15].
وهكذا فالإسراء آية أرضية، والمعراج آية سماوية. والآية الأرضية يمكن أن يقيم رسول الله الدليل عليها، وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ووصفه لهم بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف القوافل التي رآها في طريق العودة، إذن كان الإسراء آية أرضية، أما الآية السماوية وهي المعراج فجاءت التزاماً وكذلك أمر رفع عيسى عليه السلام، فمن يرى أن ذلك جاء من طلاقة قدرة الله فهو يصدق ذلك. ومن يقف عقله نقول له: إن وقوف عقلك لا يخرجك عن الإيمان واليقين. وعندما نتأمل بالدقة اللغوية كلمة (توفيتني) نجد (توفاه) قد تعني أماته، فالحق سبحانه يقول: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
والحق سبحانه وتعالى يقول أيضاً: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42].
إنه سبحانه يسمي النوم وفاة، وسماه- أيضاً- موتاً.
وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض. ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة، والذي ينام إنما يغيب عن حس الحياة، إذن فمن الممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم. ويقال أيضاً عن الدِّين توفيت دَيني عند فلان أي أخذت دَيني كاملاً غير منقوص. وكذلك أمر قتل المسيح قال فيه الحق جل وعلا القول الفصل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضاً، فالحق يقول: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144].
فالموت خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح. وقد قال الحق على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي أخذتني كاملاً غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع. ونعلم أن كل ذلك سيكون مجالاً للحوار بين عيسى ابن مريم والحق سبحانه يوم المشهد الأعظم جاء به القرآن لنا ليخبرنا بالذي يُثَبِّت صدق الإيمان.
إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه: إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم، ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله، فالحق سبحانه شهيد دائماً ورقيب دائماً، ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على أن يشهد ويغير ويمنع. ويخبرنا الحق من بعد ذلك بما جاء على لسان عيسى ابن مريم في قوله الكريم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ...}.