فصل: تفسير الآية رقم (91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (91):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}
الكلام عن الذين رفضوا وتأبوا عن الإيمان بالله. فيأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يوضح لهم بأنهم لم يعطوا الله حق قدره، ومعنى القدْر معرفة المقدار، وحق قدره سبحانه لا نقدر عليه نحن البشر، لذلك نقدره على قدر طاقتنا أو على قدر ما طلب منا، وكما قال رسول الله: (سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
والإنسان منا حين يثني على واحد فهذا دليل أنه قد قيّم قدره بقيمة الثناء، وحين نقيّم قدر الله فعلينا أن نعرف أن صفات الكمال كلها فيه وهي لا تتناهى ولا يمكن أن تحصى. ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى أنه تحمَّل عنا صيغة الثناء عليه: كي لا يوقعنا في حرج، فليس لبشر من قُدرة أن يحيط بجمال الله أو بجلاله حتى يثني عليه بما يستحقه، وإن أحاط عبد بذلك- ولن يحيط- فمن أين له العبارة التي تؤدي هذا الثناء؟ ولا يوجد بليغ أو أديب يستطيع أن ينمق العبارات التي تكفي لتقدير هذا الثناء على الله، فأوضح لنا الحق من خلال رسوله: أنا حملت عنكم هذه المسألة حتى تكونوا كلكم سواسية، قال رسول الله: (سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
وفي كلمة (الحمد لله) وحدها يتساوى الناس جميعاً. ومن رحمته سبحانه أن سوّى بين الناس في معرفة صيغة الثناء عليه. ويأتي الحق هنا بالزاوية التي نفى فيها أنهم ما قدروا الله حق قدره. لماذا ياربَّ لم يقدروك حق قدرك؟ وتأتي الإجابة: {إِذْ قَالُواْ ما أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
أي أنهم أنكروا أن يكون الله قد اختار من بعض خلقه مَن يجعلهم أهلاً لتلقِّي منهجه لإبلاغه إلى خلقه. ويأتي الرد من الحق لرسوله رداً عليهم: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} [الأنعام: 91].
إذن لابد أن يكون القائلون هذا يؤمنون بأن موسى نُزَّل عليه كتاب لتكون الحُجَّة في موضعها. وكُفار مكة كانوا غير مؤمنين بأي رسول، لكنهم يعلمون أن هناك من هم أهل كتاب، بدليل أنهم قالوا: {لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157].
ونقول: لو دققت النظر في السورة فقد ينطبق الأمر على واحد مخصوص من الذين غلبتهم الحُجّة. وفي تاريخ السيرة نجد واحداً من الأحبار كان دائب الخوض في الإسلام، وكان اسمه(مالك بن الصيف) فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحَبْر هو عالم اليهود والمفترض فيه أن يكون من الزهاد فيهم منقطعاً للعلم إلا أنه كان سميناً على الرغم من أن من عادة المنقطعين للعبادة وإلى العلم أنهم لا يأخذون من الزاد إلا ما يقيت، ويقُيم الأود لأنه قد جاء في التوراة: (إن الله يبغض الحبْر السّمين).
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مالك بن الصيف- وهو من أحبار اليهود- يخوض كثيراً في الإسلام قال له: (أفي توراتكم: إن الله يبغض الحَبْر السّمين). فبهت الرجل، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء.
يعني ما أنزل الله على بشر من شيء من الذي أنت تقوله، وهكذا نعلم أن مثل هذا القول قد يأتي من أهل كتاب، وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجال من اليهود وقالوا له: كيف تقول: ما أنزل الله على بشرٍ من شيء. فقال لهم: أغضبني محمد، فرددت على الغضب بباطل.
وهنا قال من سمعه من اليهود: إذن أنت لا تصلح أن تكون حبْراً لأنك فضحتنا. وعزلوه، وجاءوا بكعب بن الأشرف وولّوه مكانه.
{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

الكتاب إذن هنا هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى وهو التوراة وقد جعلوه قراطيس، أو جعلوه أوراقاً منفصلة يظهرون منها ما يُريدون، ويخفون منها ما لا يُريدون مثلما فعلوا في مسألة الرّجم كعقاب للزّنا. إذن فقد سبق لهم كتمان ما أنزل الله عليهم، وبيّن الحق ذلك في آيات متعددة: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14].
والذي لم ينسوه كَتَموا بعضه وأظهروا بعضه، والذي لم يكتموه حرَّفوا ولووا به ألسنتهم، إذن فهناك نسيان، وكتمان، وتحريف. وليتهم اقتصروا على هذا ووقفوا عنده بل جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا هي من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79].
ويتابع الحق سبحانه: {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
فإن كلام الكلام في كُفار مكة فقد جاءهم القرآن بما لم يعلموا لا هم ولا آبائهم؛ لأن الإسلام جاء على فترة من الرسل. وإن كان في أهل الكتاب فهو قول صدق؛ لأنهم لما كتموا أشياء فضح القرآن ما كتموه وما حرفوه. وجاء القرآن فعدل لهم، فكأنهم عُلِّموا الحق، لينسخوا به الباطل الذي غيّروه وحرفوه، وقوله الحق: {قُلِ الله} أي أن الذي أنزل الكتاب هو الله.
وساعة يأتي الحق سبحانه وتعالى بصيغة الاستفهام نعلم أن الاستفهام الحقيقي بالنسبة لله مُحَال، لأنه يعلم كل شيء، وإنما يجيء باستفهام يقال له: (الاستفهام الإنكاري) أو (الاستفهام التقريري) وهو يأتي بهذه الصيغة لأنه يريد جواباً فيه الإقرار من المعاندين، فإن لم يقولوا واحتاروا أو خجلوا أن يقولوا فقل أنت لهم يا محمد: {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
و(الخوض) هو الدخول في الماء الكثير، الذي لا تستبين العين فيه موضع القدم، وربما نزل في هوّة، ثم استعمل واستعير للخوض في الباطل.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي أن هذا لعب منهم ولن يستطيع الصمود أمام الدعوة، فالدعوة سائرة في طريقها، ولن يتمكنوا منها أبداً، فكل الذي يصنعونه هو خوض في باطل ولعب لا جدوى منه ولا صلة له بالجد. ولكن هل معنى هذا أن يتركهم محمد؟ لا؛ لأنه حين يجد آذانا منهم ينبههم ويذكّرهم، ثم بعد أن ينفتح الأمر للإسلام، فالذي يقيم في جزيرة العرب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف؛ لأن المعجزة جاءت مباشرة بقرآن يعلم الكل إعجازه، وسبحانه قد أنزل التوراة من قبل وأنزل القرآن مباركا، فالحق يقول بعد ذلك: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ...}.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
وكلمة (أنزلنا) الأصل فيها نون وزاي ولام، وتستعمل بالنسبة للقرآن استعمالات متعددة؛ فمرة يقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
ومرة يقول عز وجل: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106].
ومرة يسند النزول للقرآن: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105].
ومرة يسند إلى من جاء به: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].
هذه إذن تعابير متعددة، وما دواعي هذا الاشتقاق ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ ليباشر القرآن مهمته في الوجود الجديد، وكان ينزل كل نجم من النجوم حسب الأحداث. و(أنزل) هنا للتعدية أي نقل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ليباشر مهمته، ولذلك يقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر}
ونعلم أن القرآن نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر، ولكنه نزل في ليلة القدر جميعه إلى سماء الدنيا، ثم نزل منجماً ومفصّلا في بقية أيام الثلاث والعشرين سنة التي عاشها صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي، فإذا ما أراد أنه أنزله من اللوح المحفوظ يأتي ب (همزة التعدية) وإذا أراد النزول والموالاة يقول: (نزّل) لأن فيها التتابع، وإذا نسبة لمن نزل به يأتي ب (نَزَل) لأن القرآن لم ينزل وحده بل نَزَل به الروح الأمين، إذن فكلها مُلتقية في أن القرآن نَزَل أو أنزِل، أو نُزِّل. وكلمة (نَزَل) تعطينا لمحة، وهو أنه جاء من أعلى، ويستقبله الأدنى. وساعة يطلب الحق منا أن ننصت لإنزال حكم يقول لنا عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151].
ومعنى (تَعالَوّا) أي ارتفعوا؛ لأننا نعيش على الأرض، وإياكم أن تشرّع الأرض لكم؛ لأن تشريع الأرض إذا لم يكن في ضوء منهج الله فهو حضيض. والله يريد تشريعاً عالياً.، ولابد لكم من أن تتلقوا من السماء أحكامكم؛ حتى لا تتيهوا ولا تضلوا في باطل تشريعات لا تدور في إطار منهج الله.
والحق يقول هنا: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهو قول صادق يصدق على القرآن فقط برغم أن كل الكتب السماوية السابقة كانت كتب منهج، وكانت المعجزة منفصلة عن المنهج؛ فمعجزة موسى عليه السلام- كما نعرف- هي العصا، ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميّز بأن معجزته عين منهجه، لأن كل دين من الأديان السابقة كان لزمن محدود، في مكان محدود. وجاء صلى الله عليه وسلم بالدين الجامع المانع، لذلك جاءت المعجزة هي المنهج، فلو أن معجزته صلى الله عليه وسلم كانت من جنس معجزات الأنبياء السابقين إلا لأن القرآن قالها وصارت خبراً، وكل منها تليق بالزمن المحدود والمكان المحدود.
لكن الإسلام جاء ليعم كل الأزمنة وكل الأمكنة، ولذلك لزم أن تكون المعجزة مستصحبة للمنهج؛ حتى يستطيع من يأتي بعد عصر النبوة إلى قيام الساعة أن يقول: مُحمد رسول الله وتلك معجزته.
والقرآن مُبارك، ونحن في أعرافنا حين نتكلم بالعامية نأتي بالكلمة التي هي من نفْح ونضح الاستعمالات الفصيحة التي سمعناها، فنجد من يقول: والله هذا الأكل فيه بركة؛ فهو مصنوع لاثنين وأكل منه أربعة وفاض وزاد . إذن،(البركة) أن يعطي الشيء أكبر من حجمه المنظور.
وبركة القرآن غالبة ومهيمنة، ولو قاس كل إنسان حجم القرآن بحجم الكتب الأخرى لوجد حجم القرآن أقل، ومع ذلك فيه من الخير والبر والبركات والتشريعات والمعجزات والأسرار ما تضيق به الكتب، ونجد من يؤلف ويفسر في أجزاء متعددة، ومع ذلك ما استطاع واحد أن يصل إلى حقيقة المراد من الله؛ لأن القرآن لو جاء وأفرغ عطاءه في القرن الذي عاش فيه الرسول فقل لي بالله: كيف تستقبله القرون الأخرى؟! إنه يكون استقبالا خاليا من العناية به لأنه سيكون كلاماً مكرراً.
إذن فقد بيّن فيه كل شيء ومنه أخذ كل إنسان وزمان قدر ذهنه، ولو أن القرآن يراد تفسيره لما فسّره أحد غير من انفعل له نزولاً عليه وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيستطيع واحد بعد ذلك أن يقول شيئا في التفسير؟! إذن لو فسره الرسول صلى الله عليه وسلم لجمّده لأنه لا يجرؤ أحد أن يأتي بتفسير بعد الرسول.
وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن عطاءات القرآن لا تتناهى، لذلك لم يفسّره. بل أوضح بما تطيقه العقول المعاصرة حتى لا ينصرفوا عنه. ولو كان القرآن قال: إن الأرض كرة وتدور حول الشمس، أكان يصدقه أحد؟ إن هناك حتى الآن من ينكر ذلك. ونجد القرآن يشير ويلمح إليها إلماحا خفيفاً إلى أن تتسع العقول لها. فيقول الحق: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} [الزمر: 5].
وما دام الليل يأتي وراء النهار، والنهار يأتي وراء الليل في شبه كرة؛ فالذي يأتي عليه الليل والنهار شكل الكرة. فكأن كلاً من الليل والنهار دائر وراء الآخر حول كرة، إذن فالحق يعطي اللمحة بميزان حتى تتسع العقول للفهم. ويقول القرآن: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 142].
وهذا قول واضح؛ لأن كل واحد منا يعرف المشرق والمغرب. لكن حين يقول الحق: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17].
أكان يفهمها المعاصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعم، لأنه ساعة ما يقول: إن الشمس أشرقت من المكان الفلاني، وغابت عن مكان آخر، فساعة شروقها عندك تغرب عندي، وساعة تغرب عندك تشرق عندي، وهكذا يصير كل مشرق معه مغرب، إذن فقد صدق قول الله {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين}.
ونعلم أن الشمس لها مشرق كل يوم، ومن زار في الصعيد المعبد الذي توجد به 365 طاقة- فتحة-- وتطلع الشمس في كل يوم من طاقة معينة ولا تطلع من الطاقات الأخرى يتأكد من أن الشمس لها في كل يوم مشرق. إذن هناك مشارق ومغارب، وصدق الله القائل: رب المشارق والمغارب.
إن القرآن يخاطبنا بأسلوب يحتمله العقل المعاصر، وإذا ما جدّ جديد نجد الأمر مكنوزاً في القرآن، ونجد تأويلا جديداً لا ينسخ التأويل الآخر ولكنه يرتقي به.
إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يفسر القرآن التفسير الكامل؛ لأنه كان لابد أن يفسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له، وإن فسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له فمعنى ذلك أنه لن يعطي العقول التي تأتي بعد غذاء من القرآن؛ لذلك ترك صلى الله عليه وسلم القرآن دون تفسير إلا في النزر اليسير. وتجد ذلك في آيات الكون، أما في الأحكام فالأمر محدد.
لكن في الأشياء التي يتجدد فيها العلم فقد تركها. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام عن القرآن: (لا تنقضي عجائبه) وكأنه يلفتنا إلى أن عجائبه لا تنقضي ولا تنتهي، وكل يوم يعطي عجائب جديدة. إذن فالقرآن مُبارك بحكم ما هو مكنوز فيه إلى قيام الساعة. وأنت تلتفت إلى الناس فتجدهم يتعبون في اكتشاف أسرار الكون، وتجد القرآن قد مسّ ما يبحثون عنه مسّاً خفيفاً.
{وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92].
وساعة تقول: (بين يدي الشيء) أي الشيء الذي يسبق، والكتب السابقة هي التي نزلت بين يدي القرآن أي قبله، والمقصود بها الكتب المعروفة المشهورة وهي التوراة والإنجيل إذ هما الكتابان الباقيان إلى الآن.
والقرآن يصدق الذي بين يديه ولا يعني ذلك تصديق المحرّف بل تصديق (الأصيل). ولذلك نجد عبد الله بن سلام وغيره حينما جاءوا للإسلام اعترفوا بذلك، ويقول عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انشرح صدري للإسلام، ولكني أعلم أن اليهود قوم بهت- أي أنهم مكابرون- فأنا أريد أن تسألهم عني قبل أن أسلم، فقال رسول الله لهم: ما تقولون في عبد الله بن سَلاَم؟ قالوا: حِبْرنا وابن حِبْرنا وشيخنا ورئيسنا... إلخ.
فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمداً رسول الله. هنا بدأوا في كيل السباب لسيدنا عبدالله بن سَلاَم فقال: ألم أقل لك يا رسول الله إنهم قوم بهت؟
وقوله الحق: {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أنك إذا ما أردت أن تعرف صدق هذه القضية فهات ما لا حاجة لهم فيه إلى تكذيبه، وستجد القرآن قد جاء موافقاً له.
مثال ذلك حين جاء القرآن بالرِّجْم. هم حاولوا أن يخففوا حكم الرَّجْم؛ لأن امرأة زنت وأرادوا أن يجاملوها. فرفعوا أمرها للنبي وقال بعضهم لبعض: إن حَكَم بعدم الرِّجم فهذا خير لنا ولها، ومن العجيب أنهم غير مؤمنين بمحمد بينما يريدون الحُكم منه، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: هاتوا الكتاب، ويأتون بالصحف الموجودة عندهم، فوجدوا آية الرَّجْم؛ إذن فالقرآن مُصدق الذي بين يديه من غير المكتوم، ولا المْحرَّف، ولا المُوَّوَّل.
وإذا ما نظرت إلى القضايا التي يلتفتون إليها، ولكنها تكر أمامهم خاطفة، تجد أنت هذه القضايا وسيلة يريد الله بها أن يكشف الفساد والكذب والتجبر، حتى لا يطمس أهل الباطل معالم الحق. ومثل هذه القضايا تحتاج إلى المُحقق اللّبق. ونجده سبحانه جاء في التوراة بمثل للأمة المحمدية، ويكرر هذا المثل في القرآن حين يقول سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وحين ننظر إلى كلمة (أشدّاء)، وكلمة (رُحماء)، نجد في ظاهر الأمر تناقضا في الطباع، أما المدقق المحقق فيعلم من هذا القول أن الإسلام لا يطبع المسلم على لون واحد؛ لأنه يريد منه كل الألوان، فلو خلقه شديداً لفقدته مواطن الرحمة، ولو فطره وخلقه رحيماً لفقدته مواطن الشدة. والإسلام يطلب من المسلم الالتزام بالقيم الروحية والمادية لتحرس كل منهما الأخرى؛ لأن المسلمين لو راحوا للمادة فقط لصارات حضارتهم شرسة، ولو راحوا للقيم لما استطاعوا أن يقيموا حضارة تبقى وتدوم، والحق يريد حضارة تجمع بين الاثنين؛ الروح والمادة، لذلك يجمع الإسلام بين الاثنين؛ الروح والمادة؛ لأن اليهود في فهمهم لما افتقدت الروح، والنصرانية في فهمهم لها غرقت في الروحانيات وافتقدت المادة، وجاء القرآن مُصدقًا لما بين يديه، وهكذا جاءت الآية بالبلاغ عن أهل الكتاب.
ويتابع البلاغ لأهل قريش قاطني مكة فيقول: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى}، ونعرف أن أم القرى تعني مكة، وقد حاول البعض أن يتخذ من هذه الآية حُجّة ليقول: إن القرآن قد نزل لجماعة العرب فقط، ولهؤلاء نقول: أنتم لم تحسنوا الفهم لمعطيات اللفظ، ولنسأل: ما الحَول أولاً؟. الحول هو المحيط الذي حول النقطة، أيّ نقطة وكل نقطة، وحول كل نقطة قُطْر وقد يكون القطر 20 كيلومترا، وقد يكون مائة كيلومتر، وكلما بعدت المساحة فهي حول هذه النقطة، إذن فكلمة الحول تشمل كل ما حوله، وحول كل مكان يشمل كل مكان.
ولماذا سميت أم القرى؟؛ إما لأن (هاجر) لما نزلت بابنها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع، وبعد ذلك تكاثر الناس فصارت هي أم القرى، أو لأن فيها الكعبة، وكل الناس يؤمّونها، أو لأن الحاجّ يأتيها من كل صوب كما يهب ويسرع الأبناء ويلوذون بأمهم: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92].
من- إذن- الذي يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزل مصدقاً لما بين يديه لينذر به أم القرى ومن حولها، ومن هم الذين يؤمنون بالآخرة؟ ولماذا جاء الربط بين أم القرى وما حولها وبين الذين يؤمنون بالآخرة؟. لأن أحداً لن يذهب لتعاليم القرآن ليأخذها وينفذها إلا من يؤمن بأن هناك يوماً نذهب فيه جميعاً إلى الآخرة.
لذلك يخاف فيهرب من المعاصي، ويرغب في الطاعة؛ لأن هناك ثواباً وعقاباً، أما الذي لا يؤمن بالآخرة فلا يسمعك ولا ينصاع ولا ينقاد لك حين تأمره بالعفة؛ لأنه لا يرى ثواباً أو عقاباً ولا ينتهي عن السرقة أو الكبر أو الموبقات جميعاً؛ لأنه لا يخاف من الآخرة؟.
إذا فالذي يملكنا جميعاً هو الآخرة والخوف منها، ومن لا يؤمن بالآخرة يقول أنا غير مُلزم بشيء، ولا شيء يقيّد حريتي. ثم لماذا أقيّد حريتي؟!
وهنا نقول: أنت تأخذ الأمر بسطحية، فعلى فرض أن في قوانين السماء ما يقيد حريتك، لكنه لا يقيد حريتك وحدك، إنه يقيد حرية الكل، فإن قيد حريتك بالنسبة للناس، فهذه القوانين السماوية تقيد حرية الناس بالنسبة لك، فحين ينهاك الدين عن السرقة، وعن النظر إلى محارم الغير فهو يقول للناس كلها: لا تسرقوا من فلان ولا تنظروا إلى محارم فلان، وبذلك تأخذ حقك كاملاً، وبهذا تعيش في نظام متساوٍ لا تتعب فيه؛ لأن الجاري والمطبق عليك جارٍ على غيرك مع جريانه عليك.
لكن من يؤمنون بالآخرة هم كل واحد يريد أن ينجي نفسه من العقاب، ومن الوعيد. ويدخل نفسه في الوعد وفي الثواب. فمثلاً- ولله المثل الأعلى- حين نقول للولد: اذهب لتلقى العلم، قد يرد: أنا لا أريد شهادة، فيجبره والده في البداية أن يستذكر، ثم نجد الشاب بعد مشوار المذاكرة يخاف من الرسوب وأن عليه أن يجتهد وأن ينجح. أما إن لم يوجد امتحان في آخر العام فالمذاكرة وعدمها سواء لديه. فمن أقرب- إذن- إلى الاستجابة لنداء العدل والخير؟ إنه من يؤمن بالآخرة.
{والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92].
ولماذا جاء بالحفاظ على الصلاة هنا؟. نحن نعلم أن الصلاة، هي عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، وحين نحلل الأمر تحليلاً طبيعياً نجد أن الناس تنفر من الطاعات لأنها تأخذ زمناً يحبون أن يقضوه في اللعب، وحين نقول لواحد مثلاً: اترك عملك وصل. قد يرد: لا؛ لأني حين أترك عملي يضيع عليّ كذا. ولو كان طبيباً لذكر عددا من مرضى سيكشف عليهم، ولو كان عاملاً لقال: إن توقف الآلة في أثناء الصلاة يجعلني أخسر كثيراً.
وهنا نقول: يا أخي تعال إلى الطاعة، والبركة تعوض لك ما تظن أنك تخسره، وإذا نظرت إلى أركان الإسلام تجدها بالنسبة لانشغال الزمن بها لا تأخذ الكثير من الوقت؛ فشهادة أن لا إله إلا الله مُحمد رسول الله لا تحتاج منك إلا إلى أن تقولها مرة واحدة، وهذا ركن لم يستغرق زمناً طويلاً بالنسبة لأدائه، والزكاة لا تأخذ منك إلا ما تعطيه يوم الحصاد، وهذا يستغرق وقتا قليلا، وكذلك زكاة المال آخر العام، والصوم شهر في السنة، وإذا كان زمن الصوم أوسع قليلاً إلا أنه وقت لا يمر إلا كل عام. والحج مرة في العمر إن كنت مستطيعاً.
إذن أنت تجد التكاليف الركنية في الإسلام بالنسبة للأزمان وقتها يسير وقليل لمن يحرص عليها، لكن الصلاة تؤدي في كل يوم خمس مرات، ورقعتها بالنسبة للزمن أوسع. وأداؤها يحتاج إلى طهارة من حدث أو جنابة وكذلك طهارة المكان؛ لذلك جاءت الصلاة ركناً أصيلاً في الإسلام. وأنت لا تعرف الإنسان إن كان مسلماً إلا إذا سمع الأذان وقام يصلي. لذلك هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم؛ لأن الأركان الأخرى أزمانها محصورة، ومع أنها كذلك إلا أنها أخذت من التشريع حظها من الركنية الأصيلة.
إنّ كل تشريعات الإسلام أركاناً وفروعاً جاءت بالوحي إلا الصلاة؛ فقد جاءت بالمباشرة؛ لأن الصلاة دعاء الخالق خلقه لحضرته؛ لذلك كان لابد أن يكون تشريعها بهذه الصورة الفريدة، تشريعاً جاء بالحضرة الإلهية.
وشيء آخر: ما دامت الصلاة هي العمدة في الدين فكأن الصلاة تقول للأركان الأخرى: أنا أجمعكم وأضمكم وأشملكم جميعا؛ فالمسلم في أثناء الصلاة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والمسلم يصوم في أثناء الصلاة عن شهوتي البطن والفرج بل وتكون الصلاة صوماً لا عن الأكل والشرب، وشهوة الفرج فقط بل هي إمساك عن كل حركة، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة تعني أن تخرج بعضاً من مالك، والمال فرع العمل، والعمل فرع الوقت. وأنت حين تصلي إنما تزكي بالأصل وهو وقت العمل، وأنت في الصلاة تتوجه إلى الكعبة كما يتجه الحاج والمعتمر، إذن ففي الصلاة كل أركان الإسلام مجتمعة.
إذن فأهمية الصلاة أنها قد اندمج فيها كل ركان الإسلام، وبها يتحقق الاستطراق الاجتماعي للخلافة في الأرض؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي مواهب متعددة، وطاقات متعددة، ولا يمكن لخليفة واحد في الأرض أن يكون مجمع هذه المواهب بل لابد أن تتفرق المواهب في المتفرق والشتيت من الناس، فلا يمكن أن يكون الإنسان الواحد مهندساً وطبيباً ومحامياً وصانعاً وحارثاً وزارعاً وتاجراً. ولذلك وزع الله سبحانه وتعالى مقتضيات الخلافة في الأرض على الخلفاء في الأرض توزيعاً يجعل الالتقاء ضرورياً وليس تَفضُّلياً، بحيث تكون أنت في حاجة إلى مواهب ليست عندك فتذهب لصاحبها.
وصاحبها أيضا يحتاج إلى مواهب عندك ليست عنده فيأتي إليك.
وانظروا إذا شاء واحد أن يستغني في بعض الأشياء التي يقوم بها الغير كم يتعب؟، فإذا ما أتعبه السباكون وآلموه في الأجور. وحاول تعلم السباكة، ولابد له أن يتعلمها من سباك. وكذلك حياكة الملابس. ومعنى ذلك أن الله أبقى المواهب متفرقة مشتتة في الخلق ليحتاج كل خلق إلى كل الخلق. والناس لا تنظر إلى جهة التميّز إلا إلى شيء واحد هو: الغِنى.
ونقول الغِنى المالي أو العقاري هو نوع فقط من المواهب؛ لأنك مثلاً إذا نظرت إلى العَالِم الذي يظل عشرين عاماً يستوعب العلم، ثم يقابله من يستفتيه في فتوى فيقولها له مجاناً، ولو علم هذا السائل ماذا تكلف الأستاذ الذي أفتاه طوال عشرين سنة بحثاً في الكتب وسماعاً من الأساتذة واستنباطاً من الأحكام لدفع مكافأة لهذه الفتوى؛ لأن العالِم كان مُسخراً لمدة عشرين عاماً لتأخذ أنت الفتوى في نضجها النهائي في يسر وسهولة وتنتفع بها.
وحين نرى من يمسح الحذاء، ونجد صاحب الحذاء وهو يمد وهو يمد رجله والاخر يمسح الحذاء تقول لنفسك: لماذا كل هذا الزهو لصاحب الحذاء، ولماذا هذا الانكسار لماسح الأحذية؟. وأقول: أنت رأيت صاحب الحذاء وقت راحته، ورأيت ماسح الأحذية وهو في وقت عمله. ولو عرفت كيف جاء صاحب الحذاء بالنقود التي سيدفعها لماسح الأحذية لعلمت أنه كان مسخراً له ساعة كان يعمل ليحصل على النقود ليعطي مها ماسح الأحذية، ولذلك قال الحق: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32].
والناس لا تنظر في التسخير إلا للغني والفقير، ونقول: خذوا التسخير على أن كل واحد في الكون مُسخّر في الموهبة التي عنده، ومُسخّر له في المواهب التي ليست عنده. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يربط الناس بهذا ربطاً قسرياً وليس تفضّلياً؛ لأن من عنده أولاد يريدون أن يأكلوا وامرأة تحتاج إلى أن تَطْعَم ولا يملك نقوداً، وليس أمامه من عمل سوى نزح المجاري، فيأتي بأدوات نزح المجاري، ويؤدي العمل ليعول من يعولهم، ولولا ارتباطه بضرورة الحياة له ولمن يعول لما عمل في مثل هذا العمل، إذن فهو مربوط ربطاً ضرورياً ليؤدي خدمة في الكون. ولو كان كل البشر يعيشون في رغد العيش أكان هناك من يتطوع لينزح المجاري؟ لا يحدث ذلك أبداً، لأنه عمل لا يأتي بالتفضل بل بالاحتياج.
وهكذا نرى أن الخلافة في الأرض تقتضي استطراقاً، وهذا الاستطراق لا يدوم كثيراً؛ فمرة تكون القوة لإنسان ثم تذهب منه، ومرة يكون الثراء لإنسان ثم ينحسر عنه هذا الغِنى، ولذلك أخبرنا الحق أنه جعل الأيام دُوَلاً بين الناس ليستقيم العالم بارتباط الضرورة في بعض الأعمال، وإن بدا لنا أن هناك مواهب تميز بين الناس في شكلهم، وفي هندامهم، وفي مطيتهم، تجد الطبيب يعمل في أكثر من مكان، وإن سار على رجليه لتعب، لذلك يشتري سيارة، ويظن من يراها أن السيارة امتياز لا مثيل له، متناسياً أن هذه السيارة تقضي مصالح الرجل ليخدم الآخرين.

مثال آخر: أنت إن نظرت إلى كوب الشاي الذي تشربه بمزاج وليس لضرورة حيوية، وإن جاءك من يقدم لك الشاي ليقول: إن الشاي قد نفد من المقهى، فتعطيه جنيهاً وتقول: هات كيساً من الشاي من عند البقال، ويذهب الغلام ليحضر علبة الشاي فيجد البقال وكأنه قد جهزها له، وأنت لا تعرف أن علبة الشاي هذه قد أخذت وقتا وعملا من اثنين أو ثلاثة لتصل إليك؛ لأن الحق قد كلف أناساً ليزرعوا الشاي في بعض البلاد، وأناساً آخرين يستوردونه، ثم تأتيك علبة الشاي لتصنع منها كوباً لتشربه.
إذن فمسألة كلها تسخيرات؛ لذلك توجد الفوارق الاجتماعية التي تقتضيها أعمالنا، ويذيب الحق هذه الفوارق بأن جعل في الصلاة استطراقاً للجميع، وتلتفت ساعة يقول المؤذن:(الله أكبر) أن الكل قد جاء، الغني قبل الفقير، والخفير مع الأمير، ويخلع الجميع أقدارهم خارج المسجد مع نعالهم ليتساوَوْا في الصلاة، ومن له رئيس يتكبر عليه يراه وهو ساجد مثله لله، فتريحه لحظة استطراق العبودية.
ولنفرض أن كلاً منا سيصلي بمفرده في الصلاة اليومية، لكن عندما يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة، يأمرنا الحق أن نَذَر ونترك كل شيء لنؤدي صلاة الجمعة معاً. ويرى الضعيف عظيماً يتضرع مثله إلى الله، ويرى القوي نفسه بجانب الضعيف، وحين يعود كل منا إلى عمله تسقط أقنعة القوة والزهو؛ لأننا جميعاً نقف أمام خالق واحد وكلنا سواء.
إن هذا هو الاستطراق الاجتماعي؛ لأننا حين نرقب بعضنا في أثناء الصلاة نجد أنفسنا في حضرة الرَّب الذي أعد لنا الكون، وسخّره لنا، وأعطانا الطاقات، وأعطانا المواهب، وإذا تأملنا واحداً له وظيفة كبيرة جداً، فأنت حين ترغب في لقائه تكتب التماساً، ويُنْظَر في الالتماس، فإمّا أن يوافقوا وإمّا لا يوافقوا على لقائك به. وإن وافقوا يسألوك: في أي أمر ستتكلم؟ وسيُحدد لك الوقت الذي ستجلس فيه معه وليكن ثلاث دقائق مثلا، وحين تجلس إليه وتنسى نفسك يقوم هو ليدلك على أن المقابلة انتهت، لكن ربنا يقول لنا: تعالوْا لي في أي وقت، وكلموني في أي شيء، وأنا لا أملّ حتى تملُّوا، وأنتم يا عبيدي مَنْ تنهون المقابلة، وهذا عطاء كثير جداً. يغدقه المولى عزوجل على عباده.
فهل هناك ربوبية أفضل من هذه؟.
إذن فالصلاة إذا نظرت إليها وجدت أنها: جماع كل فضائل الدين وفيها كل الفضائل للمجتع؛ لذلك جعلها الله عماد الدين.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى...}.