فصل: تفسير الآية رقم (126):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (126):

{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}
و(هذا) مقصود به ما تقدم من آيات. من كتاب الإسلام وهو القرآن، وذلك ما يشرح الصدر القابل للإِيمان، والقرآن هو الحامل لمنهج الإسلام؛ فمرة تعود الإِشارة إلى القرآن أو إلى الإسلام. وليس هناك خلاف بين القرآن والإسلام.
{وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً}. و(الصراط) هو الطريق السَّوي، والطريق السَّوي قد يكون مع استوائه معوجاً لكن هذا الطريق مستوٍ ومستقيم، ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للغاية. وعلى هذا فصراط لا تغني عن مستقيم، ومستقيم لا يغني عن صراط، بل لابد من صراط معبد ومستقيم ليكون أقصر طريق إلى الغاية وبلا متاعب، إننا- نحن البشر- نرى المهندسين وهم يقيسون الأبعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات، وبعد ذلك يربطون البدايات بالغايات.
إنهم يحضرون آلات معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده. وقد يعترض استقامة الطريق عقبات صبعة شديدة كَأْدَاء كجبل مثلاً، فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في الجبل ليضمنوا له الاستقامة، وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق. فإن جاء المهندسون وقالوا نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك. وإلاّ جعلوا الطريق متعرجاً أو حلزونيًّا؛ وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة عليها.
لكن إذا كان الصراط قد مهده رب، أتوجد له عقبة؟ طبعاً لا، إذن فهو طريق مستقيم. ولنلحظ أنه سبحانه قال: (صراط ربك) أي أنه جاء بها من ناحية الربوبية، والربوبية عطاء الرب، إنه سيد، ومربٍ، وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم في الوجود معونة ميسرة سهلةً. وهكذا نعرف أن طريق الحق هو الصراط المعبد المستقيم، أي الذي يصل بين البداية والنهاية. فإن كان الطريق الذي نتبعه مستقيماً ومعبداً، وسهلاً، فلماذا لا نتبعه؟
(هذا صراط ربك). ونلحظ أنه سبحانه قد أسند الرب لمحمد، أي من أجل خاطره جعل الصراط مستقيماً؛ لأنه سبحانه هو المتولي لربوبيتك يا محمد، وسبحانه رب الكون كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عين أعيان الكون. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126].
(فصّلنا) أي أنّ كل شيء في هذا الكون مخلوق لما يناسبه، وكل قضية من قضايا الكون خلقها ربنا لتحقق الفائدة منها بدون مشقة، وبدون عنت. والمنهج الذي أنزله الله إنما يصلح الكون ويجعل كل شيء فيه مناسباً لمهمته؛ لأن الله إله كل الناس وهم بالنسبة إليه سواء لأنه لم يتخذ لا صاحبة ولا ولداً. ولا يعطي سبحانه الحياة لمخلوق ويوجده في الكون، ثم يعرّيه من أسلحة الحركة في الحياة، ولكل إنسان سلاح من موهبة أو قدرة وبذلك تتعدد الأسلحة والمواهب والقدرات، فمن يريد أن يبني بيتاً، أنقول له: اذهب إلى كلية الهندسة لتتعلم كيف ترسم البيت وتخططه؟ أنقول له: تعلم كيف تكون فنيًّا وكهربيًّا ونقاشاً؟ إن الفرد الواحد لا يمكن أن يتعلم كل هذه التخصصات، لذلك وزّع الله المواهب على خلقه؛ هذا عنده موهبة ليعمل لنفسه، ويعمل لغيره.
وبعد ذلك يأتي غيره ليؤدي له عملاً ليس له فيه موهبة بحيث يتكامل المجتمع كله ولا يتكرر أفراده.
ولو كنا تخرجنا جميعاً كأطباء أو مهندسين لما نفعت الدنيا، ومن نقول عليهم: إنهم فشلوا في التعليم يقومون بأعمال في الحياة ما كنا نستطيع الحياة بدونها؛ فقد خلقهم الله بقدرات عقلية محدودة ليهبهم قدرات أخرى تصلح في مهمات أخرى. وإن تعلم المجتمع كله تعليماً عالياً لصار الهرم مقلوباً. وإن انقلب الهرم فمعنى هذا أن أجراءً منه ستكون بغير دعائم في الأرض. لذلك نجد أن هناك إعداداً عقليا أراده الحق لكل واحد من الخلق، ولا نستطيع أن نقول لكل إنسان: تعلم وتخرج في الجامعة ثم اكنس الشارع. وكن في الغد حداداً. لذلك ربط الحق كل عمل بالحاجة إليه، ومن يحسن استقبال قدر الله في نفسه يُعطِ الله له من العمل كل الخير.
ونلحظ الآن أن من يعمل موظفاً في الدولة يحيا في راتب محدود، بينما تجد السباك يقدر عمله بأجر يحدده هو، ويبقى الويل والتعب لمن كان تقدير عمله في يد غيره {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
وانظر كل قضية في الكون، لم يُدخل ابن آدم فيها أنفه تجدها مستقيمة، ولا يأتي الفساد إلا في القضايا التي أدخل ابن آدم أنفه فيها بدون منهج الله. فإن دخلت في كل مسألة بمنهج الله يستقيم الكون تماماً. ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى النظام الأعلى في كونه والذي لا تدخل لنا فيه. ولا سيطرة عليه؛ السموات، والكواكب، والشمس، والقمر، وحركة الأرض، كل تلك الكائنات نجد أمورها تسير بانتظام، ولذلك يقول لنا الحق سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7-8].
فإن أردتم أن تستقيم أموركم في شئونكم وأحوالكم الاختيارية فادخلوا فيها بمنهج الله؛ لأن الأشياء التي تدار بمنهج الله بدون أن يتدخل فيها البشر تؤدي مهمتها كما ينبغي.
فعلى الإِنسان- إذن- أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى النتائج، ولابد أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية. وأقصر الأمور أن تسأل نفسك: أنت صنعة من؟ صنعة نفسك؟ لا، هل أنت من صنعة واحد مثلك؟ لا. وهل ادّعى واحد في كون الله- وما أكثر ما يُدَّعى- أنه خلقك أو خلق نفسه؟ لا. بل أنت وهو وكل الكون من صنعة الله، فدعوا الله يقرر قانون صيانتكم، وسيظل الناس متعبين إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
ولم يقل فصلنا الآيات لواحد، بل قال (لقوم) حتى إذا ما مال أو غفل واحد في الفكر بعدله غيره. وكلنا متكافلون في التذكير، وهذا التكافل في التذكير يعصم كل مؤمن من نفسه؛ فإن حصل عندي قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري. وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود كله وجدتها لا تتخلف أبدا، ولابد من تذكر الغاية التي جاء بها قوله الحق: {لَهُمْ دَارُ السلام..}.

.تفسير الآية رقم (127):

{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}
أي أن لهؤلاء المتقدمين الذين صبروا وصابروا ورابطوا، لهم دار السلام، وهو أسلوب مكون- كما يقال- من مبتدأ وخبر، الا أن المبتدأ أُخرِّ هنا، والخبر تقدّم، وكان المنطق أن يقال: (دار السلام لهؤلاء) ولكن الأسلوب القرآني جاء ليقدم الخبر المكون من الجار والمجرور ومتعلقه، ويؤخر المبتدأ وذلك لخصوصية أرادها الحق، وهي أن هذه الدار لهم وحدهم دون غيرهم فهي خالصة لهم يوم القيامة و(دار السلام) مكونة من كلمتين، (دار) ومعناها ما يستقر فيه الإنسان، ويجمع هذا المكان كل ما تتطلبه حياة الإنسان، وهي أوسع قليلاً من كلمة (بيت)؛ لأن البيت مكان يعد للبيتوتة، لكن كلمة (دار) تعد للحياة ولما يتعلق بالحياة من مقوماتها.
و(دار) هنا مضافة إلى السلام، وهو- كما نعلم- اسم من أسماء الله، إذن فالحق هنا يوضح: لهم دار منسوبة للسلام وهو الله، وهم مستحقون لها جزاءً منه، فإذا كانت الدار التي وعدها الله هي دار السلام وهو الله، فلابد أن فيها متعاً وامكانات على قدر فضل المضاف إليه وهو الله، ولماذا لم يقل الله: (دار الله)؛ لأن الله أراد أن يأتي بوصف آخر من أوصافه؛ ليعطيهم السلام والأمن والاطمئنان.
وهناك فرق بين دور الدنيا، وهذه الدار؛ فدور الدنيا فيها متع، ولكنك فيها بين أمرين: إما أن تفوت أنت ما هي فيه، وإما أن يفوتك ما فيها، ولذلك لا يوجد في الدنيا أمن؛ لأن غيرك قد يناوئك فيها ويعاديك، وقد تأتي لك مكدرات المرض، وقد تأتي لك معكرات الأعداء، كل ذلك ينغص عليك الأمن والسلام في الدنيا. ولذلك أراد الحق ان تكون لك الآخرة دار السلام مادمت قد آمنت، وأن تأمن فيها من كل الآفات التي كانت في دار الدنيا. {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127].
وكأن دار السلام ليست وعداً من الله بأن تكون، ولكنها جاهزة معدة عند الله ومحفوظة لديه تنتظر المؤمنين، وسبحانه قد خلق جناناً تتسع لكل خلقه على فرض أنهم آمنوا، وجعل من النار مثل ذلك على قدر خلقه، على فرض وتقدير أنهم كفروا. وسيأخذ المؤمنون ما أعد لهم من دور الإيمان ويرثون ما أعد للكافرين من دور الإيمان على فرض أنهم آمنوا في الدنيا. {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11].
فلم يخلق الحق جناناً محدودة، لا، بل أعد وهيأ من الجنان ما يتسع لكل الخلق إن امنوا، ومن النيران ما يتسع لكل الخلق إن كفروا. ومادامت العندية منسوبة إلى الله فهي عندية مأمونة.
وبعد ذلك أيتخلّى الله عنهم ويكلهم إلى ما أعدّه لهم؟. لا، بل قال: {.. وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127].
فهناك إعداد، ثم قيومة ولاية الله، وهذه القيومة لله، هي للمؤمنين في الدنيا، لكن فلنلاحظ أن الولاية في الدنيا قد تكون فيها أسباب مخلوقة لله، لكن في الآخرة هناك الجزاء الذي لا يكله الله للأسباب، فتكون الولاية مباشرة له؛ لأنه سيعطيك فوراً، وإذا خطر أي شيء بباللك تجده حاضراً: فهي متعة على غير ما ألف الناس؛ لأن الناس يتمتعون في الدنيا بواسطة الأسباب المخلوقة لله. ولكن في الآخرة فلا ملكية لأحد حتى في الأسباب، لذلك يقول سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم..} [غافر: 16].
وستجد الإِجابة هي قوله- سبحانه-: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
والحق هو الولي الذي يليك، قرباً تنتفع به، فلا تضطر حتى أن تنادي عليه ليأتي لك بالمنافع ويدفع عنك المضار كما عمل لك في الدنيا ووفقك للعمل وهو وليك في الآخرة بحسن الجزاء لك بسبب ما كنت تعمل؛ فالعمل في الدنيا هو الزرع وهو الحرث لثمرة الآخرة. ولكن أيعطينا الله على قدر أعمالنا؟ لا، بل يعطينا على قدر صبرنا؛ لأنه إن كان العطاء على قدر الأعمال، إننا لو حسبناها لما أدينا ثمن عشر معشار نعم الله علينا في الدنيا. فكأننا نعمل في الدنيا لنؤدي شكر ما أفاء علينا وأعطانا من النعم، فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأعطانا بعد ذلك ثواباً فهو الفضل منه، ولذلك يوضح الحق لنا: إياكم حين توفقون في العمل أن تفتتنوا بأعمالكم، بل عليكم أن تتذكروا ان ذلك فضل من الله: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وقد شرح النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر وقال: (لن يُدْخِل أحداً منكم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة.).
إذن المسألة كلها بالفضل من الله، ولكن فضل الله شرطه العمل الصالح؛ فأنت تعمل العمل الصالح، ويعطيك ربنا أضعافه، وبطبيعة الحال فعملك لن ينفع جلاله أو جماله أو كماله أو يزيده صفة أو يزيده ملكاً، لكنه يعطيك على ما عملته لنفعك ولنفع بني جنسك.
ولذلك نجد الإِمام الرازي- رضي الله عنه- يقول: إن العمل في ذاته يورث الذات شيئا من الصفاء الذي ترتاح له وتسعد به، حتى تجد الجزاء في الراحة، والراحة النفسية هي الأمر المعنوي الذي يوجد في بنية مادية هي قالبك. فساعة يوجد شيء في النفس فهو يؤثر في القالب أغياراً، فإذا غضب الإنسان فهذا الغضب يظهر أثره في البينة نفسها فيحمر الوجه، ويرتعش الإِنسان للانفعال بالغضب، والغضب أمر معنوي لكنه أثّر في البينة، وكذلك إذا ما حدث ما يسرّك، يظهر ذلك في البينة أيضاً؛ فتشرق وتهلل أساريرك. إذن فالعمل يؤثر في البينة، والبينة تؤثر في العمل.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ...}.

.تفسير الآية رقم (128):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
وساعة تسمع (يوم) اعرف أنها (ظرف زمان)، أي أن هناك حدثاً، وقوله الحق: (ويوم يحشرهم جميعاً) أي اليوم الذي يقف فيه الجميع ويحشدون، وحين ننظر إلى ما بعدها نجد أن الحدث لم يأت، ولكن جاء (يا معشر الجن) وهذا (نداء). فكأن الحدث هو النداء نفسه، والنداء يقتضي مناديًّا، وهو الحق سبحانه، ومنادى وهو معشر الجن والإِنس، وقولاً يبرز صورة النداء. فكأن العبارة هي: يوم يحشرهم جميعاً فيقول يا معشر الجن والإِنس، و(الحشر) هو الجمع، و(المعشر) هم الجماعة المختلطة اختلاط تعايش، بمعنى أن يكون فيهم كل عناصر ومقومات الحياة، وقد يضاف المعشر إلى أهل حرفة بخصوصها؛ يا معشر التجار، يا معشر العلماء، يا معشر الوزراء. لكن إن قلت: يا معشر المصريين فهي جماعة مختلطة اختلاط تعايش ومعاشرة. {يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} [الأنعام: 128].
و(استكثر) أي أخذ منه كثيراً، كمن استكثر من جمع المال، أو استكثر من الأصدقاء؛ فمادة (استكثر) تدل على أنه أخذ كثرة. وماذا يعني استكثارهم من الإنس؟. نحن نعلم أن من الجن طائعين، ومنهم عاصون، والأصل في العصيان في الجن (إبليس) الذي أقسم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
فكأن الحق يوضح: أنكم معشر الجن قد حاولتم جاهدين أن تأخذوا الإنس إلى جانبكم واستكثرتم بهم، فبعد أن كان العاصون فقط من شياطين الجن وجد عصاة من الإنس أيضاً، واستكثرتم منهم، بأن ظننتم ان لكم غلبة وكثرة وعزاً، لأنهم إذا أطاعوكم في الوسوسة أصبحت لكم السيادة، وذلك ما كان يحدث، فكان الإنسان إذا ما نزل وادياً مثلاً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي- من الجن- ويطلب أن يحفظه ويحفظ متاعه، وحينما يوسوس له شيء يسارع إلى تنفيذه، وهذا استكثار. {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128].
وكذلك لم يستمتع الجن والإنس فقط، بل استمتع أيضاً بالجن، وهكذا نجد تبادل استمتاع من خلف منهج الله، لهؤلاء إغواءٍ وسيادة، يأمرونهم بعمل الأشياء المخالفة لمنهج الله، وهؤلاء يستمتعون بهم يحققون لهم شهواتهم في صور تدين، فيقولون لهم: اعبدوا الأصنام، واعبدوا الشمس، واعبدوا القمر، فيفعلون. وذلك يرضي فيهم غريزة الانقياد التديني؛ لأن كل نفس مفطورة على أن ترتبط بقوة أعلى منها؛ لأن الإنسان إذا نظر لنفسه وإلى أقرنائه وجدهم أبناء أغيار؛ الواحد منهم يكون اليوم صحيحاً وغداً مريضاً، ويكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، فمال الذي يضمن للنفس البشرية حماية من هذه الأغيار؟.
إن الإنسان يحبّ أن يلجأ ويرتبط بقَويّ؛ حتى إذا جاءت هذه الأغيار كانت سنداً له.
إلا أن هناك من يصعدهُا في التدين وهؤلاء هم الذين يركنون إلى الإيمانية لله ويعتمدون عليه سبحانه ويقبلون على الإيمان بالله بمطلوبات هذا الإيمان في (افعل) و(ولا تفعل). لكن الأشياء التي يعبدونها من دون الله ليس لها مطلوبات أو تكاليف إلا أن تكون موافقة لأهواء النفس، وهذا الإِكذاب للنفس أي حمل النفس على الكذب لا يدوم طويلاً؛ لأن الإنسان لا يغش نفسه؛ فالإيمان يحمي النفس إذا جاء أمر فوق أسبابك، وليس هناك من يقول: يا شمس أو يا قمر، يا شيطان أو يا صخر! لا يمكن؛ لأنك لن تكذب على نفسك أبداً. ومثال ذلك قول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ..} [يونس: 12].
وهنا يقول الحق عن الإنس: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا..} [الأنعام: 128].
أي أن هذا الاستمتاع أمداً، هو أمد الأجل أي ساعة تنقضي وتنتهي الحياة، ثم يبدأ الحساب فيسمعون قول الحق: {.. قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} [الأنعام: 128].
و(الثواء) هو الإقامة، و(مثواكم) أي إقامتكم، (إلا ما شاء الله) وهذا الاستثناء كان محل نقاش بين العلماء، دار فيه كلام طويل؛ فهناك من قال: إن الحق سبحانه وتعالى قال: (إلا ما شاء الله) أي أن له طلاقة القدرة والمشيئة؛ فيفعل ما يريد لكنه حسم الأمر وحدد هو (ما شاء) فقال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ..} [النساء: 48].
وهنا حدد (ما شاء)، أي أن ما شاء يكون في غير الشرك به فإن الشرك لا يكون محل غفران منه سبحانه. أو يجوز (إلا ما شاء الله) أن بعضاً يفهم أنه بمجرد البعث والحشر ستكون النار مثواهم، ولكن المثوى في النار لن يكون إلا بعد الحساب، وهذا استثناء من الزمن الخلودي، فلن يحدث دخول للجنة أو للنار إلا بعد الحساب. فزمن الحساب والحشر مستثنى وخارج عن زمن الخلود في الجنة أو النار.
ونحن نجد أيضاً {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} في سورة هود حيث يقول الحق: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106-108].
إذن فهناك الاستثناء في النار والاستثناء في الجنة، فقول الحق: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فمجيء الاستثناء بعد الوصف بالخلود، يدل على أن الخلود ينقطع مع أنه قد ثبت خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار للأبد من غير استثناء فكيف ذلك؟
والرد على هذا أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار، وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم ولعنهم وطردهم وإهانته إياهم.
وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما أكبر منها واجل موقعا، وهو رضوان الله كما قال: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} فلهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهذا هو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: (عطاء غير مجذوذ) ومعنى قوله في مقابلته {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أن ربك يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي اهل الجنة الذي لا انقطاع له.
ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ}. حكيم في أن يعذب، عليم بمن يستحق أن يعذّب، ومقدار عذابه، وعليم بمن يستحق ان يثاب وينعم، وبمقدار ثوابه ونعيمه، وحكيم في أن يرحم. ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ..}.