فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (115):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)}
ونلحظ أنهم لم يؤكدوا لموسى رغبتهم في أن يلقي هو أولا عصاه. ولكنهم أكدوا رغبتهم في أن يكونوا هم أول الملقين. فجاءوا بضمير الفصل وهو(نحن) الذي يفيد التأكيد.
ونعلم أن مَن يعقِّب ويكون عمله تاليا لمن سبقه، فإن فعله هو الذي سيترتب عليه الحكم. ولابد أن يكون قوي الحجة. هم يريدون أم يكونوا هم المعقبين، وأن موسى الذي يبدأ، لكن عزتهم تفرض عليهم أن يبدأوا هم أولاً؛ لذلك جاءوا بالعبارة التي تحمل المعنيين: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115].
فعلم موسى أنهم حريصون، على أن يبدأوا هم بالإِلقاء فأتوا بكلمة(نحن). وفكر موسى أن من صالحه أن يلقوا هم أولاً؛ لأن عصاه ستلقف وتبتلع ما يلقون؛ لذلك يأتي قوله سبحانه: {قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا...}.

.تفسير الآية رقم (116):

{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}
هم- إذن- سحروا أعين الناس، والسحر- كما نعلم- لطف حيلة يأتي بأعجوبة تشبه المعجزة. وكأنها تخرق القانون، وهو غير الحيلة التي يقوم بها الحواة؛ لأن الحواة يقومون بخفة حركة، وخفة يد، ليعموا الأمر على الناس. لكن (السحر) شيء آخر، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى خلق كل جنس بقانون؛ خلق الإِنس بقانون، وخلق الجن بقانون، وخلق الملائكة بقانونها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ...} [المدثر: 31].
وكل قانون له خصائصه ومميزاته التي تناسب عنصر تكوينه، فالإِنسان- مثلاً- لأنه مخلوق من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلال جدار؛ لأنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة وراء الجدار الذي تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ولا طعمها إلى فمك؛ لأن الجدار يحول بينك وبين ذلك، لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذي تستند عليه لكان من الممكن أن يتعدى أثرها لك؛ لأن النار إشعاعات تنفذ من الأشياء، ولأن الجن مخلوق من نار، لذلك نجد له هذه الخاصية. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ...} [الأعراف: 27].
فإذا كان الجن له قانون والإِنس له قانون، فهل القانون هو الذي يسيطر؟ لا، بل رب القانون هو الذي يسيطر لأنه جل وعلا فوق القانون. فيأتي الله للإِنس ويُعَلّم واحداً منهم بعضاً من أسرار كونه ليستذل الجن لخدمته، برغم ما للجن من خفة حركة، فسبحانه يوضح: لا تظن أيها الجن أنك قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذي يكونك لأن هناك القادر الأعلى وهو المعنصر لك ولغيرك، بدليل أن الإِنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه الله بعضاً من أسرار كونه. ولننتبه دائماً أن العلم بأسرار تسخير الجن هو من ابتلاءات الحق للخلق؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ...} [البقرة: 102].
فكأن هاروت وماروت وهما يعلّمان الإِنسان كيف يمارس السحر، ينصحان الإِنسان الذي يرغب في أن يتعلم السحر أولاً، ويوضحان له أنهما فتنة أي ابتلاء واختبار ويقولان له: {فَلاَ تَكْفُرْ}، مما يدل على أن كل من يتعلم السحر؛ إن قال لك: إني سأستعمله في الخير فهو كاذب؛ لأنه يقول ذلك ساعة صفاء نفسه تجاه الخلق، لكن ماذا إن غافله إنسان من أي ناحية وغلبه على بعض أمره وهو يملك بعضاً من أسرار السحر؟ هل يقدر على نفسه؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل، لكن هل يظل أميناً وقت الأداء؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه في الانتقام من غيره، وبذلك يضيع تكافؤ الفرص، ونعلم أن تكافؤ الفرص هو الذي يحمي الناس، ويعطي بعضهم الأمن من بعض، ويُلزم كل إنسان حدّه.
فإذا أخذ إنسان سلاحاً ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من لا يملك مثله، والإِنسي الذي يأخذ سلاح استخدام الجن إنما يأخذ سلاحاً لا يملكه أخوه الإِنسي، وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من غيره وفي هذا ابتلاء؛ لأن الإِنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فلا يظفر بما يطلبه، وقوله سبحانه: {فَلاَ تَكْفُرْ} يدل على أنهما علما طبائع البشر في أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد يُضْمَنون وقت صفاء نفوسهم، ولكنهم لا يُضْمَنون يوم تعكير نفوسهم. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله...} [البقرة: 102].
ما دام الحق هو الذي أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على أن يسلبها منهم، مثلما يمنح الله سبحانه وتعالى القدرة لإِنسان ليكون غنيًّا وقادراً على شراء سلاح ناري، وأن يتدرب على إطلاق النار، فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلافه مع غيره أو ينهي غضبه مع أي إنسان آخر بإطلاق الرصاص عليه. لكن لو لم يكن معه (مسدس) فقد ينتهي غضبه بكلمة طيبة يسمعها، إذن فساعة ما يمنع الله أمراً فهو يريد أن يرحم؛ لذلك يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}.
وفي هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا الأمر، ويريد سبحانه أن يحمي خلقه من هذه المسألة، فلو أنك تتبعت هؤلاء لاستذلوك واستنزفوك، ويتركك الله لهم لأنك اعتقدت فيهم، أما إن قلت: اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر، ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر، فإني أعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه، بحق قولك: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، ويكفي أن نعلم أنه سبحانه قد قال: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}. هنا لن يمكنهم الله منك، إنما إن استجبت وسرت معهم، فهم يستنزفونك، وأراد الله أن يفضح هذه العملية فقال على ألسنة السحرة الذين استدعاهم فرعون: {أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً...} [الشعراء: 41].
وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم، فعلى الرغم من ادعائهم القدرة على فعل المعجزات إلا أنهم عاجزون عن الكسب الذي يوفي حاجاتهم؛ لذلك طلبوا الأجر من فرعون، وهذا حال الذين يشتغلون بالسحر والشعوذة. هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز. هكذا حكم الحق بضيق رزق من يعمل بالسحر، ويفضحهم الحق دائماً، وللعاقل أن يقول: ماداموا يَدّعُون الفلاح فليفلحوا في إصلاح أحوالهم. ومادام الساحر يدعي أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا لا يعرف كنوزاً في الأرض التي ليست مملوكة لأحد ويأخذها لنفسه؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين للغاية ولا يريد أن يأخذ من خزائن الناس.
ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء، بشعي الهيئة؛ مصابين في الذرية؛ لأن الكائن منهم استغل فرصة لا توجد لكل واحدٍ من جنسه البشري، وذلك للإِضرار بالناس.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6].
وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون في إرهاق وتعب. ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا لا ننكره مثلما ينكره آخرون. فقد قال بعض من العلماء: إن السحرة جاءوا بعصيّ وضعوا فيها زئبقاً، وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطي له حرارة فتتلوى العصى، لكن نحن لا ننكر السحر، كما لا ننكر الجن لأنه لا يفوتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا من الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي}».
فمادام الحق قد قال: إنه خلق خلقاً لا تدركهم بإحساسك، فنحن نقر بما أبلغنا به الحق؛ لأن وجود الشيء أمر وإدراك وجوده أمر آخر، وكل مخلوق له قانونه، فالعفريت من الجن قال لسيدنا سليمان عن عرش بلقيس: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ...} [النمل: 39].
وكأن الجن يطلب زمناً ما، فقد يجلس سليمان في مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلاثا، لكن الذي عنده علم من الكتاب يقول: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ...} [النمل: 40].
ولابد أن يكون طرفه قد ارتد في أقل من ثانية بعد أن قال ذلك، ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث على الفور فيقول: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ}.
مما يدل على أن الله قد خلق الأجناس، وخلق لكل جنس قانوناً، وقد يكون هناك قانون أقوى من قانون آخر، لكن صاحب القانون مخلوق لذلك لا يحتفظ به؛ لأن خالق القانون يبطله، ويسلط أدنى على من هو أعلى منه. ولندقق في التعبير القرآني: {سحروا أَعْيُنَ الناس}.
ونحن أمام أشياء هي العصى والحبال. وجمع من البشر ينظر. ونفهم من قوله الحق: {سحروا أَعْيُنَ الناس} أن السحر يَنْصَبُّ على الرائي له، لكن المرئي يظل على حالته، فالعصى هي هي، والحبال هي هي، والذي يتغير هو رؤية الرائي. ولذلك قال سبحانه في آية ثانية: {... يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66].
إذن فالسحر لا يقلب الحقيقة، بل تظل الحقيقة هي هي ويراها الساحر على طبيعتها. لكن الناس هي التي ترى الحقيقة مختلفة. إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم}.
واسترهبوهم أي أدخلوا الرهبة في نفوس الناس من هذه العملية، وظن السحرة أن موسى سيخاف مثل بقية الناس المسحورين، ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم؛ لأنه باصطفاء الله له وتأييده بالمعجزة صار منفذاً لقانون الذي أرسله فجعل عصاه حية، وصاحب القانون هو الذي يتحكم. وهم قد جاءوا بسحر عظيم، وهو أمر منطقي؛ لأن العملية هي مباراة كبرى يترتب عليها هدم ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته، لذلك لابد أن بأتوا يآخر وأعظم ما عندهم من السحر.
ويقول الحق: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى...}.

.تفسير الآية رقم (117):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)}
ولماذا احتاجت هذه المسألة إلى وحي جديد خصوصاً أنه قد سبق أن تم تدريب موسى على إلقاء العصا؟. ونقول: فيه فرق بين التعليم للإعداد لما يكون، والتنفيذ ساعة يكون، فساعة يأتي أمر التنفيذ يجيء الحق بأمر جديد، فربما يكون قد دخل على بشرية موسى شيء من السحر العظيم، والاسترهاب، هذا ونعلم أن قصة موسى عليه السلام فيها عجائب كثيرة. فقد كان فرعون يقتل الذكران، ويستحي النساء، وأراد ربنا ألا يُقتل موسى فقال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم...} [القصص: 7].
وقوله سبحانه: {أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} يدل على أن العملية المخوفة لم تأت بعد، بل ستأتي لاحقّاً. وهات أيَّة امرأة وقل لها: إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر. من المؤكد أنها لن تصدقك، بل ستسخر منك؛ لأنها ستتساءل: كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟. وهذا هو الأمر الطبيعي، لكن نحن هنا أمام وارد من الله إلى خلق الله، ووارد الله لا يصادمه شك. إذن فالخاطر والإِلهام إذا جاء من الله لا يزاحمهما شيء قط. ولا يطلب الإِنسان عليه دليلاً لأن نفسه قد اطمأنت إليه؛ لذلك ألقت أم موسى برضيعها في البحر.
ويقدّر الله أنها أم فيقول: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ...} [القصص: 7].
ولن يرده إليها فقط، بل سيوكل إليه أمراً جللاً. {... وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].
وكأن الحق سبحانه يوضح لأم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط، بل إن له مهمة أخرى في الحياة فسيكون رسولاً من الله. فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لأجل خاطر الأم وعواطفها، فإن السماء ستحفظه لأن له مهمة أساسية {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}. ونلحظ أن الحق هنا لم يأت بسيرة التابوت لكنه في آية ثانية يقول: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 38-39].
ولم يقل في هذه الآية: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي}؛ لأنه أوضح لها ما سوف يحدث من إلقاء اليم له بالساحل. وقوله في الأولى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}. هو إعداد للحدث قبل أن يجيء، وفي هذه الآية: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى...} إلخ تجد اللقطات سريعة متتابعة لتعبر عن التصرف لحظة الخطر. لكن في الآية الأولى: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} نجد البطء والهدوء والرتابة؛ لأنها تحكي عن الإِعداد. لما يكون.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعطي كل جنس قانوناً، وكل قانون يجب أن يُحترم في نطاقه، لأن تكافؤ الفرص بين الأجناس هو الذي يريده الله. وحينما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا هذه المسألة أوضح أن على المؤمن أن ينظر إلى المعطيات من وراء التكاليف، وفي آية الدّيْن- على سبيل المثال- نجد الحق يوصي المقترض (المدين)- وهو الضعيف- أن يكتب الدَّيْن، ويعطي بذلك إقراراً للدائن وهو القوي القادر فيقول سبحانه: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ...} [البقرة: 282].
والمسألة هنا في ظاهر الأمر أنه يحمي الدائن ونقوده، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه يحمي المدين من نفسه؛ لأن الدَّيْن إن لم يكن موثقاً فالمدين لن يبذل الجهد الكافي للسداد، وباجتهاد المدين نفيد الوجود بطاقة فاعلة. ولكن إن لم نوثق الدَّيْن، وتكاسل المدين عن العمل والسداد فقد تشيع الفوضى في المجتمع ويرفض كل إنسان أن يقرض أحداً ما يحتاج إليه. وبذلك تفسد الأمور الاقتصادية.
إذن فسبحانه حين يأمر بتوثيق الدَّيْن، وإن كان في ظاهر الأمر حماية للدائن. لكنّه في باطن الأمر يحمي سبحانه المدين، لأن هناك فرقاً بين ساعة التحمل للحكم، وساعة أداء الحكم.
مثال ذلك حين يأتيك إنسان قائلاً: أنا عندي ألف جنيه وخائف أن يضيع مني فخذه أمانة عندك إلى أن أحتاج إليه، وبذلك يكون هذا الإِنسان قد استودعك أمانة ولا يوجد إيصال أو شهود، والأمر مردود إلى أمانة المودَع عنده إن شاء أنكر، وإن شاء أقر. ونجد من يقول لهذا الإِنسان: هات ما عندك. يقول ذلك وفي ذمته ونيته أن صاحب الألف جنيه حين يأتي ليطلبه يعطيه له، إنه يَعِدُ ذلك ساعة التحمل، لكنه لا يضمن نفسه ساعة الأداء، فقد تأتي له ظروف صعبة ساعة الأداء فيتعلل بالحجج ليبعد صاحب المال عنه.
إذن هناك فرق بين حالة واستعداد حامل الأمانة ساعة الأداء لهذه الأمانة. والمؤمن الحق هو من يتذكر ساعة التحمل والأداء معاً، إنّ بعض الناس يرفض الأمانة ليزيل عن نفسه عبء الأداء.
والذي يتعلم شيئاً يناقض ناموس وجوده كتعلم السحر نقول له: احذر أن تُبتلى وتُفتن، بل ابتعد واحفظ نفسك ولا تستعمل ذلك، واحذر أن تقول أنا سأستعمل ما تعلمته من سحر في الخير، ومن يأتي لي وهو في أزمة سوف أحلها له بالسحر. ونقول: لهذا الإِنسان: أنت تتكلم عن وقت التحمل، ولكنك لا تتكلم عن وقت الأداء.
ويقول الحق سبحانه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117].
والإِفك هو قلب الشيء على وجهه، ومنه الكذب. وعلمنا من قبل أن كل شيء له نسبة كلامية وله نسبة واقعية، فإذا قلت مثلاً (محمد مجتهد) فهذه نسبة كلامية، لكن أيوجد واحد في الواقع اسمه محمد وموثوق في اجتهاده؟. إن كان الأمر كذلك فقد وافقت النسبة الكلامية النسبة الواقعية، ويكون الكلام هو الصدق، أما الكذب فهو أن تقول (محمد مجتهد) ولا يوجد إنسان اسمه محمد، وإن كان موجوداً فهو غير مجتهد، ويكون الكلام كذباً لأن النسبة الكلامية خالفت النسبة الواقعية، وحين يكذب أحد فهو يقلب المسألة ونسمى ذلك كذباً، وشدة الكذب تسمى إفكاً.
أو الكذب ألا يكون هناك تطابق، وإن لم تكن تعلم، والإِفك أن تتعمد الكذب، وهذا أيضاً افتراء. {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا} وهي تعبر عن الفجائية حيث ابتلعت عصا موسى- بعد أن صارت حية- ما أتى السحرة وجاءوا به من الكذب والإِفك وسحروا به أعين الناس.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ...}.