فصل: تفسير الآية رقم (118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (118):

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)}
وقوله: {فَوَقَعَ الحق} أي صار الحق النظري واقعاً ملموساً؛ لأن هناك فارقاً بين كلام نظريًّا وكلام يؤيده الواقع، والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه.
وقوله سبحانه: {فَوَقَعَ الحق} أي ثبت الحق، فبعد أن كان كلاماً خبريًّا يصح أن يصدَّق ويصح أن يُكَذب. صار بصدقه واقعاً. {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر. إن الحق جعل الصدق موسى واقعاً مشهوداً. وبذلك غُلب السحرة.
ويقول الحق: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ}

.تفسير الآية رقم (119):

{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)}
ولم يغلب السحرة فقط، بل غلب أيضاً فرعون وجماعته، وعاش كل من هو ضد موسى في صَغَار، صغار للمستدعِي وصغار للمستدعَى. لذلك ذيل الحق الآية بقوله: {وانقلبوا صَاغِرِينَ} أي أذلاء.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ}

.تفسير الآية رقم (120):

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)}
ولم يقل الحق: وسجد السحرة، ولكنه قال: (ألقى) مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس برأيهم، لكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم، كأن شيئاً آخر ألقاهم ساجدين، وهو الانبهار بالحق. فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر، ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحراً، وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي جاءوا بها من كل المدائن، قيل إنها حُملت على سبعين بعيراً وشاهدوا كيف أن العصا التي صارت حية أو ثعباناً لقفت كل هذا وابتلعته! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت، وهكذا تيقن أن هذا لا يمكن أن يكون من فعل ساحر، وانظر إلى الاستجابة منهم لمَّا رأوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}

.تفسير الآية رقم (121):

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)}
وهل هم سجدوا بعد الإِيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود، ولكن كان الأمر يقتضي ألا يسجد أحد إلا لأنه آمن، لكن نحن نعرف أن الإِيمان عمل قلبي، والسجود عمل عضلي وسلوك عملي، فكل منهم آمن بقلبه فسجد.
وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم؛ فيقولوا: آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن لا نرتب السجود على إيمان، بل نرتب السجود مع القول بالإِيمان وبإعلان الإِيمان؛ لأن إعلان الإِيمان شيء، والإِيمان شيء آخر، فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلان الإِيمان، وكأن الناس سألوهم: ما الذي جرى لكم؟ فقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}.
إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الإِيمان يعني وجود الإِيمان أولاً، والسحرة قد آمنوا فسجدوا، فاستغرب منهم الناس هذا السجود، وهنا قال السحرة: لا تستغربوا ولا تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين. {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} [الأعراف: 121].
وقيل في بعض التفاسير: إن فرعون قال: أنا رب العالمين. لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا فأعلنوا أن رب العالمين هو: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}. وقال فرعون: لقد ربيت أنا موسى، فقالوا: لكنك لم ترب هارون.
ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هو: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}

.تفسير الآية رقم (122):

{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}
ولأن السحرة أعلنوها واضحة بالإِيمان برب العالمين رب موسى وهارون، وكان لابد أن يغضب فرعون، فيأتي القرآن بما جاء على لسانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ...}.

.تفسير الآية رقم (123):

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}
وكأن فرعون مازال يحاول تأكيد سلطانه، ونعلم أن بني إسرائيل اختلطوا بالناس في مصر، ومنهم من تعلم السحر. ولذلك اتهم فرعون السحرة بأنهم قد اتفقوا مع موسى على هذه المسألة.
لقد كان فرعون في مأزق ويريد أن يخرج منه؛ لأن الناس جميعاً قد شاهدوا المسألة، وهو لا يريدهم أن يتشككوا في ألوهيته، فينهدم الصرح الذي أقامه على الأكاذيب؛ لذلك قال السحرة: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة.. أي أنكم اتفقتم مع موسى، وسيأتي ويقول: اتهاماً لموسى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر...} [طه: 71].
ونتيجة لهذا المكر المتوهم بين بني إسرائيل وموسى يتوعدهم فرعون: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ...}.

.تفسير الآية رقم (124):

{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}
والوعيد- كما نراه- قاسٍ وفظيع، فتقطيع الأيدي والأرجل ثم الصلب كلها أمور تخيف، فماذا يكون الرد ممن يتلقون هذا الوعيد، وقد خالطت بشاشة الإِيمان قلوبهم؟ إنهم يقولون: {قالوا إِنَّآ إلى...}.

.تفسير الآية رقم (125):

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)}
إنك قد عجلت لنا الخير لأننا سنكون في جوار ربنا، فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفاً وخيراً من حيث لا تدري. ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهم: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا...}.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}
ما الذي تكرهه منا لأن (تنقم) تعني تكره، وقولهم لفرعون: أليس الذي تكرهه منا أنَّا آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا؟ وهل الإِيمان بآيات الإِله حين تجيء مما يُكره؟!! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ كأن يقول إنسان: ماذا تكره فيّ؟ أصدقي؟ أمانتي؟ أجودي؟ أعلمي؟
كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعاً أنها لا تُكره، لكن الخطأ في مقاييس من يكره الصواب، فهي أمور لا تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم. لقد تيقنوا أن لقاء الله على الإِيمان هو الخير وكلهم يفضل جوار الله على جوار فرعون. وهذا الذي يعتبره فرعون عقاباً إنما يثبت خيبته حتى في توقع العقوبة؛ لأنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى الله، وهذا أمر مقطوع به، وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى الله، وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهم: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124].
ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}.
و(الإفراغ) أن ينصب شيء على شيء ليغمره، وكانهم يقولون: أعطنا يا رب كل الصبر، وهم يحتاجون إلى الصبر لأن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم. ولذلك قال بعض العارفين بالله: عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة.
ويقول سبحانه: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ...}.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)}
وهكذا نعرف أن المقربين من فرعون هم أول من خافوا على سلطانهم، ويدل هذا القول أيضاً على أن فرعون لم يتعرض لموسى بأي أذى؛ لأنه مازال يعيش في رهبة اليقين وصولة الحق مما جعله متوجساً وخائفاً من موسى؛ لأن فرعون أول من يعلم أن مسألة ألوهيته كذب كلها، ويعلم جيداً أن موسى على حق، لكن إعلان انهزامه أمام الجمع ليس أمراً سهلاً على النفس البشرية، وسأل الملأ من قوم فرعون الذين اهتز أمامهم سلطانه ومكانته، قالوا: لفرعون: أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض؟. أو فيما يبدو أن موسى وهارون تركا المكان بعد أن انتهيا من أمر السحرة، ولم يقبض عليهما فرعون؛ لذلك تساءل الملأ من قوم فرعون: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127].
و(يذرك) أي يدعك ويتركك، وكان فرعون يعتقد أن هناك آلهة علويين وآلهة سفليين، وهو رب العالم السفلي كله. لذلك قالوا: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}. وهناك قراءة أخرى (ويذرك إلاهتك أي عبادتك). أي يتركك أنت ويترك عبادتك. ويقول فرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ}.
وحتى تلك اللحظة لم يتعرض فرعون لموسى، ولا يزال خوفه من موسى يمنعه من الاقتراب أو الدنو أو الاتصال به ولو بكلمة، إنه يأخذ الحذر من أن يقدم على شيء ضد موسى، فيفاجئه موسى مفاجأة ثانية. ويقال إن الثعبان الذي ظهر ساعة ألقى موسى عصاه فتح شدقيه واتجه إلى فرعون، فقال: كف عني وأومن بما جئت به. وهو أمر محتمل؛ لأن فرعون حتى هذه اللحظة لم يجرؤ على الاقتراب من موسى، وجاء بخبر قتل الأبناء وسبيْ النساء ولم يأت بسيرة موسى. {... سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
والقوي حين يملك القدرة على الضعيف لا يشد الخناق عليه شدًّا ليفتك به؛ لأنه يعرف ضعفه، ويستطيع أن يناله في أي وقت، لكن لو كان الخصم أمامك قويًّا فأنت ترهبه بالقوة حتى يخضع لك. وهنا يقول فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}.
إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون وغالبون، ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم. ويؤكد فرعون: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم؛ لأن الأبناء هم العدة، والنساء عادة شأنهن مبني على الحجاب، وعلى الستر، وفي إبقاء المرأة وقتل الرجل إذلال للرجال؛ لأن التعب سيكون من نصيب النساء. ولذلك كان العرب حين يغيرون على عدو، يصحبون نساءهم لتزيد الحمية ولا يخور ولا يجبن واحد وتراه زوجه أو أخته أو ابنته وهو على هذا الحال، وكذلك كان العرب يخافون الانهزام حتى لا يمسك العدو نساءهم ويأخذهن سبايا.
وهنا يؤكد فرعون إصراره على إذلال قوم موسى بأن يعيد قتل الأبناء، وأن يستحيي النساء، وكان الفرعون يفعل مثل ذلك الأمر من قبل، والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانوا يساعدون ملوك الهكسوس، وبعد أن طرد الفراعنة الهكسوس، اتجهوا إلى إيذاء بني إسرائيل الذين كانوا في صف الهكسوس، ومن بقي من بني إسرائيل تعرض لتقتيل الأبناء، لكن الحق أنقذ موسى حين أوحى لأمه أن تلقيه في اليم ليربيه فرعون. وها هو ذا فرعون يعيد الكرة مرة أخرى بالأمر بتقتيل الأبناء وسبي النساء.
ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ...}.

.تفسير الآية رقم (128):

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)}
ويقرر موسى الحقيقة الواضحة وهي أن الأرض ليست لفرعون، والعاقبة لا تكون إلاَّ للمتقين. وكأنه بهذا القول يريد أن يردهم إلى حكم التاريخ حيث تكون العاقبة دائماً للمتقين، فإن قال لفرعون: وإنا فوقهم قاهرون، مستعلون غالبون مسلطون مسيطرون، فإن موسى يرد على ذلك: أنا أستعين بمن هو أقوى منك. إن موسى عليه السلام يأمر بأن يستعينوا بالله، ويصبروا على ما ينالهم من بطش فرعون وظلمه.
ولأن قوم موسى كانوا من المستضعفين، فإن الله وعدهم أن يؤمّنهم في الأرض ويمكن لهم فيها وهذا إخبار من الله وإخبار الله حقائق. ولكن ماذا كان موقف قوم موسى منه بعد هذا النصر العظيم لموسى، والنصر لهم؟. نجد الحق سبحانه يقول: {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ...}.