فصل: تفسير الآية رقم (174):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (174):

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}
والآيات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة، ورفع الجبل ليأخذوا التوارة بقوة، وكذلك العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وجاء سبحانه بكل ذلك ليؤكد لهم أن قضية الإيمان عقيدةً يجب أن تكون في بؤرة الشعور، فمن غفل فليتذكر، ومن قلد آباه في شيء مخالف للمنهج القويم، فليرجع عن هذا التقليد؛ لأن التكاليف الإيمانية تكاليف ذاتية، وسبحانه لا يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك، أو إلى أمك. لكنه يكلفك من بعد البلوغ؛ لأنك بعد البلوغ تستقل بذاتيتك استقلالا كاملا مثل والدك، ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا للإنجاب فلا ولاية إيمانية لأبيك عليك أبداً، فلا تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج السليم؛ لأن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولاً لو كان التكليف للإنسان وهو في دور الطفولة، حيث الأب يسعى لإطعام أبنائه ورعايتهم، لكن التكليف لا يأتي للإنسان إلا بعد البلوغ، ومعنى بعد البلوغ: أنك صالح لإنجاب مثلك ورعاية نفسك.
ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الآباء أن يدربوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف قبل مجيء أوان تكليف الله، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع.. إلخ).
الأب إذن يأمرُ ويُعاقب قبل أوان التكليف ليتدرب الأبناء عليه ويصير دربة سهلة لا يتعب منها الإنسَان بعد البلوغ. {وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر، وأن يرجع المقلد لآبائه عن التقليد، ويقتنع اقتناعاً، مصداقاً لقوله الحق: {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً...} [لقمان: 33].
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ...}.

.تفسير الآية رقم (175):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)}
ولأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلاء فيقول: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}.
والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر. ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1-2].
كما يقول {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا}، كأن هذا النبأ كان مشهوراً جداً، ويقال: إنه قد قيل في (ابن بعوراء) أو أمية بن أبي الصلت، أو عامر الراهب، أو هو واحد من هؤلاء، والمهم ليس اسمه، المهم أنّ إنساناً آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات، فبدلاً من أن ينتفع بها صيانة لنفسه، وتقرباً إلى ربه {فانسلخ مِنْهَا} واتبع هواه ومال إلى الشيطان.
وكلمة (انسلخ) دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها؛ لأن الأصل في السلخ إزاحة جلد الشاة عنها، فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان؛ لأن هذا الكيان العام فيه شرايين، وأوردة، ولحم، وشحم، وعظام. وجعل الله التكاليف الإيمانية صيانة للإنسان، ولذلك سمي الخارج عن منهج الله (فاسقاً) مثله مثل الرطبة من البلح، فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض من الماء، فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة، ولذلك سمي الخارج عن المنهج (فاسقاً) من فسوق الرطبة عن قشرتها، والله عز وجل يقول هنا: {ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا}. وكان يجب ألا يغفل عنها، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها، لكن الإنسان انسلخ من الآيات.
ونعرف جميعاً ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماماً، ويغير الثعبان جلده كل فترة، ولا ينخلع من الجلد القديم إلا بعد أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج، وصلح لتحمل الطقس والجو، وكذلك حين يندلق سائل ساخن على جلد الإنسان، تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها، وله أفرغ الإنسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب، أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم، وكذلك نعلم أن الشاة- مثلاً- لا تسلخ نفسها. بل نحن نسلخها، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار...} [يس: 37].
فكأن الليل كان مجلداً ومغلفاً بالنهار، والليل أسود، والنهار فيه الضوء، ونعلم أن اللون الأسود ليس من ألوان الطيف، وكذلك اللون الأبيض ليس من ألوان الطيف؛ لأن ألوان الطيف: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي، واللون الأسود يأخذ ألوان الطيف ويجعلها غير مرئية، لأنك لا ترى الأشياء إلا إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك، واللون الأسود يمتص كل الأشعة التي تأتي عليه فلا يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلماً.
والأبيض هو مزيج من ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون الأبيض، وهكذا نعلم أن الأبيض مثله مثل الأسود تماماً، فالأسود يمتص الأشعة فلا يخرج منه شعاع لعينيك، والأبيض يرد الأشعة ولا يخرج منه شعاع لعينيك. وقوله الحق: {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} كأن سواد الليل جاء يغلف بياض النهار.
وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان: إنه يصلح لأن يتبعني، وكأن الشيطان حين يجد واحداً فيه أمل، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما أتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج، ويزكي الشيطان في نفس هذا الإنسان مسألة الخروج عن منهج ربنا.
وقلنا من قبل: إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس، ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا الفارق، وقلنا: إن الشيطان لا يجرؤ عليك إلا إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملاً فيك، لكن إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للإنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها، والشيطان لا يذهب- مثلا- إلى الخمارة، بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس التي تتجه إلى الخير، أما الاخرون فنفوسهم جاهزة له. إذن فالشيطان ساعة يرى واحداً بدأ في الغفلة عن الآيات فهو يلاحقه مخافة أن تستهويه الآيات ثانية، ولذلك لابد لنا أن نفرق بين الدافع إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان، فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لأي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية، فاعلم أنها شهوة نفسك. لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا من نزغ الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريدك عاصياً بمعصية مخصوصة، بل يريدك بعيداً عن المنهج فقط، لكن النفس تريد معصية بعينها وتقف عندها، فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك، فاعلم أنها من نفسك، وإن امتنعت عليك معصية وتركتها، ثم فكرت في معصية ثانية. فهذا نزغ من الشيطان- ويقول الحق: {... فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين} [الأعراف: 175].
الغاوي والغَوِيّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء. وهو الذي يُسمى (الغاوي)، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه...}.

.تفسير الآية رقم (176):

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}
وهنا أمران اثنان، الرفعة: وهو العلو والتسامي، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين.
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ}، والفعل رفع هنا مسند لله. ولكنه اختار أن يخلد في الأرض. وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله. لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون. وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج، وحين يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا} أي أنها مشيئتنا. فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة، لكن هذا الأمر ينقض الاختيار، والحق يريد أن يُبقَي للإنسان الاختيار، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 65-66].
ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبداً من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}.
وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم. وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم.
وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 67-68].
أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها. لكن سيدنا موسى قال له لا: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح. وكان كل ذلك مجرد كلام نظري، فيه أخذ ورد، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما. بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح، لم يصبر سيدنا موسى بل قال: {... لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71].
وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح، وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل، تراجع موسى، وتكرر السؤال، وتكرر التذكير. إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} لماذا؟. لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة، يفعل ما يريده، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف، لأنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وسنة الله أن من عمل عملاً طيباً يثيبه الله عليه. ومن عمل سوءاً يعاقبه، ومشيئته سبحانه مطلقة، ولا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وبمقضى مشيئة الله فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله، وله سبحانه مطلق الإرادة فهو عزيز، وحكيم في كل فعل. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ...} [الأعراف: 176].
و{أَخْلَدَ إِلَى الأرض}، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو، والحق يقول: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...} [الأنعام: 151].
ونخطئ حين نفهم أن (تعالوا) بمعنى (أقبلوا) فقط وهذا فهم ناقص، إنها دعوة للقبول وإلى العلو، لأنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى لا نلزم منهج الأرض السفلى. بل نرتقي ونأخذ منهج الله الذي يضمن لنا العلو. وكأنه سبحانه يقول: تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من الله العلي الأعلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع الله، لأن في هذا تسفلا ونزولا إلى الحضيض. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ...} [الأعراف: 176].
ويقال: (حملت على الكلب)، فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره، فهذا تفسير لقوله: (تحمل عليه)، أي أنك تحمل عليه طرداً أو زجراً؛ لذلك يلهث، وأن تركت الكلب بدوح حمل عليه طرداً أو زجراً فهو يلهث، لأن طبيعته أنه لاهث دائماً، وهذه الخاصية في الكلب وحده، حيث يتنفس دائماً بسرعة مع إخراج لسانه.
ونعلم أن الحيوانات لا تلهث إلا أن فزعت فتجري، لتفوت من الألم أو من العذاب الذي يترصدها من كائن آخر، وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة، فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من غذاء إلى كل الجسم، ولابد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء. ونلحظ أن الكائن الحي حين يجلس برتابة فهو لا يلحظ تنفسه، لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب (الأوكسجين) من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة الجديدة، فيحاول أن يتنفس أكثر. ولا تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إلا إذا كانت جائعة أو متعبة أو مهاجمة، لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها، جائعا أو شبعان، عطشان أو غير عطشان، مزجوراً أو غير مزجور، إنه يلهث دائماً. ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللاهث؟؛ لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروهاً دائماً؛ لأنه متبع لهواه، وتتحكم فيه شهواته. وحين تتحقق له شهوة الآن، يتساءل هل سيفعل مثلها غداً؟ وتتملك الشهوة كل وقته، لذلك يعيش في كرب مستمر، لأنه يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم، ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمناً أو غير آمن، جائعاً أو غير جائع، عطشان أو غير عطشان.
{... فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
هكذا يكون مصير من كذَّب بالآيات.
وقول الحق: {فاقصص القصص} يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخاً، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ، بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة، لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة. ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل، ومن قصص المبطلين مع المحقين، ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ لأن القصة أمر واقعي، والتقنين للمناهج أمر لفظي، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع؛ لأن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظري معزول عن الواقع.
وهكذا بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية، أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى بعض خلقه، فمنهم من يأخذ منهج الله بالاستيعاب أولاً، وتوظيف ما علم ثانياً، وبذلك يرتفع من منطق الأرض إلى منطق السماء. ومن يعطيه الله ذلك المنهج، ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه إلى السماء، ليهبط إلى مستوى الأرض. وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لأنفسهم، ويضعون نظم الحياة على وفق هواهم، وعلى وفق نظمهم، ويتركون منهج الله الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم قانون صيانتهم.
وهذا كلام نظري له واقع في ابن (باعوراء)، هذا الذي آتاه الله العلم، ولكنه أخلد في الأرض ولم يتبع ما علم، فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ...} [الأعراف: 176].
ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب، مع الفارق بين الاثنين؛ لأن الكلب يلهث غريزة. فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود، ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه، ولا يذم على هذه ولا على تلك، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك ولا ينبغي أن تقولوا: وما ذنب الكلب في أنه يلهث، ويضرب به المثل في الكفر؟ لأن الكلب يفعلها غريزة، وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء، أما الإنسان الذي ارتفع بكفره وميزه الله بأن يختار بين البديلات ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى، ومثل هذا السلوك في الكلب محمود فيه لأن طبيعته هكذا، وإياك أن تقول: لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها هي؟
والحق سبحانه هو القائل عن اليهود: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً...} [الجمعة: 5].
هل الحمار حين يحمل أسفاراً يستحق الذم لأنه لم يفقه ما في الأسفار؟ الجواب لا؛ لأن مهمته ليس منها فقه وفهم ما في الأسفار، بل مهته أن يحمل ما عليه فقط، وكأن الحق يقول: لا تكونوا مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله، ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما يحويه من التشريع. إذن فهذه الأمثلة ليست ذماً للكلب، ولا هي ذما للحمار. إنما ذم لمن يتشبه بهما؛ لأنه نزل إلى مرتبة لم يرده الله لها، وأراد الله المثل فيها بشيء لا تذم منه، ولكنه مذموم من الإنسان.
والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنه معزول عن الله، ومادام معزولاً عن الله تجده دائم التساؤل: أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه. {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
إذن حين يضرب الله لنا مثلاً من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى (ابن باعوراء)، فسبحانه يعطينا واقعاً لما حدث بالفعل.
أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، ولستم بدعاً في هذا، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء، وكلمة (مثل) إذا سمعتها هي من مادة ال (م) وال (ث) وال (لام)، وتنطق كما يأتي: إما أن تنطقها مثْل (يكسر الميم وسكون الثاء)، وإما أن تنطقها مَثَل (بفتح الميم والثاء)، والمَثْلَ هو المشابه والنظير، فتقول: فلان مِثْل فلان في الكرم، في العلمَ، في الَطول، في العرض، وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له.
والحق سبحانه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
أي لا أحد يشبهه في شيء؛ لأنه مَنَزّه في الذات والصفات والأفعال.
وأيضاً نقول: هذا مَثَل هذا؛ أي أن فلاناً المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به، لكن الناس لا تعرف ذلك. وإن كان المشبه به ذائع الصيت؛ بحيث يجري اسمه على كل لسان؛ فنحن نقول: إنَّه مَثَلٌ؛ كقولنا عن الكريم: (هو حاتم) لأن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلاً.
والفرق أنك إذا قلت في فلان إنه يشبه حاتماً في الكرم، فقد تكون أول من يخبر عنه، ولك أن تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل، كأن تقول: مَثَل حاتم في الكرم، أو مَثل عنترةَ في الشجاعة. والمَثَل في الذكاء إياس، لأن كل واحد منهم مشهور بصفة، ولذلك لما مدح الشاعر الخليفة قال فيه: إقدام عمرو(في شجاعته) في سماحة حاتم(أي الطائي) في حلم أحنف(الأحنف بن قيس وكان مشهوراً بالحلم عند العرب) وفي ذكاء إياس. وقال رجل من القوم: كيف تُشَبَّهُ الأميرَ بصعاليك العرب؟ إن الأمير فوق من ذكرت جميعاً.
ما عمرو بالنسبة للأمير؟!
وما حاتم بالنسبة للأمير؟!
فقال الشاعر:
وشبهه المدّاح في الباس والندى ** بمن لو رآه كان أصغر خادم

ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر ** وفي خُزنه أُلف ألف كحاتم

أي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة. فما كان منه إلا أن أسعفته ذاكرته وبديهيته؛ فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلا من المشكاة والنبراس

وكأن الشاعر يقول: أنا ضربت بهم المَثل لأنهم أصبحوا المثل المشهور والأمثال لا تتغير.
وأنت تقدر في المثل، فقد تقول: فلان حاتم، وحاتم انقضى عمره، لكنه قد صار مثلاً مشهوراً في التاريخ، أو تقول: (فلان عنتر)، أو (فلان إياس)، وفي ذلك يرتقي التشبيه، بأن صار المشبَّه به مشهوراً معلوماً متوارداً على الألسنة وكل واحد يشبه به.
ويُعَرفون المَثَل بأنه: قول شبِّه مورده بمضربه، أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولاً، ومثال ذلك: حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها (عصام) لتخطب له أمَّ إياس؛ فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها، فقال: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فذهبت الخاطبة وخلَّت أم الفتاة بينها وبينها، وقالت لها: يا هذه، هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك به. ثم أرسلت إلى خباء، ونظرتها كلها وفحصتها فحصاً شاملاً. فلما عادت إلى من أرسلها، وكان ينتظرها في شوق وكأنه على أحر من الجمر، قال لها: (ما وراءكِ يا عصامُ؟) قالت: (أبدي المخض عن الزُّبد) أي أن الرحلة جاءت بفائدة.
وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولاً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعاً؛ وبعد أن يعود إليهم ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته، فهم يقولون له: (ما وراءَك يا عصام؟)، ولو كان رجلاً، لأن الأمثال لا تغير. وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه: (أبدي المخض عن الزبد).
فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال: (أبدي المخض عن الزبد).
والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...} [البقرة: 26].
وكانوا قد قالوا: كيف يضرب الله المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه: {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ...} [الحج: 73].
لقد فهموا قوله: (فما فوقها) أنها أكبر منها، والمراد غير ذلك؛ لأنه سبحانه ضرب المثل بالأقل؛ لذلك قال: (فما فوقها) من باب فما فوقها في الاحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه، وهو الضآلة. وحتى تفهم ذلك نسمع أحياناً: فلان مريض. ويراد السامع وفلان فوقه في المرض. ونجد (فوقه) هنا لا تعني المرض الأقل، بل المرض الأكثر شدة: {... ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
والكلام موجه لليهود: أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد، ووصفته بسمات وعلامات، بحيث إذا رآه الإنسان يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة، ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابناً له، لأنه مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله، وعرضه. وكنتم تستفتحون به على العرب. لكنكم امتنعتم عن التصديق بالآيات، وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به. وصار مثلكم كمثل الرجل الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها. {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}
وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا بالآيات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والأرض والشمس، والآيات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلاغه عن الله، وكذلك آيات القرآن التي تحمل منهج الله.
{فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث وما كان، وأنت لن تحكي الأمر التافه، بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها حركة المجتمع.
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، ونعلم أن القرآن قد جاء فيه الأمر بالتفكر والتذكر والتدبر.
والتفكر- كما نعرف- هو عمل العقل في المقارنات بين البديلات المتنوعة لِيُرَجّح بدلاً على بديل فتُعقلَ به القضايا.
والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره، حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة.
أما التدبر فهو أيضاً بحث عقلي. فلا تنظر إلى واجهة الأشياء، بل إلى كلية الأشياء من جميع جهاتها بواجهة وجوانب وخلف، وما ينتج عنها. وعلى سبيل المثال يقال: انظر خلف العبارة، لتجد المعنى الخفي فيما يقال. والمثال في قول الحق: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...} [البقرة: 26].
وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى (فما فوقها) لا يعني الأعلى منها في القوة، بل الأعلى منها في الضعف الذي أنكروه. لذلك لا يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط، بل لما خلف اللفظ، ومعطياته.
{فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون وهذه فائدة القصص.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين...}.