فصل: تفسير الآية رقم (182):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (182):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}
وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا: إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحْكام المتقن، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة، وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا بها، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ...} [الطور: 47].
أي أن لهم عذاباً قبل الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}
وحين تقول: أنا استدرجت فلانا، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم، ويحاصره بالأسئلة من هنا، ومن هناك، إلى أن يقر ويعترف، وهذا هو الاستدراج. و(الاستدراج) من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية (السلَّم) وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلاً اثنى عشر سنتيمتراً بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه.
وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا، والنار بالدرجات السفلى.
وهنا يقول الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].
أي نأخذهم درجة درجة، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه، كما قال سبحانه من قبل: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
لأن الله حين يريد أن يعاقب واحداًَ على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة، لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من عَلِ. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
وهكذا يكونُ الآخذ أخذ عزيز مقتدر.
وحينَ يستدرج البشرُ، فإن الطرف المستدرج له أيضاً ذكاء، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له، لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت. والعلة في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} هي قوله: {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ...}.

.تفسير الآية رقم (183):

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}
والإملاء هو الإمهال وهو التأخير، أي أنه لا يأخذهم مرة واحدة، فساعة يقوم الفاسد بالكثير من الشر في المجتمع، نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات، ونسمع دائماً من يقول: لو لم يكن هناك إيمان لأكل الناسُ بعضهم بعضاً، فالإيمان يُعطي الأسوة واليقين. والإملاء للظالم الكافر ليس إهمالاً له من المولى تعالى، بلَ هو إمهال فقط، ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وهنا يوضح الحق: إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين. والكيد هو المكر، والمكر أخذهم من حيث لا يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به.
وهو تدبير خفي حتى لا يملك الممكور به ملكات الدفع. وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيراً يخفى على بعضهم، فماذا حين يدبر الله للكافرين مكيدة أو مكراً؛ أيستطيع واحد أن يكشف من ذلك شيئاً؟. طبعاً لن يستطيع أحد ذلك. هذا هو معنى {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}؛ ومتين أي قوي، والمتانة مأخوذة من المتن وهو الظهر، ونعرف أن الظهر مُكوَّنٌ من عمود فقري وفقرات عظيمة، تحيط بها عضلات. فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان أي حمل عليه يكسره. فشاءت تجلياتُ رَبنا عز وجل واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين، وهما ما نسميه في عرف الجزارين (الفلتو) لحماية الظهر وتقويته ووقايته.
وإذا نظرنا إلى كلمة (متين)، نجد (المتن) هو الشيء العمودي في الأشياء، وفي العلم مثلاً ندرس الفقه وندرس النحو، ويقال: هذا هو المتن في الفقه، أي الكلام الموجز الذي يختزل العلم في كلمات محددة، والذكي هو من يستوعبه. وغالباً مع المتن الموجز شرحاً للمتن، ثم حاشية للمتن.
ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (184):

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}
وهنا يُنَبّه الحقُّ سبحانه وتعالى كلَّ الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقلُ عن القوة العليا مرادَها من الخلق. وأول ما يستحق التفكير فيه أن نعرف هل هذا الإنسان الذي يقول عنه رسول صادق أو غير صادق؟ ولقد ثبت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نزول الرسالة عليه، وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى الإيمان بالله. لكنهم لا يريدون أن يسمعوا، ليوجدوا لأنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج، فقال بعضهم اتهاما للرسول: إنه مجنون، مثلما قال بعضهم من قبل: إنه ساحر، وكاهن، وقالوا: شاعر، ويرد ربنا على كل تلك الأقاويل.
ونتساءل: من هو المجنون؟.
نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل، وحين يأخذ منه هذه القدرة على التوازن الفكري، يصبح غير أهل للتكليف؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، والمجنون لا يملك القدرة على هذا الترجيح.
والحق سبحانه وتعالى لم يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقاً يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية- كما نعلم- توجد في النبات وفي الحيوان والإنسان وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادراً على إنجاب مثله، سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو الإنسان. أما إن كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ، والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه، وهذه عدالة الجزاء من الحق، وهكذا نجد أن التكليف لا يلزم إلا من بلغ جسمه ونضج عقله، وبهذا يحرس رَبُّنا الكون بِقَيُّومِيَّتِه.
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات، فكيف يقولون ذلك على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو قد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقداً لميزان الاختيار بين البديلات، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون به. وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم.
لقد قالوا ذلك على محمد ظلماً له، وبغَوْغَائِيَّة، وكل واحد يلقى اتهاماً ليس له من الواقع نصيب؛ لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لأصحاب هذه الاتهامات: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ...} [سبأ: 46].
أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا: هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته أنَّ محمدَّا هو أكثر الناس أمانة، وكان الجميع يسمونه الأمين، حتى قبل أن يتصل به الوحي، وليس من المعقول أن يضره الوحي، أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ ما أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4].
كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً عظيماً؛ لأن الخُلق هو الصفات التي تؤهل الإنسان لأن يعيش في مجتمع سليم وهو مسالم. ومادام خُلُقه سليماً، فمعيار الحكم عنده سليم.
وبعد ذلك قالوا عنه: إنه (ساحر)، ونقول لهؤلاء: لماذا إذن لم يسحر كبار رجال قريش ليؤمنوا برسالته؟ إن كل ذلك جدل خائب، والمسألة ليس فيها سحر على الإطلاق. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}
الجنَّة التي تقولون عليها وتفترون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم- هي منتَهى العقل ومنتهى الخلق، فمحمد صلى الله عليه وسلم نذير واضح، جاءكم أولاً بالبشارة لكنكم في غيكم لا تستحقون البشارة، بل تستحقون الإنذار.
ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ...}.

.تفسير الآية رقم (185):

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}
وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى، ينتقل الجدل إلى التفكير ومسئوليته: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض}
والتفكير هو إعمال العقل حتى لا يقولَنَّ أحد: إن رسول الله مجنون، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق. {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض}
إذن فوقَنا سماء، وهناك ما فوق السماء، وتحتنا الأرض، وفيها ما تحت الأرض، وهناك بين السسموات والأرض. وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه (مُلْك) أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه (ملكوت).
ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض...} [الأنعام: 75].
فكلمة (ملكوت) معناها مبالغة في الملك، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة، ورحموت أي الرحمة الشديدة، وكلها صيغة (فعلوت) وهي صيغة المبالغة. {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ}
ونحن نرى السماء والأرض بوضوح، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط، بل هناك أشياء دقيقة جداً، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق. وأنت قد ترى ساعة (بيج بن) الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم، وننبهر ونعجب بدقة عمله وصنعته. فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السموات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر، وخلق أيضاً مخلوقات دقيقة لطيفة لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر، كالميكروب، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دماً.
إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السموات والأرض فقط، لذلك يقول الحق: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
أي من أول شيء يقال له شيء، صار محكوماً عليه وجودياً، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي نعطي له الحياة، وتعينه، حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن، ولا يقوى عليها صاحب العقل. مثال ذلك: نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء.
وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم. وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من كائنات قد لا تراها العين المجردة، كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم.
إننا نعلم أن الإنسان جنس، وأن له نوعين: نوع ذكورة، ونوع أنوثة، وبينهما جنس مشتبه نسميه الخنثى، والأجناس لها أفراد متعددة. وكل واحد له خلق، وكل واحد له موهبة، وكل واحد له مهمة. وساعة يطلب منا الحق: إياك أن تستصغر شيئاً منك ضد فيرك، وإياك أن تستكثر شيئاً منك لغيرك، ويجب عليك أن تجعل كلمة (شيء) هذه هي المقياس، ولذلك يقول لك الشرع: إنك حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها، بل قل هي ليست بشيء ذي بال. وإن همّ واحد بعمل سيئة فلا يقل: وماذا ستفعل لي سيئة واحدة؟ مستصغراً شأن هذه السيئة. وهذا نقول له: لا، لأن كلمة (شيء) يجب أن تحكم الكون. إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحداً مثلاً ضئيل التكوين، ولا بسطة له في جسمه، لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة، وقد تجد إنساناً آخر متين التكوين وليست عنده أية موهبة؛ لأن الله قد يعطي الضئيل فكرا عميقاً، أو حيلة كبيرة، أو موهبة خاصة في أي شيء. فلا تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان، بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي عنك في نفسك. {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الأجل؟ وللإجابة عن التساؤل أقول: إنها هامة جداً؛ لأننا مادمنا أفراداً أي جنسين أو ثلاثة أجناس، وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الأرض، فعلينا أن نعلم أن الخليفة في الأرض جاء ليخلف من سبقوه، وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة، أو سنتين أو خمسين عاماً؛ لأن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق تبارك وتعالى نفسه ولا يعلمه أحد؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية، وعلى سبيل المثال: إن سألنا طلبة كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا: لنيل إجازة الليسانس، وسنجد منهم الطويل، والقصير، والأبيض، والأسود، والذكي والغبي، والقوي والضعيف، وهم لا يتفقون إلا على دراسة الحقوق، وكذلك لا نتساوى جميعاً كبشر إلا أمام الموت، فهناك من يموت وهو في بطن أمه، ومن يموت وهو طفل، ومن يموت وهو فتى. وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك، والمؤمن أو الكافر يرى هذه الأحداث أمامه ولا يستطيع أن يقول: لا لن أموت.
ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت، لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلاً من أن تعاقب، فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت لا تعرف متى يجيء الأجل، وإبهام الأجل من الله لنا إشاعة للأجل، والإبهام هو أوضح أنواع البيان، فحين يريد ربنا أن يوضح أمراً توضيحياً كاملاً فهو يبهمه.
ومثال ذلك: لو جعل الله للموت سنّاً، لصار الأمر محدداً بلا أمل. لكنه سبحانه لم يجعل للموت سنّاً أو سبباً، وأشاعة في كل زمن، والإنسان عرضة لأن يستقبل الموت في أي لحظة، ونزل الموت لا يتوقف على سبب، فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب، ومادام الإنسان يستقبل الموت في أي وقت، فعلى العاصي ألا يستقبل الموت وهو على عصيان لله.
وإياك أن تقول: كيف مات فلان وهو غير مريض؟؛ لأن هناك العديد من الأسباب للموت، واعلم أن الموت بدون أسباب هو السبب، فالإنسان الذي نفقده بالموت، مات لأن أجله قد انتهى، والحق هنا يوضح: أيها الكافرون ألا تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان، ومن مات وعمره ثلاث سنوات، ومن مات وهو ظالم، ومن مات وهو مظلوم، ولو لم تكن هناك حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة؟. وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إلا شهرا؟ لابد أن تعرفوا أن هناك غاية تنتظركم، غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم، وآجال إجماعية تتمثل في يوم القيامة.
وفي قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
يوضح الحق تبارك وتعالى: إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من الإعجاز ومن الإبداع، ويجمع كل أنواع الكمالات، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟
وهل في اتباعهم للأهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك. وكان يجب عليهم أن يتأدبوا مع الله ومع الرسول.
ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {مَن يُضْلِلِ الله...}.