فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (3):

{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}
وبعض الناس يقول ما دام الله تعالى قد قال: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1].
فلماذا يعيد سبحانه وتعالى: {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3].
ونقول: إن البراءة جاءت إعلاماً بالمبدأ، والأذن جاء لإبلاغ البراءة، و(أذان) معناها إعلام يبلغ للناس كلهم، تماماً كأذان الصلاة؛ فهو إعلام للناس بدخول وقت الصلاة. والأذان مأخوذ من الأذن. لأن الإنسان حين يعلم الناس بشيء لابد أن يخطب فيهم فيسمعون كلامه بآذانهم، ولذلك تجد الأذن هي الوسيلة الأولى للإدراك، فقبل أن ترى تسمع، وقبل أن تتكلم لابد أن تسمع، فإن لم تسمع من يتكلم لا تقدر أنت على الكلام. ولذلك يقول الحق جل جلاله: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18].
أي لا يسمعون، وما داموا لا يسمعون لا يتكلمون. وقد يأتي بعض الناس ويقول: إنَّ وسيلة الإعلام قد تعتمد على العين ويقرأ منها الإنسان. ولكن من يقول ذلك ينسى أن الإنسان لا يستطيع أن يقرأ إلا إذا سمع ألفاظ الحروف، وحين يقال له: هذه ألف وهذه باء وهذه تاء فهو يتعلم. إذن كل بلاغ إنما يبدأ بالأذن، والأذن هي أول آلة إدراكية تؤدي مهمتها فور ولادة الإنسان؛ لأنك إن أشرت بأصبعك إلى عيني طفل مضى على ولادته أيام لا يتأثر. ذلك أن العين لا تبدأ في أداء مهمتها قبل بضعة أيام، ولكن إذا صرخت بجوار الطفل يسمع وينزعج.
والله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن وسائل الإدراك يأتي بالسمع أولاً فيقول جل جلاله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].
لأن الأذن تبدأ عملها فوراً- كما قلنا- والعين لا تبدأ عملها إلا بعد أربعة أو خمسة أيام. والأذن تستقبل بها أصواتاً متعددة في وقت واحد. ولكن مجال الرؤية محدود. وأنت حين لا تريد أن ترى شيئا تبعد عينيك عنه. ولكن الأصوات تصل إلى أذنك من كل مكان دون أن تستطيع منعها. ولذلك يأتي السمع مفرداً، والأبصار متعددة؛ لأن هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً. لكنك بالأذن تسمع نائماً أو متيقظاً، وتأتيك الأصوات ويتوحد المدرك من السمع؛ فهي آلة الاستدعاء والإيقاظ. ولذلك حين تكلم الله عن أهل الكهف يريد أن ينيمهم ثلثمائة سنة وازدادوا تسعا. رغم أن أقصى ما ينامه الإنسان هو يوم أو بعض يوم، قال سبحانه وتعالى عنهم في هذا الشأن: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11].
وكان الضرب على الآذان حتى لا يوقظهم صوت عال لإنسان أو حيوان. وهم عندما قاموا: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19].
لأن الإنسان عادة لا ينام أكثر من هذه المدة، وهذا يدل على أنهم حين استيقظوا كانوا على الهيئة التي ناموا عليها لم يتغير فيهم شيء، مما يدل على أن الله أوقف تأثير الزمن عليهم، ولولا أن الله قد ضرب على آذانهم لأيقظهم صوت الرعد أو الحيوانات المفترسة أو غيرها من الأصوات.
وأثبت لنا العلم الحديث أن مَنْ يرقد في الفراش بسبب المرض مدة طويلة يخاف الأطباء من إصابته بقروح الفراش، فلا يخاف الطبيب على المريض من المرض فقط، بل يخاف أيضاً من آثار الرقود على الجسد. والله يلفتنا إلى هذه الحقيقة فيقول: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} [الكهف: 18].
ولأن الأذن هي وسيلة السمع، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1-2].
وهذا القول يدل على أن السماء فور سماعها من الله أمره بأن تنشق؛ تستجيب على الفور وتطيع أمره بالانشقاق وذلك يوم القيامة، وإذا كان الذي بلغ الأذان من الله ورسوله إلى كل الناس يوم الحج هو علي بن أبي طالب؛ فكيف يقال؟
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3].
نقول: إن الله تعالى أعلم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم عليا، وعلي هو الذي نادى وبلَّغ، لكن هناك من يقول: إن الله طلب البلاغ إلى الناس. مع أن البراءة كانت للمشركين.
ونقول: إن الإعلام كان لكل الناس للمؤمن وغير المؤمن حتى يعرف جميع الناس موقفهم؛ فيعرف المؤمن أن العهد قد قطع، ويعرف غير المؤمن أن العهد قد قطع، فلا يؤخذ أحد على غرة، وليرتب كل إنسان موقفه في ضوء البلاغ الصادر من الله عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى أراد اعتدال الميزان بأيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فهو لا يخاطب المؤمنين وحدهم، بل كان الخطاب للعالم كله، وإن كان المؤمنون هم الذين سيجاهدون لتنسجم حركة الأرض مع منهج السماء. ومن هذا يستفيذ المؤمن والكافر؛ لأن الكل سينتفع بالعدل والأمانة والنزاهة التي يضعها المنهج على الأرض.
ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالمنهج لإصلاح الكون كله فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105].
أي أن الحكم بين الناس جميعاً هو المطلوب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب منهج السماء.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3].
وهذا القول فيه تعميم في المكان وتعميم في المكين، فيوم الحج يجتمع الناس كلهم في مكان واحد.
وقد يتساءل البعض: لماذا سمي الحج الأكبر؟ نقول: لأنه الحج الوحيد الذي اجتمع فيه الكفار والمؤمنون. وبعد ذلك لم يعد هناك حج للكفار أو المشركين.
وبعض المفسرين يقولون: إن كلمة الحج الأكبر جاءت لتميز بين الحج الأصغر وهي العمرة وبين الحج الذي يكون فيه الوقوف بعرفات، ونقول: إن العمرة لا يطلق عليها الحج الأصغر.
وقيل إنَّ يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة. ولكن بعض العلماء قالوا: إنه يوم النحر؛ لأن فيه مناسك كثيرة: رمي الجمرات والتقصير وطواف الإفاضة؛ لذلك سمي يوم النحر بالحج الأكب لكثرة مناسكه، وقيل: إنها أيام الحج كلها وأنها قد سميت بيوم الحج على طريقة العرب في أداء الحدث الواحد بظرفه الملائم، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: يوم حنين؟. وحنين استغرقت أياماً فكأن اليوم يراد به الظرف الجامع لحدث كبير، فكأن أيام الحج كلها يطلق عليها (يوم الحج).
أو أن الإعلان قاله سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم عرفة، وبلغ هذا الإعلام كل من سمعه إلى غيره، والآية الكريمة تقول: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3].
وهذا إذن من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن رسوله إلى علي كرم الله وجهه، ومن علي للمؤمنين، ومن المؤمنين؛ من سمع لمن لم يسمع، أن الله بريء من المشركين، وكان هذا إعلانا بالقطيعة، ولكن الله برحمته لا يغلق الباب أمام عباده أبداً، ولذلك يقول: {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [التوبة: 3].
أي فتح لهم باب التوبة فإن تابوا عفا الله عنهم، وإن لم يتوبوا فالقول الفصل هو: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
إذن فالحق سبحانه وتعالى قادر عليهم وقادر أن يأتي بهم مهما كانوا، وعلى النبي والمبلغين عنه أن يبشروا الكفار بالعذاب الأليم، والبشارة إعلام بخبر سار، والإنذار إخبار بسوء. فهل العذاب بشارة أم إنذار؟. نقول: إن هذا هو جمال أسلوب القرآن الكريم، يبشر الكفار فيتوقعون خبراً سارا: ثم يعطيهم الخبر السيئ بالعذاب الذي ينتظرهم؛ تماماً كما تأتي إلى إنسان يعاني من العطش الشديد، ثم تأتي بكوب ماء مثلج وعندما تصل به إليه ويكاد يلمس فمه تفرغه على الأرض، فيكون هذا زيادة في التعذيب وزيادة في الحسرة، فالنفس تنبسط أولاً ثم يأتي القبض.
وفي هذا يقول الشاعر:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ ** فَلَمَّا رَأَوْها أقْشَعتْ وتَجلَّتِ

وهكذا تكون اللذعة لذعتين، ابتداء مطمع، وإنتهاء ميئس بينما في الإنذار لذعة واحدة فقط. وانظر إلى قوله الحق تبارك وتعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29].
حين تسمع (يغاثوا) تتوقع الفرج فيأتي الجواب: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29].
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
والعذاب من الله يوصف مرة بأنه عظيم ومرة أخرى يوصف بأنه مهين وثالثة يوصف بأنه أليم، والسبب هو أن الوصف يختلف باختلاف المُعَذَّبين، وسيأخذ كل مسيء وعاص وكافر من العذاب ما يناسبه، فهناك إنسان يحتمل العذاب ولا يحتمل الإهانة، وهناك إنسان يحتمل الإهانة ولا يحتمل الألم، فكأن كل واحد من الناس سيأتيه العذاب الذي يتعبه، فإن كان لا يتعبه إلا العذاب العظيم جاءه، وإن كان لا يتعبه إلا الإهانة جاءته، وإن كان لا يتعبه إلا الألم جاءه.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً...}.

.تفسير الآية رقم (4):

{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
هذا استثناء، ولكنه استثناء مشروط بأن هؤلاء كانوا أمناء على العهد وموفين به ولم ينقصوا منه شيئا، أي لم يصدوا لكم تجارة ولم يستولوا على أغنام ولم يسرقوا أسلحتكم ولم يغروا بكم أحداً ولم يظاهروا عليكم أحداً؛ وهؤلاء هم بنو ضمرة وبنو كنانة، فلم يحث منهم شيء ضد المؤمنين فجاء الأمر بأن يستمر العهد معهم إلى مدته. ولقائل أن يقول: إن المستثنى يقتضي مستثنى منه،، ونقول: المستثنى منه هم المشركون في قوله الحق تبارك وتعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4].
والإنقاص معناه تقليل الكمّ إمَّا في الذوات، وإما في متعلقات الذوات، والإنقاص في الذوات يكون بالقتل، والإنقاص في متعلقات الذوات يكون بمصادرة التجارة أو الماشية، وسرقة السلاح.
إذن ففي الإنقاص هنا مرحلتان؛ مرحلة في الذوات أي بالقتل، ومرحلة في تابع الذوات وهي الأشياء المملوكة، ولذلك قال: {لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} أي شيء كان، سواء في الذوات أو متعلقات الذوات، وأيضا لم يغروا عليكم أحداً ولم يشجعوا أحداً على أي عمل ضد الرسول.
{وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4].
ويظاهر أي يعادل، وكلها مأخوذة من مادة الظهر، وهو يتحمل أكثر من اليد، فالإنسان لا يقدر أن يحمل جوال قمح بيده مثلا، ولكنه يقدر أن يحمله على ظهره. ولذلك يقول المثل العامي: من له ظهر لا يضرب على بطنه. إذن فالظهر للمعونة. والحق يقول: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
أي عالين.
والحق سبحانه وتعالى حين قص علينا نبأ تآمر بعض من نساء النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
فظهير في الآية الكريمة أي معين. ويأتي الحق هنا إلى منطقة القوة في الإنسان، لذلك يقال: فلان يشد ظهري. أي يعاونني بقوة. ويقال: ظهر فلان على فلان. أي غلبه وتفوق عليه، ويقال: وعلا ظهره. أي استولى على منطقة القوة منه؛ لذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في سورة الكهف عن ذي القرنين ذكر بعض اللقطات وقال: {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [الكهف: 93-95].
فالله سبحانه وتعالى لفتنا هنا إلى حقيقة علمية لم نعرفها إلا في العصر الحديث. فالسد إذا كان كله من مادة صلبة؛ يتعرض للانهيار إذا ما جاءت هزة أثرت في كل جوانبه، أما إن كان هناك جزء من بناء صلب على الحافة، وجزء صغير في المنتصف وجزء ثالث، ثم رابع، ويفصل بين كُلٍّ جزء ردم من تراب فالردم فيه تنفسات بحيث يمتص الصدمة، وهي نفس فكرة الإسفنج التي نحيط بها الأشياء التي نخاف عليها من الكسر لنحفظها، فلو أن الصندوق من الخشب أو الحديد أو أي مادة صلبة لتحطم الشيء الموضوع فيه بمجرد اصطدامه بالأرض صدمة قوية، ولكن إذا أحطناه بوسادة من الإسفنج فهي تمتص الصدمات.
وأنواع السدود التي تتلقى الصدمات يقال عنها: السد الركامي.
ونلتفت إلى قول الحق سبحانه: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95].
وهذا يدلنا على أن القوي يجب أن يعين الضعيف معونة لا تحوجه له مرة أخرى؛ لذلك يقال: لا تعط الجائع سمكة؛ ولكن علمه أن يصطاد السمك ليعتمد على نفسه بعد ذلك، وهذه هي المعونة الصحيحة، ولذلك نجد أن ذا القرنين رفض أن يأخذ مقابلا لبناء الردم؛ لأن مهمة الأقوياء في الأرض من أصحاب الطاقة الإيمانية أن يمنعوا الظلم بلا مقابل حتى يعتدل ميزان الحياة؛ لأن الضعيف قد لا يملك ما يدفعه للقوي. ولو أن كل قَوِيٍّ أراد ثمناً لنصرة الضعيف لاختل ميزان الكون وطغى الناس، ولكن الأقوياء في عالمنا يريدون أن يظلموا بقوتهم؛ لذلك يختل ميزان الكون الذي نعيش فيه. ولننظر إلى تفويض الله لذي القرنين وكيف أحسن ذو القرنين الحكم بين الناس، وأقام العدل فيهم وكيف ترصد الظالمين، قال القرآن الكريم على لسان ذي القرنين: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 87-88].
هكذا أقام ذو القرنين العدل، بتعذيب الظالم وتكريم المؤمن صاحب العمل الصالح.
وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين: (أعينوني) يعطينا كيفية إدارة العدل في الكون، فذلك الذي أعطاه الله الأسباب إن أراد أن يعين الضعفاء فعليه أن يشركهم في العمل معه، ولا يعمل هو وهم يتفرجون وإلاَّ تعودوا على الكسل فتفسد همة كل منهم. ولكن إذا جعلهم يعملون معه سيتعلمون العمل ثم يتقنونه فتزداد مهارتهم وقوتهم في مواجهة الحياة؛ لذلك نجد أن ذا القرنين أشرك معه الضعفاء، وقال لهم: {آتُونِي زُبَرَ الحديد} [الكهف: 96].
إذن فقد جعلهم يعملون معه ويبنون، وهذه أمانة القوي فيما آتاه الله تعالى من القوة، بل إننا نجده قد تفاهم معهم رغم أن الحق تبارك وتعالى قال فيهم: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93].
كيف تفاهم معهم؟ لعله استخدم لغة الإشارة وتحايل ليفهموا مقصده. ويدلنا القرآن على تفهمهم له أن قال الحق على لسانهم: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94].
قد تَمَّ بناء السد بمعاونة هؤلاء الضعفاء، وكان بناء هذا السد بصورة تتحدى طاقة العدوان في كل من يأجوج ومأجوج، وقد حاول كل منهما أن يصعد فوق السد ليتغلب عليه، ولكنه كان فوق طاقة كل منهما فلم يستطيعا اختراقه، وهذا وضحه لنا المولى سبحانه وتعالى في قوله: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 97].
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4].
أي لم يعينوا ولم يساعدوا أحداً من أعدائكم حتى يتغلب عليكم، وسماحته سبحانه وتعالى بإتمام مدة العهد تعني أن هذه المدة كانت أكثر من أربعة أشهر. وهكذا يعطينا سبحانه جلال عدالته، فسمح لمن كان العهد معهم أقل من أربعة أشهر، أن يأخذوا مهلة أربعة أشهر، والحق سبحانه لا يحب نقض العهد؛ لذلك طلب من المؤمنين أن يعطوا المشركين الذين عاهدوهم مدة العهد ولو كانت أكثر من أربعة أشهر؛ حتى يتعلم المؤمن أن يُوفِيَ بالعهد ما دام الطرف الآخر يحترمه. وزيادة المدة هنا؛ أو زيادة المهلة نابعة من قوة الله تعالى وقدرته؛ لأن كل من في الأرض غير معجزي الله، فإن طالت المدة أو قصرت فلن تعطي المشركين ميزة ما، فالله يستطيع أن ينالهم في أي وقت وفي أي مكان.
ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4].
والمتقون هم الذين يجعلون بينهم وبين أي شيء، يغضب الله وقاية. وإن تعجب بعض الناس من قول الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا الله} وقوله: {واتقوا النار} فإننا نقول: إن معنى {اتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجبروت لله وقاية، اتقوا صفات الجبروت في الله حتى لا يصيبكم عذابه، فلله صفات جلال منها المنتقم والجبار والقهار، وله صفات جمال مثل الرحيم، والوهاب، الرزاق، الفتاح، إذن اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية لكم وحماية من أن تتعرضوا لغضب الله تعالى، والإنسان يتقي صفات الجلال في الله بأن يتبع منهجه ويطيعه في كل ما أمر به لينال من فيض صفات الجمال. وقوله الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا النار} أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية حتى لا تمسكم النار.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ...}.