فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (37):

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
والنسيء هو التأخير، فكأنهم إذا ما دخلوا في قتال وجاء شهر حرام قالوا: ننقله إلى شهر قادم، واستمروا في قتالهم؛ وهم بذلك قد أحلُّوا الشهر الذي كان محرماً وجعلوا الشهر الذي لم تكن له حرمة؛ شهراً حراماً، وهنا يوضح الحق سبحانه أن هذا العمل زيادة في الكفر؛ لأنه أدخل في المحلل ما ليس منه، وأدخل في المحرم ما ليس منه؛ لأن الكفر هو عدم الإيمان فإذا بدَّلْتَ وغيَّرْتَ في منهج الإيمان، فهذا زيادة في الكفر.
ثم يقول سبحانه: {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} و{يُضَلُّ} هنا مبنية للمجهول؛ ومعنى ذلك أن هناك من يقوم بإضلال الذين كفروا، وهذه مهمة الشيطان؛ لأن هناك فرقاً بين الضلال والإضلال، فالضلال في الذات والنفس، أما الإضلال فيتعدى إلى الغير، فهناك ضال لا يكتفي بضلال نفسه، بل يأتي لغيره ويضله ويغويه على المعصية بأن يزينها له. ولذلك هناك جزاء على الضلال، وجزاء أشد على الإضلال، فإذا كان هناك إنسان ضال فهو في نفسه غير مؤمن، أي أن ضلاله لم يتجاوز ذاته، ولم ينتقل إلى غيره. ولكن إذا حاول أن يغري غيره بالضلال والمعصية يكون بذلك قد ضلَّ غيره. ويتخذ بعض المستشرقين هذه القضية مطعناً في القرآن- بلا وعي منهم أو فهم- فيقولون: إن القرآن يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18].
ثم يأتي في آية أخرى فيقول: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ...} [العنكبوت: 13].
فكيف يقول القرآن: إن أحداً لا يتحمل إلا وزره، ثم يقول: إن هناك من سيتحمل وِزْره ووِزْر غيره؟
ونقول لهم: أنتم لم تفهموا المعنى، فالأول: هو الضَّالُّ الذي يرتكب المعاصي ولكنه لم يُغْرِ بها غيره، أي: أنه عصى الله ولم يتجاوز المعصية. أما الثاني: فقد ضلَ وأضل غيره.. أي: أنه لم يكتف بارتكاب المعصية بل أخذ يغري الناس على معصية الله. وكلما أغرى واحداً على المعصية كان عليه نفس وِزْر مرتكب المعصية.
وهنا يقول الحق: {ضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} وطبعاً التحليل والتحريم هنا حدث منهم لظنهم أن هذه مصلحتهم، أي أنهم أخضعوا الأشهر الحرم لشهواتهم الخاصة، وخرجوا عن مرادات الله في كونه، يوم خلق السماوات والأرض.
ولكن لماذا يُحلُّونه عاماً ويُحرِّمونه عاماً؟ تأتي الإجابة من الحق: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي: ليوافقوا عدة ما أحله الله حتى يبرروا ويقولوا لأنفسهم: نحن لسنا عاصين، فإن كان الله يريد أربعة أشهر حرم، فنحن قد التزمنا بذلك! ولكن تشريع الله ليس في العدد فقط ولكن في المعدود أيضاً، وقد حدد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشهر الحرم.
وكان عمرو بن لحي أو نعيم بن ثعلبة هما أول من قاما بعملية النسيء هذه، فأحلَّ شهر المحرم، وحرَّم غيره وهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل كانوا يعرفون أن هناك أربعة أشهر حرم بدليل أنهم أحلوا وحرموا. ولو لم يعرفوها ما أحلوا ولا حرموا، ولكن هم أرادوا أن يُخضعُوا تشريع الله لأهوائهم. وهذا هو المغزى من تحليل شهر المحرم وتحريم شهر آخر، وأرادوا بذلك إخضاع مرادات الله لشهوات نفوسهم؛ لأن المحرم ثابت فيه التحريم، وهو شهر حرام سواء قام الإنسان بتأجيله أم لم يؤجله، فهو شهر حرام بمشيئة الله لا مشيئة الناس. ولذلك حكم الحق سبحانه على النسيء بأنه زيادة في الكفر؛ لأنك حين تؤخر حرمة شهر المحرم إلى شهر غيره، تكون قد قُمْتَ بعمليتين؛ أحللت شهراً حراماً وهذا كفر، وحرمت شهراً حلالاً وهذا كفر آخر.. أي: زيادة في الكفر. ثم يقول الحق سبحانه: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} وقد حكم الله عليهم بالكفر بأنهم أحلوا ما حرمه الله.
ثم يقول الحق: {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ} والتزيين: هو أمر طارئ أو زائد على حقيقة الذات مما يجعله مقبولاً عند الناس، فالمرأة مثلاً لها جمال طبيعي، ولكنها تتزيين. إذن: فالتزيين تغيير في المظهر وليس في الجوهر. وهناك تزيين في أشياء كثيرة، تزيين في الفكر مثلاً، بأن يكون هناك استعداده للقتال فيأتي القائد فيزين للمقاتلين دخول المعركة، ويقول: أنتم ستنتصرون في ساعات، ولن يصاب منكم أحد وسيفِرّ عدوكم؛ هذا تزيين محمود.
ولذلك أراد الحق أن يكشف لنا حقيقة التزيين الذي قاموا به حين حللوا حرمة الأشهر الحرُم، وكشف لنا سبحانه أن هذا لون من التزيين غير المحمود فقال: {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} وما دام قد زُيِّن لهم السوء فهذا العمل قد خرج عن منطقة الهداية، وخرج عن نطاق التزيين المحمود إلى التزيين السيئ. وما داموا قد خرجوا عن هداية الله فلن يعينهم الله؛ لأنه سبحانه لا يعين من كفر، ولا يعين من ظلم، ولا يعين من فسق.
ولذلك قال سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: أنهم بكفرهم قد أخرجوا أنفسهم عن هداية الله، فالحق سبحانه لم يمنع عنهم الهداية، بل هم الذين منعوها عن أنفسهم بأن كفروا فأخرجوا أنفسهم عن مشيئة هداية الله لهم، وهذا ينطبق فقط على هداية المعونة، ونحن نعلم أن لله سبحانه هداية دلالة وهداية معونة؛ هداية الدلالة هي للمؤمن وللكافر، ويدل الله الجميع على المنهج، ويريهم آياته، وتبلغ الرسل منهج السماء الذي يوضح الطريق إلى رضاء الله والطريق إلى سخطه وعذابه. فمن آمن بالله دخل في مشيئة هداية المعونة، فيعينه الله في الدنيا ويعطيه الجنة في الآخرة. أما من يرفض هداية الدلالة من الله، فالله لا يعطيه هداية المعونة؛ لأن الكفر قد سبق من العبد.
وكذلك الظلم والفسق، فيكون قد منع عن نفسه هداية المعونة بارتكابه لتلك الآثام.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37]. {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 19]. {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
إذن: هم الذين قدَّموا الكفر والظلم والفسوق، فمنعوا عن أنفسهم هداية المعونة التي قال الحق عنها: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
وبعد أن طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يواجهوا الباطل جميعاً، كما يجتمع الباطل عليهم ويقاتلهم جميعاً. يقول سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم...}.

.تفسير الآية رقم (38):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
وساعةَ تسمع {ياأيها الذين آمَنُواْ} فهذا نداء خاص بمن آمن بالله؛ لأن الله لا يكلف من لم يؤمن به شيئاً، ولكنه كلف الذين آمنوا، فلا يوجد حكم من أحكام منهج الله فيه تكليف لكافر أو غير مؤمن. ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين. ولذلك ساعةَ تسمع: {ياأيها الذين آمَنُواْ} تعرف أن الله يخاطب أو يأمر من آمن به؛ لأنك أنت الذي آمنت باختيارك، ودخلتَ على الإيمان برغبتك، فالحق سبحانه لم يأخذك إلى الإيمان قهراً، ولكنك جئت للإيمان اختياراً، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لك: ما دُمْتُ قد آمنت بي إلهاً قادراً قيُّوماً، له مطلق صفات الكمال، فاسمع مني ما أريده لحركة حياتكَ.
ولا يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في الإيمان ولا ينفذ المنهج، ولا يحسب أحد أنه قادر أن يضر الله شيئاً، وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الأطباء، ولم يجبره أحد على أن يذهب إليه، وأجرى الطبيب الكشف على المريض، وحدد الداء وكتب الدواء، ولكن المريض بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها، أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله. أيكون بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه؟
إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض، ولكنه هو الذي سيزداد عليه المرض ويقود نفسه إلى الهلاك، وكذلك الإنسان إن لم يتبع منهج الله، فإنه يضيع نفسه ويُغرقها في الشقاء؛ لأن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علاج لكل أمراض الإنسان، فإن عمل به الإنسان نجا من بلاء الدنيا، وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء. بل يمتلئ بالرخاء والأمن والطمأنينة، ومن لم يعمل به فلن يضر الله شيئاً، بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه.
وحين يخاطب الحق سبحانه الذين آمنوا يوضح: خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى لا يذكر أمراً من أوامره بأي تكليف أو نهياً من نواهيه، إلا مسبوقاً بقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ} مثل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...} [البقرة: 183].
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص...} [البقرة: 178].
وهذه التكليفات لمَ تأتِ مبنية للمعلوم، فمن الذين يكتب؟ إنه الحق سبحانه، كما أنها صيغة مبنية دائماً لما لم يُسَمَّ فاعله، أي: أن الكتابة أتت من كثير. ونقول: صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب، فلماذا لم يقل: يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم. ولماذا يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}؟. ونقول: لأن الله وإن كان قد كتب، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه، بل كتبها على الذين آمنوا به، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزماً بعناصر التكليف، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك، ولكن التزامك تم في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان.
وبذلك تكون كل هذه الأحكام قد كُتِبتْ علينا باختيار كل منا، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوباً عليه أن ينفذ أحكام الإيمان؛ لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه؛ وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد، فلم ينسبه لذاته العلية فقط، بل شمل أيضاً كل مَنْ دخل في الإيمان.
ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله، نقول له: إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف. ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوي، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده؛ فالطبيب يرفض المناقشة، ويقول للمريض: ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات، واحصل على الدرجات العلمية، ثم تَعَالَ وناقشني.
إذن: فأنت تربط علة التكليف بأمر المكلف، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ. أما إذا جئنا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه، ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر؛ لأنه مُسَاوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره، لكن إنْ أردتَ أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساويًا لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة.
إذن: فالمكلف لابد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف، ومنزلة الحق أنك آمنت به، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانياً، فإذا قيل: إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع؛ ليعطف على الفقير، نقول: لا، وإلا سقط الصوم عن الفقير؛ لأنه يعرف ألم الجوع جيداً. وإذا قيل لنا: إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا. نقول: إن هذا غير صحيح، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...} [البقرة: 185].
فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر، فكيف يأتي إنسان ويقول: إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسْمَح معها بالصوم.
إذن: فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، وما دام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك، فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيماناً، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان؛ لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قَلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير؛ لأننا نأخذ التكليف من الله، وليس من أي مصدر آخر.
ونعود إلى خواطرنا حول الآية الكريمة: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض}، ونجد كلمة: {مَا لَكُمْ} تأتي حين نتعجب من حال لا يتفق مع حال، وكأن حرب المؤمنين للكفار أمر متوقع وتقتضيه الحال؛ لأن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما يدخلون شيئاً من اليقين على أهل الاستقامة، فأهل الاستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي الكافرين فقد ينحرف على أيدي الكفار، فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه؛ لأنه يرى عدوه وهو يتلقى النكال. كأن تقول للتلميذ: ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَرُبَ الامتحان؟ أي: أن المفروض أنه إذا قرب الامتحان لابد أن يجتهد الطالب في المذاكرة. فإن أهمل التلميذ عمله فنحن نتعجب من سلوكه؛ لأنه لا يتفق مع ما كان يجب أن يحدث. وبذلك نستنكر أن يحدث مثل هذا الإهمال، مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم.
ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْعَوْنَ إلى القتال؛ لأن قوة الإيمان تدعو دائماً إلى أن يكون هناك استعداد مستمر للقتال، وهذا الاستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم واستهتارهم بالمؤمنين أولاً، كما أنه ثانياً يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت. ويعطي ثالثاً شيئاً من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا استهانوا بمجتمع الإيمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين.
إذن: فَلِكَيْ يبقى المجتمع المؤمن قوياً وآمناً؛ لابد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل الله ورغبة في الشهادة، وهنا يقول الحق: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله} فكأن الاستعداد المستمر للقتال في سبيل الله أمر لابد أن يوجد بالفطرة وبالعقل، فإذا ضَعُفَ هذا الاستعداد أو قَلَّ صار هذا الأمر موطناً للتعجب؛ لأن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائماً، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة، ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعُوا للقتال في سبيل الله أو أن يتكاسلوا.
وقوله سبحانه: {انفروا} من (النفرة) وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار الإنسان، فحين يكون الإنسان جالساً في مكانه، قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب مع الأمر المهيج، فأنت مثلاً إذا رأيت إنساناً سيسقط في بئر، فهذا الأمر يهيجك، فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيداً، ومنه النُّفْره التي تحدث بين الأحباب الذين يعيشون في وُدٍّ دائم، وقد يحدث بينهم أمر يُحوِّل هذا الود إلى جَفْوة.
إذن: فكلمة {انفروا} تدل على الخروج إلى أمر مهيج، وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن يكون؛ لأن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم.
وقول الحق سبحانه: {انفروا} يدل على الاستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين. ويقول الحق تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم}.
والثقل معناه: أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله، فإن قلت: إن هذا الشيء ثقيل فهذا يعني أن وزنه مثلاً أكبر من قوة عضلاتك فلا تستطيع أن تحمله. أما التثاقل فهو عدم موافقة الشيء لطبيعة التكوين. كأن تقول: فلان ثقيل أي أن وزنه ضخم ولا يستطيع أن يقوم من مكانه إلا بصعوبة، ولا أن يتحرك إلا بمشقة.
ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة، أي: لك قدرة على الفعل، ولكنك تتصنع أنك غير قادر، كأن يكون هناك- على سبيل المثال- شيء وزنه رطل، ثم تدَّعي أنه ثقيل عليك ولا تستطيع أن تحمله.
إذن: فقوله تعالى: {اثاقلتم إِلَى الأرض} أي: تكلفتم الثقل بدون حقيقة، فأنتم عندكم قدرة على القتال ولكنكم تظاهرتم بأن لا قدرة لكم.
وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر؛ لأن المنهج الذي ارتضوه لأنفسهم والتزموا به يحقق السلامة والأمن والاطمئنان لهم ولغيرهم، وكأن التثاقل إلى الأرض له مقابل، فالنفرة تكون في سبيل الله، والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس.
لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل الإنسان يُقبِلُ على المعصية، وهي النفس التي تُحدِّث الإنسان بشيء، فالإنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط. فما الفرق بين الاثنين؟ وكيف يتعرف الإنسان على ذلك؟ قال العلماء: إذا كانت النفس تُلحُّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث إذا صرفتها عنها عادت تُلِحُّ عليك لاقتراف نفس المعصية لتحقق متعة عاجلة، فهذا إلحاح من النفس الأمَّارة بالسوء.
ولكن الشيطان لا يريد منك ذلك، إنه يريدك مخالفاً لمنهج الله على أي لون، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام، فهو يزين لك شهوة النساء، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر. إذن: فهو يريدك عاصياً بأي معصية، ولكن النفس تريدك عاصياً بنفس المعصية التي تشتهيها. وهذا هو الفرق.
وهكذا نعرف أن هناك واقعين، واقعاً يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج الله في الأرض، وواقعاً يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال، وذلك إما بسبب حب الدنيا لتحقيق شهوة النفس أو إغراء الشيطان، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة} والرضا هو حب القلب، فيقال: فلان رَاضٍ لأنه مسرور بالحال الذي هو فيه.
ومعنى تثاقل المؤمنين عن القتال في سبيل الله، أن هناك شيئاً قد غلب شيئاً آخر في داخل نفوسهم، فالرضا بالحياة الدنيا قد تغلَّبَ على حب الآخرة. ولكن المنطق الإيماني يقول: إنه إذا كان هناك أمر آخر غير الدنيا، أو حياة أخرى غير حياتنا الدنيوية، فلابد أن نقارن بين ما تعطيه الدنيا وبين ما تعطيه الآخرة، فإذا رضينا بما تقدمه لنا هذه الحياة المادية، يكون المؤمن بلا طموح وبلا ذكاء؛ لأنه رضي بمتاع قليل زائل وترك متاعاً أبدياً ممتداً بقدرة الله.
وأنت لو نظرت إلى الدنيا نظرة فاحصة، تجد أنها متغيرة متبدلة، فالصحيح يصبح مريضاً، والغني يصبح فقيراً، والقوي يصبح ضعيفاً.
إذن: فمتاع الدنيا متغير ولا عصمة لك فيه، وأنت لا تستطيع أن تعصم نفسك من المرض أو من الضعف أو من الفقر؛ لأن هذه كلها أغيار تحكمك ولا تحكمها أنت؛ تقهرك ولا تستطيع أنت أن تقهرها. فإن رضيت بمتاع الدنيا اليوم فأنت لا تضمن استمراره إلى غد.
ولهذا ينبغي ألا تؤخر تنفيذ ما يكلفك به الله؛ لأنك الآن تستطيع أن تؤديه، لكن أنت لا تضمن إن كنت قادراً غداً أم لا. كذلك لا تأخذ التكليف على أنه قد يسلبك حريتك أو مالك، بل هو يسلبك ويعطيك في نفس الوقت. فإذا أمر الله سبحانه بأن تُخرِجَ الزكاة، قد تعتقد أن هذا يُنقصُ مالك، أو تقول: هذه غرامة. نقول: إن هذا في ظاهر الأمر قد يكون صحيحاً، ولكنه سبحانه يأخذ منك هذا المال فيزيده لك ويُنميه فإذا بالجنيه الواحد قد تضاعف إلى سبعمائة مِثْل، ثم تضاعف إلى ما شاء الله، كما أن هذا الحكم الذي يأخذ منك الآن وأنت غني، هو بذاته الذي سوف يعطيك إن افتقرتَ ولجأت إلى الناس. فإذا كان الحكم الذي سيأخذ هو الذي سيعطي تكون هذه عدالة وتأميناً ضد الأغيار، وعليك أن تقارن الصفقة النفعية بمقابلها، وساعةَ تعطي أنت الذي لا يملك، لابد أن تتذكر أنه قد يأتي عليك يَوْمٌ لا تملك فيه.
وكلمة دنيا بالنسبة لحياتنا أعطتنا الوصف الطبيعي الذي ينطبق عليها؛ لأن (الدنيا) مقابلها (العليا). والحياة العليا تكون في الآخرة. فإذا كانت هذه هي الحياة الدنيا. فلماذا تربط نفسك بالأدنى إلا أن يكون ذلك خَوَراً في العزيمة؟
والمثال للقوة الإيمانية هو: سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان قبل أن يصبح خليفة المؤمنين يرتدي أفخر الثياب ويتعطر بأجمل العطور، وكان الناس يدفعون أموالاً لمن يغسل ثياب عمر بن عبد العزيز ليدخلوا ثيابهم مع ثيابه حتى تمتلئ عطراً. وذلك من غزارة وجود العطر الذي كان يضعه عمر بن عبد العزيز على ثيابه فتخرج كل الثياب مليئة بالعطر. وعندما أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة، كانوا يأتونه بالثوب الخشن الذي كان يرفض ارتداءه قبل الخلافة، فيرفضه ويقول: هاتوا أخشن منه، وامتنع عن العطر، أي: أن معاييره قد تغيرت وليس في هذا أدنى تناقض، بل هو علو في الحياة، ولذلك قال: اشتاقت نفسي إلى الإمارة فقلت لها: اقعدي يا نفْسُ، فلما نلْتُهَا اشتاقت نفسي إلى الخلافة فنهيتها عن ذلك، فلما نلْتُها؛ أي نال الخلاَفة، اشتاقت نفسي إلى الجنة فسلكتُ كل طريق يؤدي إليها.
وهكذا نعرف أن سلوكه رضي الله عنه لم يكن في تناقض بل تعلية للصفقة الإيمانية. كان دائماً في علو يريد أن يواصله، فقد اشتاق أولاً إلى الإمارة، فلما تحققت أراد أن يعلو فاشتاق للخلافة، فلما تحققتْ أراد أن يعلوَ فاشتاق إلى الجنة، إذن: فهو دائماً في عُلُوٍّ.
وأقول: ليس في سلوكه أدنى تناقض؛ لأن علماء النفس يفسرون التناقض في السلوك البشري على أنه اختلاف في المقارنة، فالإنسان يقارن بشيء ثم يقارن بشيء آخر وهكذا؛ لأن كل شيء في الدنيا نسبي. ومعنى النسبية أن ينسب الشيء لما حوله، فإذا قلت: إنني أسكن فوق فلان، فأنت في نفس الوقت تسكن تحت فلان الذي يعيش في الطابق الذي يعلوك.
إذن: فأنت فوق فلان وتحت فلان في نفس الوقت، فلا تأخذ نقطة وتغفل عن الأخرى، وهذا اسمه (معنى إضافي) أي: أن المعاني لا تتحقق بذاتها، ولكن بالنسبة إلى شيء تقاس به، وكذلك المقاييس بين الأشياء يجب أن نقيسها بالأمور التي تُصعد لك القيمة. فأنت إذا نظرت إلى الدنيا؛ تجد أن الحق سبحانه أسماها: دُنْيا ولم يجد اسماً أقلَّ من هذا ليسميها به، لماذا؟ لأنك تتنعم في الدنيا على قدر وجودك فيها، أي على قدر عمرك، وهو مهما زاد وطال فهو سنوات معدودة، وقد يكون متاعك منها حتى سنِّ الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين. أو أكثر من ذلك أو أقل. ومتاعك فيها بما تحققه قدراتك، فالذي عنده ألف جنيه يتمتع على قدرها، والذي عنده عدة ألوف متاعه على قدرها، وصاحب الملايين متاعه أكبر.
إذن: فكل واحد يتمتع بقدر ما عنده من مال. وحتى إن وصل الإنسان إلى أعلى متاع في الدنيا؛ متاع صاحب الملايين، فهذه الملايين إما أن تزول عن صاحبها، وإما أن يترك هو هذه الملايين بالموت. وهذه تتحقق وهذه تتحقق. إذن: فنعمة الدنيا إما أن تنخلع منك أو تنخلع أنت منها.
فإذا جئتَ إلى المقابل وهو الآخرة تجد أن النعيم فيها دائم لا يزول عنك، وأنت خالد لا تزول عن النعمة بالفناء أو الموت، وأنت لا تتمتع في الآخرة بقدراتك أنت، بل بقدرة الله سبحانه. فكأن المتاع أكبر كثيراً من قدرتك، وأعلى كثيراً من كل ما تستطيع أن تحققه. فمثلاً: إن كان معك ريال وجاءك رجل فقير فأعطيته له ليأكل به، تكون في ظاهر الأمر قد آثرتَ الفقير على نفسك؛ لأنك أعطيته كل ما تملك ليأكل به وحرمت نفسك منه، ولكنك في الحقيقة فضَّلْتَ نفسك على الفقير؛ لأنك أعطيته هذا الريال ليكون عند الله عشرة إلى سبعمائة ضعف، فمَنْ منكما الذي استفاد؟ ومَنْ منكما الذي انتفع؟ إنه أنت.
ولذلك نجد أن الدين الصحيح ضد الأنانية الحمقاء، ويُعْلي فيك الأنانية العاقلة بأن يجعلك تحب نفسك حباً أعلى. فأنت حين تتصدق تحب نفسك، ولذلك تريد أن تعطيها الأعلى والأنفع. فظاهر الأمر أنك أعطيت، وفي حقيقته أنك قد أخذت. وأنت حين تعطي إنساناً مساوياً لك كأن تقدم له هدية في مناسبة معينة، تنتظر أن يرد إليك الهدية بمثلها في مناسبة أخرى. إذن: فالعطاء مُتَساوٍ، وقد يرد هذا الإنسان الهدية، وقد لا يردها. وقد ينوي ردها ولكن تصادفه ظروف لا تُمكِّنه من أن يردها لك. لكن الحق سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً...} [البقرة: 245].
إذن: فحينما تعطي ابتغاء وجه الله فأنت لا تحصل على عطاء مُسَاوٍ لما أعطيت. لكنك تحصل على عطاء مضاعف أضعافاً مضاعفة. والذي يعطيك الثواب هو الله سبحانه وتعالى دائم الوجود، ولن ينفد عطاؤه لك؛ لأنه دائم القدرة، ولن يأتي عليه وقت يكون غير قادر على أن يرد لك ما أعطيت؛ لأن عنده كنوز السماوات والأرض؛ وهو سبحانه قادر على أن يضاعف لك مهما كانت قيمة عطائك. فإن فضَّلْتَ الحياة الدنيا على الآخرة، فأنت تقيس بمقاييس الكمال عندك وهي مقاييس ساقطة وهابطة، ولو كنت تملك المقياس الصحيح لعرفتَ أن الذي يحقق لك النفع الأكبر هو أن تعطي وتعمل طلباً للآخرة وليس للدنيا. ولذلك فالحق سبحانه يقول هنا: {أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة} أي: أنكم أردتم الحياة الدنيا بدل الآخرة. وهذه مقارنة غير عاقلة وغير حكيمة.
وكلمة {مِنَ} تدل على البدل في قوله: {بالحياوة الدنيا} ومادة البدل والاستبدال البيع والشراء، ونعرف أن الباء تدخل على المتروك، فأنت تقول: اشتريت الشيء بكذا درهم، أي: تركت الدراهم مقابل شرائك الشيء، كأن هؤلاء الراضين بالحياة الدنيا قد أخذوا الدنيا بدلاً من الآخرة، وهذه صفقة تخلو من العقل والحكمة.
وبعد أن استنكر الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يرضوا بالحياة الدنيا ويتركوا الآخرة يقول سبحانه: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} والمتاع: هو ما يستمتع به. والإنسان لا يستطيع أن يوقن أنه سيستمتع بالحياة، وهذا أمر مطعون فيه، فليس كل كائن حي مستمتعاً بالحياة، هناك أشقياء وهناك تعساء، وهناك مَنْ يُدريهم ماذا يحمل المستقبل لهم؟ ألا يمكن أن يكون استمتاعهم هذا وقتياً؟ ألا يمكن أن يأتيهم ظرف من الظروف؛ أو قدر من الأقدار يملأ حياتهم بالشقاء؟
إننا نجد العقلاء- حين يرون في نعمة الله عليهم ما يكدر حياتهم- يشكرون الله، بينما نجد الإنسان السطحي التفكير والفهم يستاء وينفعل ويزيد الموقف معاناة.
العاقل- إذن- يعرف أن الإنسان يعيش في دنيا أغيار، ومعنى أننا نعيش في دنيا أغيار أنه تأتي أحداث تنقلنا من حال إلى حال، أي من الغنى إلى الفقر. أو من الصحة إلى المرض إلى غير ذلك من أحوال الدنيا المتقلبة المتغيرة، ففي الدنيا لا يدوم حال، وما دامت الدنيا أغياراً؛ فأحوال الناس تتغير فيها دائماً.
وهَبْ أن إنساناً وصل إلى القمة التي لا يوجد أعلى منها. نقول له: لا داعي أن يأخذك الفرح والكبر والخيلاء، ولا تنس أنك تعيش في دنيا أغيار، وأن دوام الحال من المحال، فلو دامت لغيرك ما وصلتَ أنت إلى القمة؛ لأن مَنْ كان عليها سقط فصعدتَ أنت.
إذن: فمعنى هذا أنك وإن وصلتَ للقمة فلن تثبت عليها وتبقى هكذا بلا تغيير. وما دمتَ قد وصلت إلى أعلى ما يمكن، فالتغيير الوحيد الذي يمكن أن يحدث لك هو أن تنزل؛ لأنك وصلت إلى قمة الصعود، ولم يَعُدْ بعدها شيء تصعد إليه. فالتغيير المتوقع لابد أن يكون إلى أسفل، ويقال: (ترقَّبْ زَوالاً إذا قِيل تَمّ)، ولهذا نجد أهل الحكمة والبصيرة يقولون: إن المصائب في الأموال والأنفس من تمائم النعمة، وكأن الحق لا يريد أن يتمم النعم؛ لأنه إن تمت تزول؛ لأن المصيبة ما دامت قد حدثت فلابد أن تزول.
وسبحانه حين يقول: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} يريد أن يبين لنا أن متاع الآخرة أكبر، فأنت حين تقول: شيء في شيء. فأيهما يكون أكبر؟ إنه الذي يدخل فيه الشيء الآخر، فإذا قلنا: فلان في البيت، فمعنى ذلك أن البيت أكبر من فلان هذا، وإلا لما احتواه داخله. وإن قلنا: محمد في جدة أو في المملكة السعودية أو في مصر؛ يكون هناك ظرف ومظروف، والمظروف عادة أوسع من الظرف، وسعته كبيرة لدرجة أنه تحيط بالظرف من كل جوانبه.
وقول الحق سبحانه: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} معناه: أن متاع الدنيا يتوه في متاع الآخرة؛ لأن متاع الآخرة أوسع ويحتوي متاع الدنيا ويزيد، وما دام الكلام بقدرة الله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أن سعة متاع الآخرة بالنسبة لمتاع الدنيا لا نهائية. فإذا زاد الحق سبحانه وقال: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} فهو لإعطاء صورة لسعة متاع الآخرة.
لكن هذا الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلٌ} إنما هو لمخاطبة العقول بالنسبة لقمة المتمتعين في الدنيا.
ومثال هذا: أنك تجد إنساناً قد أعطاه الله قمة متاع الدنيا، وتجده يعتقد أن المتاع لا يمكن أن يزيد على ما وصل إليه، فيوضح الحق سبحانه وتعالى له: لو أنك متمتع بكل ما تستطيع أن تعطيه لك الدنيا فهو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل.
وإذا كان غير المتمتع بشيء من متاع الدنيا ينظر إلى مَنْ أعطاه الله سبحانه وتعالى قمة متاع الدنيا ويتساءل: هل هناك متاع أكثر من ذلك؟ إن هذا الإنسان متمتع بكذا وكذا وكأنه يعيش في الجنة، ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك متاع أكثر من هذا. نقول له: لا، إن ما تحسبه نهاية لما يمكن أن يتمتع به الإنسان هو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل.
إذن: فقوله سبحانه: {إِلاَّ قَلِيلٌ} ليس مقصوداً به المتعة العادية للدنيا التي يتمتع بها الناس، ولكن المقصود به متاع القمة الذي لا يصل إليه ولا يحدث إلا لأفراد قليلين في العالم. فقد يعيش إنسان في قصر ضخم، وحوله المئات من الناس يخدمونه، وعنده من الأجهزة الإلكترونية وغيرها ما يجعله بمجرد أن يريد شيئاً يضغط على زر صغير فيجد ما يريده أمامه، وكل شيء حوله يحقق له رغباته، بل إنه يعيش في درجة الحرارة التي يريدها داخل قصره، وعنده أفخر أنواع الطعام والشراب، وإذا أراد أن ينتقل من مكان إلى آخر؛ ضغط على زر فيتحرك به الكرسي إلى المكان الذي يريده وكل مَنْ حوله يطيعونه طاعة عمياء، فكل رغباته أوامر، وحياته تشبه الحلم الجميل.
إذا عاش إنسان في هذا الجو وانبهر بهذه النعم كلها يستوقفه رب العزة سبحانه ويوضح له: لا تنبهر، فهذا المتاع الذي تعيش فيه بالنسبة للآخرة قليل.
فإذا قرأ الناس أو سمعوا أو شاهدوا ما يعيش فيه هذا الإنسان من متعة وانبهروا بها، يوضح لهم الله: لا تنبهروا ولا يأخذكم العجب، فكل هذا الذي ترونه أمامكم بالنسبة لمتاع الآخرة قليل.
إذن: فقوله سبحانه: {إِلاَّ قَلِيلٌ} يدل على أن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تحب القليل من النعم بل تريد الكثير، ولهذا نجد الحق سبحانه وتعالى يُنفِّر عباده من أن تفتنهم نعم الدنيا مهما بلغت، فيوضح لهم: لا تظنوا أن هذه النعم كثيرة، بل إنها نعم قليلة بالنسبة لما ينتظركم في الآخرة، فإذا كان الإنسان بفطرته يحب كثرة النعم، ففي هذه الحالة لن تفتنه نعم الدنيا، بل سوف يطلب نعم الآخرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن ابن آدم أعطي وادياً ملآن من ذهب أحبَّ إليه ثانياً، ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً».
أي: أن الإنسان الذي امتلك واديين يريد أن يحتفظ بالواديين كما هما ويطمع في امتلاك الوادي الثالث، رغم أنه قد لا يعيش لينفق مقدار وادٍ واحد. فالإنسان بطبعه لا يحب القليل من النعم بل يطلب الكثير، لماذا؟ لأن كثيراً من الناس ينسون الآخرة، ويعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، ولهذا تجد الإنسان منهم يريد أن يحتاط لنفسه، فإذا أخذ ما يكفيه يريد أن يحتاط لأولاده، فإذا كان عنده ما يكفيه هو وأولاده يريد أن يحتاط لأحفاده.
ولكن المؤمن الحق هو من يعرف أن الحياة الدنيا طريق العبور إلى الآخرة، وأنها رحلة قصيرة تنتهي، فلا يهتم بهذا اللون من الاحتياط، ولكن الذي يحرص على عملية الاحتياط هذه هو من يظن أن الحياة الدنيا هي الغاية من الخلق، ولا يتنبه إلى أنه وسيلة للآخرة.
إننا نجد أولئك الذين يسرفون على أنفسهم ويتبعون شهواتهم وهم يحاولون أن يأخذوا من الدنيا كل شيء يمكن أن تعطيه لهم حلالاً أو حراماً، وهذا واضح في سلوكهم الدنيوي.
أما المؤمن فهو كالطالب الذي يَجِدُّ في دروسه ويجتهد ويستيقظ مبكراً ويذهب إلى المدرسة، ويظل ساهراً ليذاكر ويحرم نفسه من مُتَعٍ كثيرة؛ لأنه بفطنته وذكائه يعرف أن هذا حرمان مؤقت. وهو إنما يفعل ذلك لفترة قصيرة ليستريح بقية العمر، ويحصل على المركز المرموق والدخل المرتفع إلى آخر ما يمكن أن يعطيه له المستقبل. أما المسرف على نفسه فهو كالطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ويقضي وقته في اللعب والاستمتاع، وهو بمثل هذا السلوك كان قصير النظر، وأعطى لنفسه شهوة عاجلة ليظل في معاناة بقية حياته.
إذن: فكل من الطالبين أعطى نفسه ما تريد؛ الأول: أعطى نفسه مستقبلاً مريحاً ممتدّاً، وصار قمة من قمم المجتمع، والثاني: أعطى نفسه متعة عاجلة زائلة، ثم صار بعد سنوات قليلة صعلوكاً في المجتمع لا يساوي شيئاً.
إذن: فإياك أن تنظر تحت أقدامك فقط؛ لأن العالم لا ينتهي عند موقع وقوف قدميك هاتين، ولكنه ممتد إلى آفاق بعيدة، فإذا نظرتَ إلى هذه الآفاق، فلا يليق بك أن تختار متعة وقتية قليلة.
وقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38].
نزل في غزوة تبوك، وهي أول غزوة للمسلمين مع غير العرب، وسبقتْها كل المعارك بين المسلمين وبين الكفار والمشركين، ودارت على أرض الجزيرة العربية معارك مع المشركين في بدر أو في مكة، أو مع اليهود في مجتمع المدينة، فقد كانت هذه معارك في محيط الجزيرة العربية، ولكن غزوة تبوك كانت مع الروم على الحدود الشمالية للجزيرة العربية. وحينما بدأ تجهيز الجيش ليذهب إلى تبوك لمحاربة الروم تثاقل المسلمون. وهنا يبرز استفهام: كيف يحارب المسلمون الروم، وهم الذين حزنوا حين انتصر الفرس على الروم؟ أيحزن المسلمون لهزيمة الروم ثم يذهبون ليحاربوهم؟
نقول: نعم؛ لأن المواقف الإيمانية ليست مواقف في قالب من حديد، ولكنها تتكيف تبعاً لمواقف الكفار من الإيمان والإسلام.
ولذلك فإن المؤمن الحق ينفعل للأحداث انفعالاً إيمانياً، وعلى سبيل المثال، نجد قلب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه مملوءاً رقة ورحمة، بينما قلب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مملوءاً قوة وحزماً، انظر إلى موقف الاثنين عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى؛ وارتد عدد من المسلمين عن الإسلام، ومنعوا الزكاة؛ وقرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يحارب هؤلاء المرتدين؛ لأنهم أنكروا ركناً من أركان الإسلام، هنا وقف عمر بن الخطاب ضد رأي أبي بكر وقال: يا أبا بكر أنحارب أناساً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقال أبو بكر: أجبار يا عمر في الجاهلية خوّار في الإسلام؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه.
وهكذا انقلبت المواقف؛ فالقوة والشدة ملأت قلب أبي بكر الذي كان مشهوراً بالرقة والرحمة والعطف، بينما امتلأ قلب عمر باللين، وهو المشهور بالشدة والقوة. ولو أن عمر هو الذي قال كلمة أبي بكر لقالوا: شدة ألفها الناس من عمر.
ولكن الناس قالوا عن عمر الشديد: (قد لاَنَ قلبه بينما اشتد قلب أبي بكر) هذه هي المواقف الإيمانية التي تملأ نفس كل مؤمن. فالذي يصنع موقف المؤمن هو إيمانه لا طبعه؛ ولذلك قال الحق في وصفه للمؤمنين: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين...} [المائدة: 54].
وكيف يكون الإنسان عزيزاً وذليلاً في الوقت نفسه؟ وكيف يوصف الشخص نفسه بأنه عزيز وذليل؟ وكيف يمكن أن يجتمع النقيضان في شخص واحد؟ لكنك تقرأ ما يطمئنك في قول الحق: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ...} [الفتح: 29].
لقد وصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم أشداء، ووصفهم أيضاً بأنهم رحماء، ولكي تفهم هذا المعنى عليك أن تعلم أن المواقف الإيمانية هي التي تحدد مشاعر المؤمن، ولا تحددها طباعه الخاصة والشخصية، وهو يُكيِّف مواقفه حسب الموقف الإيماني وما يتطلبه، فهو شديد ورحيم، وذليل وعزيز.
ونعود إلى غزوة تبوك التي نزلت فيها الآية التي نتناولها بخواطرنا وإلى السؤال: كيف يحارب المسلمون الروم، وقد حزنوا يوم هزيمة الروم من الفرس؟ ونقول: لقد حزن المسلمون لأن إلحاداً ينكر الألوهية قد انتصر على إيمان مرتبط برسالات السماء؛ ولأن الروم- وهم نصارى- مرتبطون برسالات السماء. ولذلك فهم أقرب إلى قلوب المؤمنين من الكفار، إذن: فالمسألة قد أُخِذَتْ من ناحية الوجود الإلهي. أما في غزوة تبوك فقد أُخِذَتْ من ناحية قبول المنهج الناسخ ومنع الدعوة له، ولهذا تحول الموقف في غزوة تبوك إلى عداء إيماني، وهذا هو السبب الذي أدَّى إلى الحرب.
فإذا نظرنا إلى الغزوة نفسها نجد أن تبوك تبعد عن المدينة بمسافة كبيرة، ووقت الغزوة كان صيفاً شديد الحرارة، كما أنها كانت بعد غزوة حنين التي قاتل المؤمنون فيها قتالاً شديداً.
وكان العام عام عسرة، فلم يكن مع الجيش ما يكفيه من طعام أو خيل أو جمال.
إذن: فقد اجتمعت المشقة في هذه الغزوة؛ مع حرارة الجو؛ وبُعْد المسافة، وكانت قوى المسلمين مُنْهكَة من غزوة حنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج لغزوة، لا يخبر عنها أصحابه إلا عندما يصلون إلى مكان القتال؛ إلا هذه الغزوة فقد بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته قبل أن يغادروا المدينة؛ لكي يستعدوا للمشقة التي تنتظرهم. وتباطأ المسلمون، وبعضهم كان يستمتع بالجلوس في ظل البساتين الموجود في المدينة ويأكل من ثمارها. واستطاب- هذا البعض- الثمار والظلال؛ لذلك تباطأوا في الذهاب إلى القتال، فنزلت هذه الآية ببيان اللوم، ثم جاءت الآية التي بعدها لتوضح وتُبيِّن العقوبة، فقال الحق: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً...}.