فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (80):

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)}
ووقف العلماء في هذه الآية عند شيء اسمه مفهوم المخالفة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى حدد مرات الاستغفار غير المقبول بسبعين مرة، وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسلَ رحمة للعالمين؛ أنه ما دامت مرات الاستغفار قد حُددت بسبعين مرة فلأزيد على السبعين قليلاً وبذلك غلّب الرسول الكريم جانب الرحمة، وجانب الإكرام لعبدالله بن عبدالله بن أبي الذي أسلم وحَسُنَ إسلامه.
وكانت السبعة دائماً هي نهاية العدد عند العرب، وعندما يأتي عدد آخر يكون زائداً، فالأصل في العدد هو مكررات الواحد، أي: أن الواحد أصل العدد، يضاف له واحد يكون اثنين، ويضاف لهما واحد فيكون المجموع ثلاثة، وتستمر الإضافة حتى يصير العدد سبعة، وإذا تركنا الواحد جانباً لأنه الأصل، نجد عندنا ثلاثة أعداد زوجية، هي: اثنان وأربعة وستة، وثلاثة أعداد فردية هي: ثلاثة وخمسة وسبعة، ويكون العدد سبعة جامعاً للمفرد والمثنى والجمع.
ولذلك كانوا إذا أرادوا الزيادة على سبعة فلابد أن يأتوا بحرف العطف. ونجد قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ...} [الكهف: 22].
ولم يقل: ثامنهم كلبهم، بل جاء بواو العطف؛ لأن الثمانية كانت من نوع آخر.
وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السبعين، قال: «نزيد على السبعين»، وبذلك يكون قد احترم قول الله، واحترم تكريمه لعبدالله بن عبدالله بن أبيّ؛ الذي طلب منه أن يستغفر لأبيه. وهنا قالوا: كيف يغيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يقول عن نفسه: «أنا أفصح العرب بيد أنِّي من قريش»، أن عدد السبعين يُقصد به الكثرة مهما بلغت، والشاعر القديم يقول:
أسِيئي بِنَا أوْ أحْسِني لاَ مَلُومةَ

أي: افعلي ما تشائين.
فكأن الحق سبحانه وتعالى في قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} شاء أن ياتي بمضاعفات العدد النهائية وهي السبعون ليحسم الأمر.
وجاء قول الحق سبحانه: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ...} [المنافقون: 6].
أي: مهما استغفرت بأي عدد من الأعداد فلن يغفر الله لهم.
ونقول: إن الأمر هنا له شقان؛ الشق الأول: أن يغفر الله. والشق الثاني: هو مجاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عبدالله بن أبيّ، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله لن يغفر للمنافقين. وفي استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو لاحترام طلب الابن، وأيضاً فالاستغفار من رسول الله كان مجرد مجاملة لعلمه أن الله لن يغفر للمنافقين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن استغفاره من أجل منافق لن يقبله الله، وهناك استغفار تنشأ عنه المغفرة، واستغفار ينشأ عنه إرضاء عبدالله بن عبدالله بن أبيّ.
ولكن ألا توجد ذاتية للأب؟
نقول: إن التاريخ يقول إن عبدالله بن أبيّ نال حظه من الدنيا، والحق سبحانه يقول: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].
وجزاء العمل يُعطي للبعض في الدنيا، ويُعْطي للبعض في الآخرة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
ولقد حدثنا علماء السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبا لهب يُخفَّفُ عنه العذاب يوم الاثنين»، وأبو لهب نزل فيه قول الحق سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3].
ولماذا يُخفَّف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين؟ لأن هذا اليوم هو الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سُرَّ أبو لهب بميلاد الرسول الكريم، فأعتق الجارية التي بشَّرته بميلاد الرسول؛ ومن هنا يُخفَّف العذابُ عن أبي لهب يوم الاثنين جزاء عمله.
كما أن عبدالله بن أبيّ كان له موقف يحسب له في واقعة الحديبية حين ذهب المسلمون لأداء العمرة، وصدهم الكفار عن بيت الله الحرام؛ وانتهت بصلح الحديبية وهي أول معاهدة بين الإيمان والكفر، ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رُدُّوا عن بيت الله الحرام، فقد فطن أبو بكر لما في يوم الحديبية من عطاءات الله؛ من اعتراف كفار قريش بمحمد وبالمسلمين حين وقعوا معاهدة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرغ نبينا الكريم للدعوة في الجزيرة العربية، وهو آمن من قريش، وانتشر الإسلام إلى أن نقضت قريش العهد وتم فتح مكة.
نعود إلى قصة عبد الله بن أبيّ يوم الحديبية: لقد كان الكفار يعلمون أن في نفسه شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم منع تتويج عبدالله بن أبيّ ملكاً على المدينة. وكانوا يعلمون أيضاً أنه أسلم نفاقاً؛ فأرادوا أن يُحدثوا ثغرة في نفوس المسلمين، فقالوا: محمد وأصحابه لا يدخلون، ولكننا نسمح لعبدالله بن أبيّ ومن معه بدخول مكة وأداء العمرة فرفض عبدالله بن أبيّ وقال: إن لي في رسول الله أسوة حسنة، لا أريد أن أذهب للعمرة إلا إذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا موقف يُحمد له.
كذلك كان له موقف آخر في غزوة بدر، حينما أُسر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان العباس طويل القامة وثيابه تمزقت في المعركة، فلم يجدوا طويلاً مثله إلا عبدالله بن أبيّ، فأعطاهم قميصه ليلبسه العباس، فلم يَنْسَ رسول الله ذلك له.
ومن أجل هذا استغفر له رسول الله، لكن الحكم الأعلى قد جاء {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} فليس المهم فقط هو استغفار رسول الله؛ لأن هناك ممحصات للذنب، فمن أذنب عليه أن يأتيك أولاً يا رسول الله، ليستغفر الله، ثم يسألك أن تستغفر له الله، حتى يجد الله تواباً رحيماً، فسبحانه القائل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64].
فالذي يريد أن يتوب ويستغفر، لا يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استغفر مرتكب الذنب أولاً، فلابد أن يستغفروا الله من الذنوب أولاً ثم يستغفر لهم الرسول. ولا يستغفر لهم الرسول وهو لا يستغفرون، وهكذا نعلم أن عبدالله بن أبيّ لم يفطن إلى كيفية الاستغفار، فقد كان عليه أن يأتي لرسول الله صاغراً ليستغفر الله أمامه، لا أن يبحث عمن يطلب له الاستغفار.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى موضحاً سبب عدم غفرانه، فيقول: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وحين ينفي الحق سبحانه وتعالى الهداية عن إنسان، فليس معنى هذا أن يقول الفاسق: الله لم يَهْدِني فماذا أفعل؟ ويُحمِّل المسألة كلها لله. بل نسأل الفاسق: لماذا لم يَهْدِك؟ لأنك فسقت.
إذن: فعدم الهداية من الله لك كان بسبب أنك أخذت طريق الفسق والبعد عن منهج الله، ومن هنا فالهداية المقصودة في هذه الآية؛ ليست هي الهداية بمعنى الدلالة على طريق الخير؛ لأن الدلالة إلى طريق الخير تأتي من الله للمؤمن والكافر فمنهج الله الذي يبلَّغ للناس كافة، يريهم طريق الخير ويدلهم عليه. ولكن المقصود هنا هو الهداية الأخرى التي يعطيها الحق لمن دخل في رحاب الإيمان وآمن وحَسُنَ عمله، وتتمثل في قوله الحق: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
إذن: فكل مَنْ مشى في طريق الإيمان أعانه الله عليه. وفي المقابل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وكذلك قوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37].
وأيضاً قوله الكريم: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [الصف: 5].
لا نقول أبداً: إن هؤلاء معذورون؛ لأن الله لم يَهْدِهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قد هداهم ودَلَّهم جميعاً على طريق الخير، ولكنهم هم الذين أخذوا طريق الكفر والظلم والفسوق.
واقرأ إن شئت قول الله عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17].
فماذا صنعوا في هدايته لهم: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى}، أي: أن الحق سبحانه بيَّن لثمود طريق الخير، ولكنهم اختاروا الضلالة.
إذن: فهداية الدلالة للجميع، وهداية المعونة للمؤمنين.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى للمنافقين فيقول: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (81):

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)}
والفرح هو السرور من فعل تبتهج النفس به. والمخلَّفون هم الذين أخلفهم نفاقهم، وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وذهب إلى الجهاد. بعد أن جاءوه بالمعاذير الكاذبة التي قالوها، وقد تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق سبحانه قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً...} [التوبة: 47].
ومن لا يريد أن يجاهد في سبيل الله إن أخذته معك كرهاً، يكون ضدك وليس معك. وسيشيع الأكاذيب بين المؤمنين، ويحاول أن يخيفهم من الحرب، وإذا بدأ القتال فهو أول من يهرب من المعركة. ويبحث عن مغارة أو حجر يختفي خلفه. إذن: فهو ليس معك ولكنه ضدك؛ لأنه لن يقاتل معك، بل ربما أعان عدوك عليك. وفي نفس الوقت هو يضر بالمسلمين، ويحاول أن يشيع بينهم الرعب بالإشاعات الكاذبة.
ويُبيِّن الحق سبحانه وتعالى هنا فطرة رسول الله الإيمانية بأنه أذن لهؤلاء بعدم الخروج للجهاد مع أن عذرهم كاذب؛ فجاء قوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} والمقعد هو مكان القعود. والقعود رمز للبقاء في أي مكان. والقيام رمز لبداية ترك المكان إلى مكان آخر، والذين غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا واستعدوا للقتال، أما الذين تخلفوا فقد قعدوا ولم يقوموا رغبة في البقاء في أماكنهم.
ويقول تعالى: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} وحين نسمع كلمة {خِلاَفَ} نعرف أن مصدرها خالف خلافاً؛ ومخالفة؛ كما تقول: قاتل قتالاً ومقاتلة. وهي إما أن تكون مخالفة في الرأي، كأن تقول: فلان في خلاف مع فلان، أي: أن لكل منهما رأياً. وإما أن تكون في السير، كأن تقوم أنت لتغادر المكان؛ ويخالفك زميلك أو من معك فيقعد، أو تقعد أنت، فيخالفك هو ويمشي.
والخلاف من ناحية الرأي هون عملية قلبية، والخلاف من ناحية الحركة يشترك فيها القلب أو الجسد، وهم حين فرحوا بالقعود بعد قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للجهاد، فهذا دليل على أن مسألة القعود هذه صادفت هوى في نفوسهم وارتاحوا لها وبذلك خالفوا شرط الإيمان؛ لأن الذين يحق لهم أن يتخلفوا عن الجهاد قد حددهم القرآن الكريم في قول الحق سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ...} [التوبة: 91].
وقوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ...} [التوبة: 92].
أي: أوضحت لهم أنك لا تملك ما يركبون عليه، ليصلوا معك إلى موقع القتال. وقد بيّن لنا الحق حال هؤلاء الذين لم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب هذه الأعذار فقال عنهم: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92].
إذن فهؤلاء الذين تخلفوا بأعذار يملؤهم الحزن، وتفيض أعينهم بالدمع؛ لأنهم حرموا ثواب الجهاد في سبيل الله. أما الذين يفرحون بالتخلف عن الجهاد فهم منافقون.
وقوله سبحانه: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} نجد فيه أيضاً أن كلمة {خِلاَفَ} تستعمل أيضاً بمعنى (بعد)، أي بعد رسول الله، فما أن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزوة قعدوا هم بعده ولم يذهبوا. وجلسوا مع الضعيف والمريض وأصحاب الأعذار الحقيقية، وكذلك الذين لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم دواب ليركبوها، هؤلاء هم مَنْ تخلفوا. وبيّن الحق سبحانه سبب تخلف المنافقين فيقول: {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله}.
أي: انهم كرهوا أن يقاتلوا، وكرهوا الجهاد. وليت الأمر قد اقتصر على هذا، بل أرادوا أن يثبِّطوا المؤمنين ويُكرِّهوهم في القتال في سبيل الله {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} فهم لم يكتفوا بموقفهم المخزي، بل أخذوا في تحريض المؤمنين على عدم القتال. وقد كانت هذه الغزوة (غزوة تبوك) في أيام الحر. وكانت المدينة تمتلئ بظلال البساتين وثمارها، بينما الطريق إلى الحدود مع الروم طويلة. إذن: فهي غزوة كلها مشتقة.
وقال المنافقون للمؤمنين {لاَ تَنفِرُواْ}، والنفور هو كراهية الوجود لشيء ما. ويقال: فلان نافر من فلان، أي: يكره وجوده معه في مكان واحد. ويقال: فلان بينه وبين فلان نفور، أي: يكرهان وجودهما في مكان واحد. والذي يخرج للحرب كأنه نفر من المكان الذي يجلس فيه ذاهباً إلى مكان القتال. ويكون القتال والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله أحب إليه من القعود والراحة.
إذن: فقوله تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} أي: أنهم يريدون أن يعطوا لأنفسهم عذراً لعدم الخروج للجهاد؛ لأن الجو حار وفيه مشقة. ولكنهم أغبياء؛ لأنهم لو خافوا من الحر ومشقته؛ وجلسوا في الظل ومتعته، لأعطوا لأنفسهم متعة زمنها قصير ليدخلوا إلى مشقة زمانها طويل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} فإن كانوا قد اعتقدوا أنهم بهروبهم من الحر قد هربوا من مشقة، فإن مشقة نار جهنم والخلود فيها أكبر بكثير. والإنسان إن بُشِّر بأشياء تسره عاماً أو أعواماً، ثم يأتي بعدها أشياء تسوؤه وتعذبه، فهو بمعرفته بما هو قادم يعاني من الألم ولا يستطيع الاستمتاع بالحاضر؛ لأن الإنسان يحاول دائماً أن يتحمل؛ ليُؤمِّن مستقبله. ولذلك تجد من يعمل ليلاً ونهاراً وهو سعيد، فإذا سألته كيف تتحمل هذا الشقاء؟ يقول: لأؤمن مستقبلي. إذن: فسرور عام أو أعوام تفسده أيام أو أعوام قادمة فيها سوء وعذاب، فماذا عن خلودهم في النار؟
ولكن هل قالوا: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} في خواطرهم دون أن ينطقوا بهما، أم قالوها لبعضهم البعض سراً؟ ومن الذي أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوه؟ نقول: قد يكون ذلك هو ما دار في خواطرهم.
وشاء الله أن يعلموا أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في نفوسهم. وشاء أن يفضح ما في سرائرهم، لعل هذا يُدخل الخوف في قلوبهم، من أنه سبحانه مطلع على كل شيء، فيؤمنوا خوفاً من عذاب النار.
ومثال هذا أن الحق حين أراد أن يمنع المشركين من حج بيته الحرام قال: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا...} [التوبة: 28].
وكان المشركون حين يذهبون إلى الحج ينعشون اقتصاد مكة، وكان الخير يأتي من كل مكان إلى مكة في موسم الحج، بل إنهم كانوا يقولون: إياكم أن تطوفوا بالبيت في ثيابهم عصيتم الله فيها، وكأن التقوى تملأ نفوسهم! وحقيقة الأمر أنهم كانوا بعيدين عن التقوى لأنهم كانوا يعبدون الأوثان. وكانوا يقولون ذلك حتى يضطر الحجاج أن يخلعوا ثيابهم ويشتروا ثياباً جديدة ليطوفوا بها ومن لا يملك المال يطوف عارياً.
إذن: فقد كان الحج موسماً اقتصادياً مزدهراً لأهل مكة؛ يربحون خلاله ما يكفي معيشتهم طوال العام، فلما جاء البلاغ من الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}. فالخاطر الذي يأتي في النفس البشرية؛ وكيف سنعيش؟. هذا هو أول خاطر ياتي على البال؛ لأنه سؤال عن مقومات الحياة، والذي خلقهم عليم بما يدور في خواطرهم. وإن لم يجر على ألسنتهم، حينئذ جاء قول الحق سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ...} [التوبة: 28].
إذن: فالله سبحانه وتعالى قد علم ما يدور في خواطرهم، فرد عليه قبل أن ينطقوه.
كذلك قول الحق سبحانه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} والفقه هو الفهم الدقيق. فأنت حين تعرف شيئاً بسطحياته تكون قد عرفته، ولكنك إن عرفته بكل معطياته الخلفية تكون قد فقهته. وأنت إذا ذهبت للجهاد في الحر قد تتعب، ولكن إذا قعدت عن الجهاد سوف تكون عقوبتك أكبر وتعبك أشد.
إذن: فعلمك بشيء وهو الحر الذي ستواجهه إن خرجت للجهاد، يجب ألا ينسيك ما غاب عنك، وهو أن نكوص الإنسان عن الجهاد يدخله ناراً أشد حرارة، يخلد فيها. ومعنى ذلك أنه لم يفقه؛ لأنه علم شيئاً وغاب عنه أشياء.
ومن هذا المنطق القرآني، رد الإمام علي كرم الله وجهه على القوم حينما دعاهم إلى الجهاد ضد الخوارج فقال: (أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه سيم الخسف).
ثم يقول بعد ذلك: (إن قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قر وصر.. أي برد شديد. وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم: أنظرنا- أي أمهلنا- حتى ينصرف الحر عنا، فإذا كنتم في البرد والحر تفرون، فأنتم والله في النار. يا أشباه الرجال ولا رجال).
وقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: أنهم لو كانوا قد فرحوا وابتهجوا بأنهم لم يجاهدوا في الحر، فهم سوف يندمون كثيراً على ذلك، مصداقاً لقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ...}.