فصل: تفسير الآية رقم (83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (83):

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}
والله سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صلى الله عليه وسلم: عندما تنتهي الغزوة وتعود إلى المدينة، فهناك حكم لابد أن تطبقه مع هؤلاء المنافقين، الذي تخلفوا وفرحوا بعدم الجهاد.
وقوله: {فَإِن رَّجَعَكَ} كلمة (رجع) من الأفعال، وكل فعل يجب أن يكون له فاعل ومفعول، فلا يمكن أن تقول: (ضرب محمد) ثم تسكت؛ لأنه عليك أن تبين من المضروب. ولا يمكن أن تقول (قطف محمد)، بل لابد أن تقول ماذا قطف؟ وهكذا تحتاج إلى مفعول يقع عليه الفعل. ولكن هناك أفعالاً لا تحتاج إلى مفعول. كأن تقول: (جلس فلان) والفعل الذي يحتاج إلى مفعول اسمه (فعل مُتعَدٍّ) أما الفعل الذي لا يحتاج إلى مفعول فاسمه (فعل لازم). إذن: فناك فعل متعد وفعل لازم.
وهنا في هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} والحق سبحانه هو الفاعل، والكاف في {رَّجَعَكَ} هي المفعول به. ولكن لأنها ضمير ملتصق بالفعل يتقدم المفعول على الفاعل. إذن: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} رجع فعل متعد، والفاعل لفظ الجلالة. والمفعول هو الضمير العائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أن الله رجعك يا محمد.
ولكن هناك آية في القرآن الكريم تقول: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً...} [الأعراف: 150].
في الآية التي نحن بصددها {فَإِن رَّجَعَكَ الله} الفاعل هو الله، أما في قوله الحق: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى} نجد أن موسى هو الفاعل ولا يوجد مفعول به، إذن ف (رجع) يمكن أن يكون فعلاً لازماً، كأن تقول: (رجع محمد من الغزوة). ويمكن أن يكون فعلاً متعدياً كقوله سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} أي: يا محمد من الغزوة. إذن: فرجع تستعمل لازمة وتستعمل متعدية. ولكن في قصة سيدنا موسى عليه السلام؛ عندما ألقته أمه في البحر والتقطه آل فرعون؛ ومشت أخته تتبعه؛ ثم حرَّم الله عليه المراضع ليعيده إلى أمه كي يزيل حزنهان يقل الحق سبحانه: {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ...} [طه: 40].
ما هو الفرق بين الآيات الثلاث؟ ولماذا استعمل فعل (رجع) لازماً ومتعدياً؟
نقول: إنه في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} هنا هيئ لموسى من ذاته أن يرجع، أي: انه قرار اختياري من موسى، أما قوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ}، فموسى في هذه المرحلة؛ كان طفلاً رضيعاً لا يستطيع أن يرجع بذاته، ولابد أن يهيئ له الحق طريقة لإرجاعه، أي: من يحمله ويرجعه.
أما قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} فقد كان من الممكن أن يقال: (وإذا رجع إلى طائفة منهم) مثلما قال في موسى عليه السلام: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى} ولكن الحق استخدم {رَّجَعَكَ} ليدل على أن زمام محمد عليه الصلاة والسلام في الفعل والترك ليس بيده.
وكأنه سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تنسبوا الأحداث إلى بشرية محمد صلى الله عليه وسلم، فإن محمداً إذا ذهب إلى مكان فالله هو الذي أذهب إليه. وإن عاد من مكان فهو لا يعود إلا إذا أرجعه الله منه. كما كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بإذن من الله، فقبل أن يأذن الله له بالهجرة، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببشريته يستطيع أن يهاجر. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعرف دائماً: أن ذهاب محمد صلى الله عليه وسلم ورجوعه من أي مكان، ليس ببشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بإرادة الحق سبحانه.
ولكن لماذا قال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} وكان من الممكن أن يقول (فإن رجعك الله إليهم) أة: (فإن رجعك الله إلى المدينة)؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد الحديث هنا عن الطائفة التي حدثت منها المخالفة، فهناك من بقوا في المدينة رغماً عنهم ولم يكن لديهم ما ينفقونه أو لم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه. كذلك المرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون قتالاً. وهؤلاء حَسُنَ إسلامهم وقَبِل الله ورسوله أعذارهم.
ولكن الحق سبحانه يتحدث هنا عن الطائفة التي تخلفت عن الجهاد وهي قادرة، والتي امتنعت عن الخروج، وهي تملك المال والسلاح وكل مقومات الجهاد، هذه الطائفة هي التي فرحت بالتخلف عن القتال. أما الطوائف الأخرى؛ فكانت عيونها تفيض بالدمع من الحزن على عدم اشتراكهم في الجهاد.
إذن: فالحق يقصد هنا طائفة المنافقين الذين استمروا على نفاقهم، فمن تاب منهم قبل نزول هذه الآية قبلت توبته، ومن مات منهم قبل نزول هذه الآية فإنما حسابه على الله. وبقيت طائفة المنافقين الذي فرحوا وضحكوا عندما بقوا في المدينة، وكان عقاب الله لهم بأن مسح أسماءهم من ديوان المجاهدين في سبيل الله، ومنعهم الثواب الكبير للجهاد.
ويقول سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} فكيف استأذنوا أول الأمر للقعود وتحايلوا عليه، وكيف يستأذنون الآن للخروج؟ نقول: إنهم عندما رأوا المؤمنين وقد عادوا بالغنائم، كان ذلك حسرة في قلوبهم؛ لأنهم أهل دنيا. وحينئذ طلبوا الخروج حتى يحصلوا على الغنائم والمغانم الدنيوية. ولكن الحق سبحانه وتعالى طلب من رسوله عليه الصلاة والسلام ألا يأذن لهم بالجهاد مع المسلمين، فقال: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} أي: أن أسماءكم قد شطبت من ديوان المجاهدين والغزاة، ولما قرر الحق سبحانه وتعالى ألا يعطيهم شرف الجهاد وثواب الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
ولكن الحق يقول أيضاً هنا: {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} وهذا أمر لا يحدث إلا في الغزوات، فما هو موقفهم إذا حدث اعتداء على المدينة؟ ويبين الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقبل قتالاً حتى في هذه الحالة، فطلب من رسوله عليه الصلاة والسلام أن يعلمهم بذلك، ويقول لهم: {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} إذن: فقد حسمت المسألة، فلا هم مسموح لهم بالخروج في الغزوات، ولا بقتال الأعداء إذا هاجموا المدينة؛ لأنهم أُسقطوا تماماً من ديوان المجاهدين، ولا جهاد لهم داخل المدينة أو خارجها؛ ما داموا قد فرحوا بالقعود، ورفضوا أن يشتركوا في الجهاد وهم قادرون؛ لذلك حكم الحق أن يبقوا مع الخالفين.
وما معنى خالفين؟ المادة هي (خاء) و(لام) و(فاء)، فيها (خلف) و(خلاف) و(خلوف) وغير ذلك. و(خالفين) إما أن يكونوا قد تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكونوا خالفوا الرسول بأنهم رفضوا الخروج، وإما أن يكونوا خلوفاً. ويقول: صلى الله عليه وسلم في حديث عن الصيام: (الخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك).
والخلوف هو تغير الرائحة، وتغير الرائحة يدل على فساد الشيء، فكأنهم أصبحوا فاسدين. ومخالفين تعني فاسدين لأنهم قد خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ول يقتصر جزاء هؤلاء المتخلفين فقط أن تشطب أسماؤهم من سجلات المجاهدين، بل هناك جزاء آخر يبينه قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ...}.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}
وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميت هي رحمة له، وغفران لذنوبه؛ لأن الصلاة على الميت أن تطلب له الرحمة والمغفرة، وأن تطلب له من الله أن يُلحقَه بالصالحين. وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، ودعا بهذا الدعاء، فإن دعوة رسول الله مستجابة من الله. وهكذا حرمهم الله سبحانه وتعالى من رحمة يكون الإنسان في أشد الحاجة إليها حين ينتقل من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ.
وقول الحق لرسوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} معناها نهي عن فعل لم يأت زمنه. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي: لا تذهب إلى قبره وتطلب له الرحمة، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} مع أن النهي عن المستقبل، أي: من مات بعد نزول هذه الآيات، فلماذا لم يقل الحق (يميت) أو (يموتوا) واستخدم الفعل الماضي {مَّاتَ}؟. ونقول: لأن الموت عملية حتمية مقررة عند الله ومُقدَّرة، فموعد الموت مكتوب ومعروف عند الله، وهو شيء لا يقرره الله مستقبلاً، بمعنى أن موعد الموت لا يحدد قبل حدوث بليلة أو ليلتين، ولكن الموعد قد حُدِّد وانتهى الأمر.
أما قوله الحق: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} فهو يدلنا على أن هذا الأمر ليس خاصّاً بسبب، ولكنه عموم حكم، فهناك: سبب للحكم، وهناك عموم حكم. وسبب الحكم مثل الآية التي نزلت في زعيم المنافقين عبدالله ابن أبيّ، فعندما مرض عبدالله بن أبيّ مرض الموت؛ جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه ليصلي عليه ويستغفر له. وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاملة لابنه عبدالله بن أبيّ الذي أسلم وحَسُن إسلامه.

وعندما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار عبدالله بن أبيّ، قال له: (أهلك حب يهود)؛ لأن ابن أبيّ كان يجامل اليهود ويعاونهم، ونفاقه في الإسلام كان مجاملة لليهود وكان يُظهِر أمام اليهود الكفر، ويُظهِر أمام المسلمين الإيمان. وهنا قال ابن أبيّ: يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني.
فاستغفر له الرسول صلى الله علهي وسلم، وهنا نزلت الآية الكريمة: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [التوبة: 80].
وطلب عبدالله بن أبيّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهبه ثوبه لكي يُكفَّن به، فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، أرسل له الثوب الأعلى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يلبس ثوبين؛ ثوباً يلي جسده وثوباً فوقه. فلما جاء ابن أبيّ الثوب الأعلى، قال: أنا أريد الثوب الذي لامس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر إلى زعيم المنافقين والذي كان يملؤه الكبرياء في حياته، كبرياء على المؤمنين؛ ها هو ذا يطلب كل هذه الطلبات ساعة احتضاره. فماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أرسل له القميص الذي لامس جسده الشريف. وكان كل هذا إرضاء لابنه عبدالله بن عبدالله بن أبيّ.
ولم يتقبل هذا الفعل عدد المؤمنين ولم يشعروا بالارتياح، فعندما مات ابن أبيّ جاء ابنه عبدالله، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه.
وعندما هَمَّ النبي أن يصلي عليه، وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الرسول وبين القبلة. وهنا حسم الحق سبحانه وتعالى الموقف ونزلت الاية الكريمة: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} فقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أبيّ؛ لأنه رسول رحمة للعالمين. ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف بينه وبين القبلة حتى لا يصلي، فأنزل الحق قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} وقالوا: تلك من الأمور التي وافق الوحي فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن المسائل التي وافق الوحي فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه تغيير القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام. فقد كان عمر يرجوها، وكان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو اتخذت مقام إبراهيم مصلّى.
ومن هذه الأمور أيضاً رأى في أسرى بدر، وأن من الواجب قتلهم، وكان رأي أبي بكر أن يقوم الأسرى بتعليم المسلمين القراءة والكتابة؛ أو يؤخذ فيهم الفداء، فنزلت الآية الكريمة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67].
بعض الناس يتساءل: كيف يستدرك عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يُخلَّد في أمته؛ لذلك أراد أن يعطيهم الأُسْوة بأنه صلى الله عليه وسلم متى رأى رأياً حسناً نزل عليه. وبعض المستشرقين يقولون: إنكم تقولون دائماً عمر فعل كذا، ولماذا لا تقولون لنا محمد فعل كذا؟ ونقول: إذا فعل محمد فهو رسول الله، أما غير الرسول عندما يفعل فهو دليل على أن الفطرة الإسلامية من الممكن أن ترى شيئاً يتفق مع ما يريده الله.
وبعد أن نزل قول الحق: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} صار الحكم عاماً في ألا يصلى رسول الله على المنافقين. لكن من أراد من الناس أن يصلي فليُصلِّ.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يكرم كل مسلم بالصلاة عليه، فلما نزلت هذه الآية امتنع عن الصلاة على المنافقين.
كذلك امتنع صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الميت وعليه دين، فكان يسأل أهل الميت: (هل عليه دَيْن؟) فإن قالوا: نعم. سأل: (هل ترك ما يسده؟). فإن قالوا: لا، قال: (صَلُّوا على صاحبكم) ، وامتنع هو عن الصلاة.
ولكن ما ذنب من عليه دين أن يُحرَم صلاة رسول الله عليه؟ نجد الإجابة في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها أتلفه الله».
فلو كان هذا الميت المدين ينوي سداد دينه لأعانه الله على أن يُسدِّده، أما إذا ترك ما يفي بهذا الدين من عقارات أو أراض أو أموال في البنوك فلا يكن مديناً.
ويقول الحق سبحانه هنا: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} ونحن نعلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى قبر حمزة رضي الله عنه، ويقف على قبور المؤمنين: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ومنعه الحق من ذلك العمل على قبور المنافقين. ويعطينا الحق سبحانه العلة في ذلك فيقول: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} وعرفنا كيف كفروا بالله ورسوله، لكن ماذا عن قوله الحق: {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}. فهل ماتوا وهم خارجون عن المنهج؟ نعم، تماماً مثلما نقول: فسقت الرطبة؛ لأن البلح في نضجه يكون أحمر اللون أو أصفر وتلتصق قشرته به، فإذا رطب انفصلت القشرة عن البلحة، بحيث تستطيع أن تنزعها بسهولة، فكأن منهج الله بالنسبة للمؤمنين لابد أن يلتصق به كقشرة البلحة الحمراء، وإذا انفصل عنه مثل قشرة الرطبة يُصَابُ بالفساد.
ولكن هنا نتساءل: أليس الكفر أكبر مرتبة من الفسق؟ لأننا نعلم أنه ليس بعد الكفر ذنب؟ فكيف يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} مع أنهم كفروا، والكفر أكبر الذنوب؟
ونقول: إن الكفر هو عدم الإيمان بالله ورسوله وعدم الدخول في الإسلام، ولكن الفسق هو عدم الالتزام بأية قيم، ذلك أن الدين قد أوجد في النفوس عامة قيماً معروفة يتبعها حتى الذين كفروا، فمثلاً عندما أرادوا بناء الكعبة قبل الإسلام، قالوا: نريد أن نبنيها بمال حلال، لا يدخل فيه مال بَغيٍّ. وكانوا في الماضي يُحضرون البغايا، ويُقيمون لهن الرايات، ويأخذون من أموالهن. لم يكن الإسلام قد جاء بَعْد، ولكن كانت هناك قيم من مناهج السماء التي جاءت قبل الإسلام. وجاء الإسلام موافقاً لبعضها.
إذن: فقوله الحق: {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ}، أي: لم يكونوا مسلمين. {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي: لم يلتزموا بأية قيم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا...}.