فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (115):

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)}
وهنا الهداية هي هداية الدلالة حتى يبين لهم ما يتقون؛ {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أي: ما كان الله ليحكم بضلالة قوم حتى يبين لهم ما يتقون. والتقوى التزام أمر الله ونهيه، فإذا وافقوا البيان هداهم هداية معونة، وإذا لم يوافقوا كانوا ضالين، وقد حكم الله بضلالة عم إبراهيم وما حكم الله بضلالته إلا بعد أن بين له منهج الهداية.
وقد بين إبراهيم لعمه منهج الهداية فلم يهتد. ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم ألا يستغفر له.
ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ...}.

.تفسير الآية رقم (116):

{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}
ومادة ال(م. ل. ك) يأتي منها (مالك)، و(مَلك)، و(ملْك)، ومنها (مُلْك)، ومنها (ملكوت)، و(المِلْك) هو ما تملكه أنت في حيزك، فإن كان هناك أحد يملكك أنت ومن معك ويملك غيرك، فهذا هو المَلِك، أما ما اتسع فيه مقدور الإنسان أي الذي يدخل في سياسته وتدبيره، فاسمه مُلك، فشيخ القبيلة له ملك، وعمدة القرية له ملك، وحاكم الأمة له ملك، ويكون في الأمور الظاهرة ** واما الملكوت فهو ما لله في كونه من أسرار خفية.

مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض...} [الأنعام: 75].
وساعة ترى (تاء المبالغة) في مثل (رهبوت)، و(عظموت) تدرك أنها رهبة عظيمة.
إذن: إياك أن تفهم أن الله حين يمنعك أن تستغفر لآبائك، وأنك إن قاطعتهم فذلك يخل بوجودك في الحياة؛ لأنهم هم ومن يؤازرهم داخلون في ملك الله، وما دام الله له ملك السموات والأرض، فلا يضيرك أحد أو شيء ولا يفوتك مع الله فائت، وما دام الله سبحانه موجوداً فكل شيء سهل لمن يأخذ بأسبابه مع الإيمان به.
والحق سبحانه يبين لنا أنه سبحانه وحده الذي بيده الملك؛ فقال: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير...} [آل عمران: 26].
وفي هذا القول الكريم أربعة أشياء متقابلة: {تُؤْتِي الملك} و{وَتَنزِعُ الملك}، وإيتاء الملْك في أعراف الناس خير، ونزعه في أعراف الناس شر، وإعزاز الناس خير، وإذلالهم شر، ولم يقل الله بيده: (الخير والشر). وإنما قال في كُلّ: {بِيَدِكَ الخير}.
إذن: فحين يؤتي الله إنساناً مُلْكاً؛ نقول: هذا خير وعليك أن تستغله في الخير. وحينما ينزع الله منه الملك نقول له: لقد طغيت وخفف الله عنك جبروت الطغيان، فنزعه الله منك فهذا خير لك. وإن أعزك الله، فقد يعذبك حقّاً، وإن أذلهم الله، فالمقصود ألا يطغوا أو يتجبروا. إذن: فكلها خير. {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير...} [آل عمران: 26].
ساعة تجد ملكاً عضوضاً، إياك أن تظن أن هذا الملك العضوض قد أخذ ملكه دون إرادة الله، لا، بل هو عطاء من الله. ولو أن المملوك راعى الله في كل أموره لرقق عليه قلب مالكه. ولذلك يقول لنا في الحديث القدسي: (أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، ولكن أطيعوني أعطفهم عليكم).
وما دام الأمر كذلك، فلابد أن نعرف أن كل حادثة له حكمة في الوجود.
وإن رأيت واحداً قد أخذ الملك وهو ظالم، فاعلم أن الله قد جاء به ليربى به المملوكين، وسبحانه لا يربي الأشرار بالأخيار؛ لأن الأخيار لا يعرفون كيف يربون؛ وقلوبهم تمتلئ بالرحمة؛ ولذلك يعلمنا سبحانه: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً...} [الأنعام: 129].
والخيِّر لا يدخل المعركة بل يشاهد الصراع من بعيد، ويجري كل شيء بعلم الله؛ لأنه سبحانه لم ملك السموات والأرض وهو الذي يحيي ويميت، فإياك أن تُفْتَن في غير خالقك أبداً؛ لأن الخلق مهما بلغ من قدرته وطغيانه، لا يستطيع أن يحمي نفسه من أغيار الله في كونه ولذلك فليأخذ المؤمن من الله وليّاً له ونصيراً.
وبعد أن قال لنا سبحانه: {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} يأتي لنا بالأمر الذي يظهر فيه أثر القدرة، ولا يشاركه فيه غيره، فقال: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. وقال بعض العلماء في قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أنه سبحانه (يحيي الجماد)، و(يميت الحيوان)؛ لأنهم ظنوا أن الحياة هي الحس والحركة التي نراها أمامنا من حركة وكلام وذهاب وإياب، ونسوا أن الحياة هي ما أودعه الله في كل ذرة في الكون، مما تؤدي به مهمتها، ففي ذرة الرمل حياة، والجبل فيه حياة، وكل شيء فيه حياة، بنص القرآن حيث يقول: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...} [الأنفال: 42].
إذن: فالحياة مقابلها الهلاك، وفي آيات أخرى يقابل الحياة الموت، فالهلاك هو الموت. فإذا قال الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88].
إذن: فكل شيء قبل أن يكون هالكاً كان حيّاً، وهكذا نعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة الظاهرتين، وبعد التقدم العلمي الهائل في المجاهر الدقيقة تكشفت لنا حركة وحس كائنات كنا لا نراها، وإذا كان الإنسان قد توصل بالآلات التي ابتكرها إلى إدراك ألوان كثيرة من الحياة فيما كان يعتقد أنه لا حياة فيها، إذن: فكل شي في الوجود له حياة تناسبه فلو جئت بمعدن مثلاً وتركته ستجده تأكسد، أي حدث فيه تفاعل مع مواد أخرى.. فهذه حياة.
بعد ذلك يقول الحق: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي...}.

.تفسير الآية رقم (117):

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}
قلنا: إن التوبة لها مراحل، فهناك توبة شرعها الله، ومجرد مشروعية التوبة من الله رحمة بالخلق، وهي أيضاً رحمة بالمذنب؛ لأن الحق سبحانه لو لم يشرع التوبة لاستشرى الإنسان في المعاصي بمجرد انحرافه مرة واحدة، وإذا استشرى في المعاصي فالمجتمع كله يشقى عليه الذنب، فمشروعية التوبة نفسها رحمة بمن عمل الذنب. وأنت إذا سمعت قوله الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا...} [التوبة: 118].
فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلاً، وبعد أن يتوبوا، يقبل الله التوبة.
والحق هنا يقول: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي} وعطف على النبي صلى الله عليه وسلم {المهاجرين والأنصار}، فأي شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي}؟! ونقول ألم يقل الحق سبحانه له: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ...} [التوبة: 43].
فحين جاء بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الغزوة، فأذن لهم، مع أن الله سبحانه قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً...} [التوبة: 47].
إذن: فرسول لله صلى الله عليه وسلم كان بالفطرة السليمة قد اتخذ القرار الصائب، ولكن الحق سبحانه لا يريد ان يتبعوا فطرتهم فقط، بل أراد أن يضع تشريعاً محدداً.
وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أذن لمن استأذنه من المنافقين ألا يخرجوا إلى القتال، وهناك أشياء يأخذها الله على عبده؛ لأن العبد قام به ضد صالح نفسه، ومثال هذا من حياتنا ولله المثل الأعلى: أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين ساعة في اليوم؛ فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة، وتقول له: (قم لتنام). وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لأنك تحبه، لا، لأنه خالف منهجاً، بل لأنه أوغل في منهجٍ وأسلوب عملٍ يرهق به نفسه.
وحين سمح النبي صلى الله عليه وسلم لقوم أن يتخلفوا، فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أم مع مصلحة الحرب؟ أنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا الأمتعة أو قاموا بأي عمل، إذن: فإذنه صلى الله عليه وسلم لهم بالتخلف هو تصعيب للأمر على نفسه.
ولذلك نجد أن كل عتب على نبي الله، إنما كان عتباً لصالحه لا عليه فسبحانه يقول له: {لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ...} [التحريم: 1].
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ما حرم الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له، وهذا ضد مصلحته، وكأن الحق يسائله: لماذا ترهق نفسك؟. إذن: فهذا عتب لمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً حين جاء ابن مكتوم الأعمى يسأل رسول الله في أمر من أمور الدين، وكان ذلك في حضور صناديد قريش، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الصناديد وهم كافرون، يريد أن يلين قلوبهم، وترك ابن أم مكتوم؛ فنزل القول الحق: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} [عبس: 1-2].
وابن أم مكتوم جاء ليستفسر عن أمر إيماني، ولن يجادل مثلما يجادل صناديد قريش، فلماذا يختار الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الصعب الذي يحتاج إلى جهد أكبر ليفعله؟. إذن: العتب هنا لصالح محمد صلى الله عليه وسلم، وحين يقول الحق له: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ...} [التوبة: 43].
ثم جاء ها في الآية بالمهاجرين والأنصار معطوفين على رسول الله، وذلك حتى لا يتحرج واحد من المهاجرين أو الأنصار من أن الله تاب عليه، بل التوبة تشمله وتشمل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ فلا تحرُّج.
وهذه المسائل التي حدثت كان لها مبررات، فقد قال الحق: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} ويزيغ: يميل، أي: يترك ميدان المعركة كله؛ لأنها كانت معركة في ساعة العسرة، ومعنى العسرة الضيق الشديد، فالمسافة طويلة، والجنود الذين سيواجهونهم هم جنود الروم، والجو حارٌّ، وليس عندهم رواحل كافية، فكل عشرة كان معهم بعير واحد، يركبه واحد منهم ساعة ثم ينزل ليركبه الثاني، ثم الثالث، وهكذا، ولم يجدوا من الطعام إلا التمر الذي توالد فيه الدود.
وقد بلغ من العسرة أن الواحد منهم كان يمسك التمرة فيمصها بفيه يستحلبها قليلاً، ثم يخرجها من فيه ليعطيها إلى غيره ليستحلبها قليلاً، وهكذا إلى أن تصير على النواة، وكان الشعير قد أصابه السوس، وبلغ منه السوس أن تعفن، وقال من شهد المعركة: (حتى إن الواحد منا كان إذا أخذ حفنة من شعير ليأكلها يمسك أنفه حتى لا يتأذى من رائحة الشعير). كل هذه الصِّعاب جعلت من بعض الصحابة من يرغب في العودة. ولا يستكمل الطريق إلى الغزوة.
إذن: فالتوبة كانت عن اقتراب زيغ قلوب فريق منهم. وجاء الحق بتقدير ظرف العسرة، ولذلك تنبأ بالخواطر التي كانت في نواياهم ومنهم أيضاً من همّ ألا يذهب، ثم حدجثته نفسه بأنه يذهب مثل أبي خيثمة الذي بقي من بعد أن رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزوة ومرت عشرة أيام، ودخل الرجل بستانه فوجد العريشين، وعند كل عريش زوجةٌ له حسناء، وقد طَهَتْ كل منهما طعاماً، وهكذا رأى أبو خيثمة الظلال الباردة، والثمر المدلَّى، فمسّته نفحة من صفاء النفس؛ فقال: رسول الله في الفيح- أي الحرارة الشديدة جدّا- والريح، والقُرّ والبرد، وأنا هنا في ظل بارد، وطعام مطهوّ، وامرأتين حسناوين، وعريش وثير، والله ما ذلك بالنِّصَفة لك يا رسول الله، وأخذ زمام راحلته وركبها فكلًَّمته المرأتان، فلم يلتفت لواحدة منهما وذهب ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال صحابة رسول الله: يا رسول الله إنَّا نرى شبح رجل مُقْبل. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (كن أبا خيثمة)، ووجده أبا خيثمة، هذا معنى الحق: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117].
وفي واقعة الصحابة الذين راودتهم أنفسهم أن يرجعوا وتاب الله عليهم أيضا على آخرين اعترفوا بذنوبهم، فتاب الحق عليهم حين قال: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102].
وأرجأ الحق أمر آخرين نزل فيهم قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله...} [التوبة: 106].
وما دام الله قد قال: {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} أي: ما بَتّ الله سبحانه في أمرهم بشيء؛ فلابد من الانتظار إلى أن يأتي أمر الله، ويجب ألا نتعرض لهم حتى يأتي قول الله. وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا، في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (118):

{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
قد يظن أحد أن(خُلِّفُوا) هنا تدل على أن أحداً قال لهم: اقعدوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يقل لهم أحد هذا. إنما(خُلِّفُوا) معناها: لم يظهر أمر الشارع فيهم كما ظهر في غيرهم، بل قال الحق فيهم من قبل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 6]، وما دام قد تأخر فيهم الحكم فلابد من الانتظار.
{وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
ونعلم أن الإنسان إذا شغله همّ يُحدّث نفسه بأن يترك المكان الذي يجلس فيه، ويسبب له الضيق، لعل الضيق ينفك. ولكن هؤلاء الثلاثة قابلوا الضيق في كل مكان ذهبوا إليه حتى ضاقت عليهم الأرض بسعتها، فلم يجد واحد منهم مكاناً يذهب إليه، وهذا معناه أن الكرب الذي يحيطهم قد عَمَّ، والإنسان قد تضيق عليه الأرض بما رحبت ولكن نفسه تسعه.
والحق يقول عنهم: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم أيضاً، فقد تخلف الثلاثة عن الغزوة، لا لعذر إلا مجرد الكسل والتواني، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بمقاطعتهم، فكان كعب بن مالك يخرج إلى السوق فلا يكلمه أحد، ويذهب إلى أقربائه فلا يكلمه أحد، ويتسوَّر عليهم الحيطان لعلهم ينظرون إليه، فلا ينظرون إليه.
وبعد ذلك يتصاعد الأمر في عزل هؤلاء، حتى تعدى إلى نسائهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يقربوا نساءهم هكذا بلغ العزل مبلغاً شديداً ودقيقاً، فقد كان التحكم أولاً في المجتمع، ثم في الأقارب، ثم في خصوصيات السكن وهي المرأة، حتى إن امرأة هلال بن أمية ذهبت إليه وقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية، رجل مريض ضعيف، وأنا أستأذنك في أن أصنع له ما يقيمه، قال لها: (ولكن لا يقربنك). قالت والله يا رسول الله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. وذهب بعض المسلمين إلى كعب بن مالك ليبلغوه أن رسول الله صرح لامرأة هلال أن تخدمه، وقالوا له: اذهب إلى رسول الله واستأذنه أن تخدمك امرأتك.
قال: إن هلالاً رجل شيخ، فماذا أقول لرسول الله وأنا رجل شاب؟ والله لا أذهب له أبداً.
وظل الثلاثة في حصار نفسي ومجتمعي لمدة خمسين يوماً إلى أن جاء الله بالتوبة، وفي هذا تمحيص لهم، فكعب بن مالك- على سبيل المثال- يقص عن حاله قبل الغزوة قائلاً: لم أكن قط أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة.
أي: أنه لم يكن له عذر يمنعه.
بعد ذلك يجيء البشير بأن الله قد تاب عليه، فيأتي واحد من جيل سَلْع فيقول: يا كعب أبشر بخير يوم مرّ عليك. فقد أنزل الله فيك قرآناً وأنه تاب عليك.
قال كعب: فلم أجد عندي ما أهديه له لأنه بشَّرني إلا ثوبيّ فخلعتهما وأعطيتهما له، ثم استعرت ثوبين ذهبت بهما إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: يا رسول الله، إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي- الذي سبَّب لي هذا العقاب- صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه.
إذن: فتأخر الحكم كان المراد منه تمحيص هؤلاء، وإعطاء الأسوة لغيرهم. فحين يرون أن الأرض قد ضاقت عليهم بما رحبت، وكذلك ضاقت عليهم أنفسهم يتيقنون من قول الحق: {وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} [التوبة: 118].
أي: أن أحداً لا يجير إلا الله، وسبحانه يجير من نفسه. كيف؟ أنت تعلم أنك ساعة لا يجيرك إلا من يتعقبك، فاعلم أنه لا سلطان لأحد أبداً؛ ولذلك نقول: أنت تلجأ إلى الله لا من خلقه، ولكنك تلجأ إلى الله ليحميك من الله، فسبحانه له صفات جلال وصفات جمال، وتتمثل صفات الجلال في أنه: قهار، وجبار، ومنتقم، وشديد البطش، إلى آخر تلك الصفات. وفي الحق سبحانه صفات جمال مثل غفور، ورحيم، وغيرها، فإذا ما أذنب الإنسان ذنباً، فالمجال في هذه الحالة ان يُعاقب من صفات الجلال، ولا ينفع العبد وقاية من صفات الجلال إلا صفات الجمال.
وكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا الله بقوله: (أعوذ بك منك).
أي: أعوذ بصفات الجمال فيك من صفات جلالك، فلن يحميني من صفات جلالك إلا صفات جمالك.
ولذلك حينما جاء في الحديث الشريف عن آخر ليلة من رمضان قوله صلى الله عليه وسلم.
(فإذا ما كان آخر ليلة من رمضان تجلَّى الجبَّار بالمغفرة.).
يظن بعض الناس أن هذه المسألة غير منطقية، فكيف يتجلَّى الجبّار بالمغفرة؟ ألم يكن من المناسب أن يقال: (يتجلّى الغفّار)؟ ونقول: لا؛ فإن المغفرة تقتضي ذنباً، ويصبح المقام لصفة الجبار، وهكذا تأخذ صفة الرحمة من صفة الجبار سُلْطتها، وكأننا نقول: يا جبار أنت الحق وحدك، لكننا نتشفع بصفات جمالك عند صفات جلالك. هذا هو معنى: (يتجلى الجبار بالمغفرة).
وقد سمع الأصمعي- وهو يطوف- مسلماً عند باب الملتزم، يقول: اللهم إني أستحي أن أطلب منك المغفرة؛ لأني عصيتك، ولكني تطلَّعْتُ فلم أجد إلهاً سواك.
فقال له: يا هذا، إن الله يغفر لك لحُسْن مسألتك.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} والتوبة أولاً- كما عرفنا- هي تشريعها، ثم تأتي التوبة بالقبول، وقوله: {ليتوبوا} أي: أنها تصبح توبة رجوع وعودة إلى ما كانوا عليه قبل المعصية.
ويُنهي الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} فلا توَّاب ولا رحيم سواه سبحانه وتعالى.
ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ...}.