فصل: تفسير الآية رقم (123):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (123):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى. ولنا أن نتساءل: لماذا- إذن- جاء الحديث عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد؟ أجيب: شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل من ينفر؛ لتعلُّم الفقه، وليعلِّم غيره؛ هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلُّم، ومعرفة الأسباب التي يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل الله.
وقد قسَّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين: فرقة تنفر، وطائفة منها تبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا استوى الأمر، فرقة تجاهد، وفرقة تَتَعَلم وتعلُّم، وتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية، تصبح الملكات الإيمانية متساندة غير متعاندة، ومن بعد ذلك يتجهون إلى الكفار.
{ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} وهذا يعني أن هناك قوماً قريبين منهم ما زالوا كافرين، وهناك قوم أبعد منهم، والحق قد قال: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً...} [التوبة: 36].
إذن: فهناك أولويات في القتال، وقتال الكفار القريبين منك تأمين معسكر الإيمان؛ لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب؛ لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مؤونة للسفر البعيد، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحال الكفار البعيدين عنك؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم، وكيفية تحصيناتهم. فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب كان ذلك طريقاً لمجابهة العدو الأبعد، بدلاً من أن تواجه العدو البعيد؛ فيتفق مع العدو القريب، ويصنع الاثنان حولك (كماشة) بلغة الحرب، فلابد أن تحمي ظهرك أولاً، من شر العدو الأقرب.
إذن: فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب. ولا تَعارض بين قوله الحق: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} وقوله سبحانه: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً}؛ لأن معنى {كَآفَّةً} أي: جميعاً، ولكن الجماعة لها أولوية. فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك، فإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده؛ فأخذته؛ فبذلك يصبح معك سيفان وهو لا سيف معه.
ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار: اعتبروا أيها الكفار، فأنتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم، وما ينقص من أرض الكفار يزيد في أرض الإيمان. وما دام الحق قد جاء بكلمة (قتال) فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة، وجرأة تُجَرِّيء على القتال، وصبر عليه، فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك، فإن رأى شجاعة منك تفوق شجاعتهن وأحسَّ منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرته، فهذا ينزع من قلبه الأمل في الانتصار عليك؛ ولذلك يقول الحق: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} والغلظة صفة، ويقال: غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَة، والمعروف أنها الشدة، فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة، وبجرأة، وبشجاعة.
وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمُّل، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين؛ في حالة الإرسال منك، وفي حالة الاستقبال منه، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية، وحين يردُّ لك الضربة تخور وتضعف. إن الحق يطلب منك غلظة تحمِلُ على عدوّك، وغلظة تتحمَّل من عدوّك.
ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيه الحق: {اصبروا...} [آل عمران: 200].
ولكن هَبْ أن عدوَّك يصبر أيضاً، فيأتي الأمر من الحق: {وَصَابِرُواْ...} [آل عمران: 200].
أي: حاول أن تغلبه في الصبر. وحذَّر الحقُّ من إلقاء السلاح بعد انتهاء المعركة؛ لأن العدو قد يستنيم المؤمن؛ لذلك جاء الأمر من الحق: {وَرَابِطُواْ...} [آل عمران: 200].
أي: استقر أيها المؤمن في الأرض؛ ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدَّثته نفسه بالقتال مرة أخرى. إذن: فالغلظة تطلب منك أن تهاجم، وتطلب منك أن تتحمّل، والتحمُّل يقتضي صبراً، والتحامل يقتضي شجاعة، فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة؛ فعليك أن تصابره أي: تصبر أكثر منه، وهي مأخوذه في الأصل من (نافس فلان فلاناً.. أي سابقه وحاول أن يسبقه)، والمنافسة من النفس، والحق يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26].
أي: تنافسوا في الخير، ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم، وتحتاج إلى شيء ثالث دائماً. فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر. أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان.
وقلنا قديماً: إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام لأسابيع، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياماً تتراوح من ثلاثة إلى عشرة، حسب كمية المياه التي في جسمه؛ لذلك لم يُملِّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلَّك الطعام، وأما الهواء فأنت لا تصبر على افتقاده للحظات؛ ولذلك لم يملِّك الله الهواء لأحد أبداً، وكأنه سبحانه علم أن عباده غير مأمونين على بعضهم البعض، ولذلك سُمّي استنشاق الهواء وزفيره بالتنفس، وهو من النفس، وهو سبب وجود النفْس وهي مزيج من المادة والروح، والأساس هو نَفَس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة.
وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس، وهو إعلاء منهج الله. وحين تصابر أهل الباطل، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع؛ لأن الباطل زهوق، وهنا يقول سبحانه: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة، بل تعني أنك تَطَلّبَ الأمُر فيجب أن تتوافر فيك، وكذلك قلنا: إن الله لم يطبع المؤمن على الغلظة، ولم يطبعه على الشدة، ولم يطبعه على العزة، بل قال: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ...} [الفتح: 29].
وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين...} [المائدة: 54].
ويُنهي الحق الآية: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}. إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار بعددك وعُدَّتك، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان؛ لتدخل المعركة، وعندك شيء من الاطمئنان. ومثال هذا من يسلك مفاوز أو صحاري مقفرة أو طريقاً موحشاً، ويحتمل أن يصادف قُطَّاع طريق، نجده يستعد بحمل سلاح؛ فهو يعطيه شيئاً من الاطمئنان فقط، وهكذا الحال مع العدد والعدة.
أما النصر فهو من المدد الرَّبَّاني من الحق سبحانه وتعالى. وما دام الله مع المتقين، ولله معيَّة مع المتقين فلابد أن يمدهم بمدده؛ لذلك جاء الحق هنا بقوله: {أَنَّ الله مَعَ المتقين} لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكاً غليظاً مع الأعداء، وقد يسلك بالغلظة طمعاً في المغنم، فيدخل على الكافرة بالقسوة، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعداً للإيمان، فيقول: أسلمت واستسلمت، لكن من دخل عليه تعجبه مطية هذا الكافر، ويعتبرها مغنماً.
لذلك يأتي التحذير في قول الحق سبحانه: {أَنَّ الله مَعَ المتقين} فإن سلَّم لك واستسلم؛ فاستأسره، وإياك أن تؤذيه أو تأخذ معداته على أنها مغنم، فأنت لم تذهب للقتال من أجل الغنائم، أو لتكسب مكانة في مجتمعك كمقاتل، بل أنت تقاتل حين يكون القتال مطلوباً، وتسلك بالخلق الإيماني اللائق في إطار أنك من المتقين لله، وتحارب لتكون كلمة الله هي العليا وهنا تكون معيه الله لك {أَنَّ الله مَعَ المتقين}.
إذن: فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة. فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة؛ فلابد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة.
ولذلك يقولون: الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة، وفي السلم وداعة، وخيركم من كان في الجيش كميًّ وفي البيت صبيّاً، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء؛ لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها.
هكذا نفهم قوله الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [التوبة: 123].
أي: كونوا في حربكم غلاظاً بما يناسب الموقف؛ لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك، ولكن استعملها لله؛ لتضمن أن تكون في معية الله.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (124):

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)}
قوله الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ} يعني: إذا نزلت، ونعلم أن هناك (نَزَل) و(أَنْزلَ) و(نَزَّل) ف (أنَزَل) للتعدية، فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ثم نزّله الحق نجوماً. فالتنزيل معناه: موالاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله، ثم بعد ذلك نزله الحق، ونزل به جبريل- عليه السلام- على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل- عليه السلام- بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق سبحانه يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ...} [الإسراء: 105].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].
وهنا يقول الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ} والسورة هي الطائفة من القرآن المسورة بسور خاص؛ أوله مثلاً: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان. وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أم نزول بعض من القرآن؟ إن المقصود هو نزول بعض من القرآن.
وتتابع الآية: {فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله، وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.
وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكن من الفاعل والقابل للفعل- ولله المثل الأعلى- أنت تأتي بمطرقة مثلاً، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.
إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لابد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه. لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر به، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا: لم نتأثر به.
وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيَّ. هنا نقول لك: أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضاً خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحوناً ضد القرآن ثم تقول: إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب.
فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا يساعد الماء على الدخول؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء؛ لذلك لابد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة. وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية.
إذن: فأخْرج ما يناقض الحق من قَلْبك، واجعل الباطل والحق خارجاً، ثم استقبل الاثنين. لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل الحق. ويصف سبحانه المصرين على الكفر: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ...} [التوبة: 93].
أي: أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما في داخلها لا يخرج منها.
إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تفتح هذه القلوب للإيمان، وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.
ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- القرآن، وكان من قبل ذلك شديداً على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه.
إذن: لابد أن تخرج ما في ذهنك أولاً؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم من يقول: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين: واحد يقرأ، والثاني يسمع. ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجه لفريقين: أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يُخْرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لم تتأَكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً...} [محمد: 16].
ويقول: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى...} [فصلت: 44].
إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر. هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ} وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همساً من بعضهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئاً عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفراً، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه.
إذن: الفاعل شيء والقابل مختلف. ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفاً فيه اختلاف بينهم {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقال بعضهم: إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم: إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى.
فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله، وأن لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمداً رسوله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال: هو قول الإمام على كرم الله وجهه: لو انكشف عني الحجاب ما ازدادت يقيناً.
أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمناً بالله أولاً، ثم ينفذ متطلبات الآية.
وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد أو ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} هل تداولوا ذلك سرّاً أم قالوه علناً؟ لابد أنهم قالوا ذلك سرّاً وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً}.
ويرد الحق سبحانه: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} و(يستبشر) أي: يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، والانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئاً جديداً؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديدة من الله.
هذا هو معنى (يستبشر).
أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم...}.