فصل: تفسير الآية رقم (125):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (125):

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}
والرجس: هو الشيء المستقذر، وتكون القذارة حسية، ومرة تكون معنوية. فالميتة مثلاً قذارتها حسية؛ لأنها ماتت ودمها فيها، والدم- كما نعلم- له مجريان؛ مجرى للدم قبل أن يكرر، ومجرى آخر للدم بعد أن يكرر، والدم قبل أن يكرر يمر على الرئة والكلى فتنفيه الرئة والكلى من الأشياء الضارة التي تصل إليه نتيجة تفاعلات أعضاء الجسم المختلفة. وبعد أن تتم تنقية عن طريق الرئتين والكلى يصير دماً صالحاً.
فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله، ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد؛ حتى لا يصيبنا الدم الفاسد بالأمراض؛ ولذلك تعتبر الميتة رجساً. والخمر أيضاً نجاسة حسية ورجس. وهناك رجس معنوي، ولذلك قال الحق: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه...} [المائدة: 90].
إذن: فهناك رجس حسي، ورجس معنوي، ويطلق الرجس على الكفر أيضاً، ومرة يطلق الرجس على همسات الشيطان ووسوسته.
وفي ذلك يقول الحق: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان...} [الأنفال: 11].
وهنا يقول الحق: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} ولأنهم يكفرون بالله وبآياته؛ فهذا يزيدهم رجساً على رجسهم ويصبح كفرهم مركَّباً، وهكذا نجد البشارة للمؤمنين، أما الكافرون فلهم النذارة؛ لأن كفرهم يزيد، ويموتون على ذلك الكفر.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي...}.

.تفسير الآية رقم (126):

{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)}
وقوله الحق: {أَوَلاَ يَرَوْنَ} أي: ألا يستشهد المنافقون تاريخهم مع الإسلام، ويعلمون أنهم يفتنون في كل عام مرة بالمصائب ومرة بالفضيحة، فتجد رسول الله حين يراهم يخرج بعضهم من بين الصفوف ويقول لهم: (اخرج يا فلان فإنك منافق). ثم بعد شهور يتكرر الموقف، وهنا يذكرهم الحق سبحانه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفيهم كل عام مرة أو مرتين.
الأصل في الفتنة أنها امتحان واختبار، وهي ليست مذمومة في ذاتها، لكنها تذم بالنتيجة التي تأتي منها، فالامتحان- أي امتحان- غير مذموم، لكن المذموم هو أن يرسب الإنسان في الامتحان. إذن: الابتلاء أو الفتنة في ذاتها ليست مذمومة، إنما المذموم أن تأتي النتيجة على غير ما تشتهي، وهم يفتنون حين يرون انتصار المسلمين وغم نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وكان يجب أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا عرقلة سير الإسلام؛ لأنه منتصر بالله. وكان يجب أن يعتبروا ويتوبوا لينالوا خير الإسلام، فخيره ممدود رغم أنوفهم، والخسارة لن تكون على الإسلام، وإنما الخسارة على من يكفر به.
ونحن نعلم أن الإسلام بدأ بين الضعفاء إلى أن سار الأقوياء إليه، وتلك سنة الله في الكون، بل إننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الرسالة كان مطلوباً منه أن يؤمن بأنه رسول. وكما تقول أنت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، كان على النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وسبحانه جل شأنه، الخالق الأكرم، آمن بنفسه أولاً، بدليل قوله سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ...} [آل عمران: 18].
فأول شاهد بالألوهية الحقة هو الله، وقد شهد لنفسه، ومعنى ذكر شهادته لنفسه لنا أن نؤمن بأنه سبحانه يزاول قيوميته وطلاقة قدرته بكلمة (كن) وهو عالم أن مخلوقاته تستجيب قطعاً، وكان لابد أن يعلمنا أنه آمن أولاً بأنه الأول، وأنه الإله الحق، بحيث إذا أمر أي كائن أمراً تسخيرياً فلابد أن يحدث هذا الأمر، وسبحانه لا يتهيب أن يأمر؛ لذلك قال لنا: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، وحين يشهد محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله فهو يؤمن بأنه رسول، ولو لم يؤمن برسالته لتهيب أن يبلغنا بالرسالة، وبعد أن آمن صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله جاءه التكليف من الحق: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214].
وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام، ويبلغ آيات الحق إلى أن جاءت آيات الدفاع عن دين الله، وقال الحق: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ...} [التوبة: 123].
إذن: في البداية كان لابد أن يؤمن أنه رسول، وأن يبلغ الدعوة إلى قريش وسائر الجزيرة، وتعبر دعوته بعد ذلك من الجزيرة إلى الشام، وتتعدى الرسالة الشام بالإعلام في كل بقاع الأرض، ولذلك كانت الرمزية في إرسال الكتب: كتاب لفلان وكتاب لفلان؛ ليفهم العالم أن دعوة النبي صلى الله بالإيمان والإسلام دعوة متعدية؛ لأنها خالفت دعوات الرسل عليهم السلام، فقد كان رسول إنما يعلم أن حدود دعوته هي أمته.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت لرسالته مراحل: آمن بذلك أولاً، ثم دعا الأقربين، ثم من بعد ذلك قريش، ثم أبلغ العرب، ثم الشام، وتعدت الدعوة بالكتب إلى جميع الملوك في العالم، وصارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمنة على حمل الدعوة ونشرها في أي مكان ومعها حجتها وهي القرآن.
وشاء الله أن يختم رسول الله الرسالات، وأرسله بالإسلام الذي يغلب الحضارات، رغم أنه صلى الله عليه وسلم من أمة أمية لا تعرف شيئاً؛ حتى لا يقال عن الإسلام أنه مجرد وثبة حضارية، وجاء لهم منهج غلب الحضارات المعاصرة له: فارس والروم في وقت واحد.
إذن: فالمسألة كانت مسألة قبيلة، يحكمهم واحد منهم هكذا، دون تمرس بالنظم الاجتماعية، ولم يعرفوا شيئاً قبل الإسلام، بل هم أمة متبدية لا شأن لها بالنظم السياسية أو الاقتصادية، وطن الواحد منهم جمله وخيمته وبضعة أدوات تعينه على الحياة، وتستقر كل جماعة في أي مكان يظهر به العشب ويوجد به الماء، وبعد أن تأكل الأغنام والأنعام العشب، ينتقل العربي مع جماعته إلى مكان آخر، بعد أن ينظر الواحد منهم إلى السماء؛ ليعرف مسار الغمام وأين ستمطر السحب، ثم ينساح هؤلاء بالدعوة بعد ذلك، فلو كان لهم انتماء إلى وطن أو بيت أو مكان لصار الرحيل صعباً عليهم، لكنهم كانوا متمرسين بالسياحة في الأرض.
والآية التي نحن بصددها تكشف ضعف إيمان البعض، ونفاق البعض، فيقول الحق: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: كان لابد أن يتوبوا أو يتعظوا ويعلموا أن وقوفهم ضد الإسلام لم ولن يحجب الإسلام وأنهم سينسحقون ويضيعون، فلماذا لا يتذكر كل منهم تفسه، ويرى مصلحته في الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى...}.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}
ومن قبل جاء قول الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً...} [التوبة: 124].
أي: أن هؤلاء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار، ويخافون أن يتكلموا؛ لأنهم موجودون مع المسلمين، ولكنهم لا يعدمون وسيلة للتعبير عن كفرهم، فيغمز الواحد منهم بعينه، أو يشير إشارة بيده، فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل ب {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقد كان هذا السؤال يتعلق بالتكاليف، أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة.
لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم، فتكلموا بأعينهم ونظراتهم، فكأن النظر نفسه كان فيه هذه الكلمة: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ}، وهذا قد تراه من واحد يسمع خطبة الخطيب، ولكنه يرى بها أشياء لا تعجبه، فتجده يعبر بانفاعالات وجهه عن عدم رضاه.
إذن: فهناك نظر، وهناك كلام، وهم قد تساءلوا: هل يراكم من أحد؟ زمثلها مثل قولك: ما عندي من مال؟ أي أنك لا تملك بداية ما يقال عنه مال، والقول الكريم أبلغ بالقطع من أن تقول: هل يراكم أحد.
إن قوله الحق: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد، ومن بعد ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الاستماع للقرآن أو للرسول؛ لأنهم لا يطيقون الاستمرار في الاستماع؛ لأن منطق الحق يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر على إعلان الكفر؛ فينسحبون، وينصرف كل واحد منهم؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ...} [فصلت: 26].
وقد قالوا ذلك لأن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل، فيتسلل الإيمان إلى قلبه، كما أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق، لكنه يستغفر الله عنها.
وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه؛ فتأتيه هجمة الإيمان فيخافها، فيقول لمن هم مثله: من الأفضل أن نقول لمن معنا لا تسمعوا هذا القرآن. لماذا؟ حتى لا يصادف فترة غفلة عن النفاق، فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل الإيمان القلب. ولذلك قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن}، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل طلبوا من الأتباع ان يلغوا فيه، أي: أن يشوشوا عليه: {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ...} [فصلت: 26].
إذن: لا غلبة لهم مطلقاً إلا بعدم الاستماع إلى القرآن، أو أن يشوشوا عند سماع القرآن؛ حتى لا ينفذ القرآن إلى القلوب.
وهنا يقول الحق سبحانه عن هؤلاء المنافقين: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} كانوا يقولون ذلك؛ لأنهم كمنافقين سبق لهم إعلان الإسلام، وكانوا يدعون أنهم متقدمون في تطبيق أحكام الإيمان، وكانوا يصرون على الوقوف أثناء الصلاة في الصف الأول؛ حتى يدفعوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وكما يقول المثل: يكاد المريب أن يقول خذوني.
وينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا} لأنهم لا يطيقون الجلوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى المؤمنين. وينهي الحق الآية: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} وذلك نتيجة لانصرافهم نفسيّاً إلى النفاق؛ فيساعدهم سبحانه على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان؛ فليذهبوا بعيداً عنه، فالحق لهم يصرفهم إلا باختيارهم، حتى لا يقول أحد: إن الله هو مصرف القلوب، فما ذنبهم؟ لا، لقد انصرفوا هم بما خلقه الله فيهم من اختيار، فصرف الله قلوبهم، لماذا؟ لأنهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون.
والفهم أول مرحلة من مراحل الذات الإنسانية، وهناك فرق بين الفهم والعلم. فالفهم يعني أنك تملك القدرة على تَفَهُّم ذاتية الأشياء بملكة فيك، لكن العلم يعني أنك قد لا تفهم أنت بذاتك، وإنما يفهم غيرك ويعلمك. فأنت قد تعلم جزئية لا من عندك وإنما من معلم لك. ولكن قد يقول قائل: ما داموا لا يفقهون فما ذنبهم؟ ونقول: الذي لا يفهم عليه أن يتقبل التعليم، لكن هؤلاء لم يفهموا ولم يتعلَّموا، وأصروا على عدم قبول العلم.
وبعد ذلك يتأتى ختام سورة التوبة.
والسورة بدأت بالقطيعة: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1].
ووردت لنا أحوال الكفار والمنافقين وتكاليف الجهاد الشاقة، وأراد الحق أن يختم السورة بما يبرر هذه المشقات المتقدمة، فبيّن لنا: إياكم أن تنفضُّوا عن الرسول أو تغضبوه؛ لأنه وإن جاء لكم ببلاغ فيه أمور شاقة عليكم فخذوا هذه الأمور الشاقة على أنها من حبيب لكم، لا من عدو لكم.
إنك مثلاً إن رأيت عدوّا ضرب ابنك وجرحه، يكون وقع هذا الأمر شديداً عليك؛ لأنه عدو. لكنك إذا أخذت ابنك للطبيب وقرر الطبيب إجراء جراحة للابن، فأنت تقبل ذلك؛ لتزيل عن ابنك خطراً. إذن: فهناك فارق بين جرح عدوك لابنك وجرح الطبيب له رغم أن الإيلام قد يكون واحداً.

إذن: لا ترفض الأمور الشاقة عليك لمجرد ورود المشاق عليك، ولكن اعرف أولاً من الذي أجرى المشاق عليك، فإن كان ربك، فربك بك رحيم. وإن كان الرسول فخذ أوامر الرسول وطبيقها؛ لأنها من حبيب يريد لك الخير.
وهنا يقول الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ...}.