فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (17):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: أأكذب على الله؟ إذا كنت لم أكذب عليكم أنتم في أموري معكم وفي الأمور التي جرَّبتموها، أفأكذب على الله؟! إن الذي يكذب في أول حياته من المعقول أن يكذب في الكِبَر، وإذا لم أكذب علكيم أنتم، فهل أكذب على الله؟
وإذَا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير، في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة، فأنا الآن لا أستطيع الكذب. فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك، فأنا لا أظلم نفسي وأتهمها بالكذب، فتصبحون أنتم المكذبين؛ لأنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن الله، ولو أنني قلت: إنه من عند نفسي لكان من المنطق أن تُكذِّبوا ذلك؛ لأنه شرف يُدَّعى. ولكن أرفعه إلى غيري؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم.
وقوله الحق: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله سبحانه كذباً؛ لأن الكاذب إنما يكذب ليدلِّس على من أمامه، فهل يكذب أحد على من يعلم الأمور على حقيقتها؟ لا أحد بقادر على ذلك. ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم، لكن الأظلم منه هو من يكذب على الله سبحانه.
والافتراء كذب متعمد، فمن الجائز أن يقول الإنسان قضية يعتقدها، لكنها ليست واقعاً، لكنه اعتقد أنها واقعة بإخبار من يثق به، ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة، وهذا كذب صحيح، لكنه غير متعمد، أما الافتراء فهو كذب متعمد.
ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلام الخبري؛ قسموه إلى: خبر وإنشاء، والخبر يقال لقائله: صدقت أو كذبت، فإن كان الكلام يناسب الواقع فهو صدق، وإن كان الكلام لا يناسب الواقع فهو كذب.
وقوله الحق: {افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلتم إنني ادعيت أن الكلام من عن الله، وهو ليس من عند الله. فهذا يعني أن الكلام كذب وهو من عندي أنا، فما موقف من يكَذب بآيات الله؟
إن الكذب من عندكم أنتم، فإن كنتم تكذبونني وتدَّعون أني أقول إن هذا من الله، وهو ليس من الله، وتتمادون وتُكذِّبون بالآيات وتقولون هي من عندك، وهي ليست من عندي، بل من عند الله؛ فالإثم عليكم.
والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل، وإما من ناحية المستمع، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم عدالة التوزيع في أكثر من موقع، مثلما يأتي القول الحق مبيِّناً أدب النبوة: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وليس هناك أدب في العرض أكثر من هذا، فيبين أن قضيته صلى الله عليه وسلم وقضيتهم لا تلتقيان أبداً، واحدة منهما صادقة والأخرى كاذبة، ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة؟ إنه الحق سبحانه.
وتجده سبحانه يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وفي ذلك طلب لأن يعرضوا الأمر على عقولهم؛ ليعرفوا أي القضيتين هي الهدى، وأيهما هي الضلال.
وفي ذلك ارتقاء للمجادلة بالتي هي أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
أي: كل واحدة سيُسأل عن عمله، فجريمتك لن أسأل أنا عنها، وجريمتي لا تُسأل أنت عنها. ونسب الإجرام لجهته ولم يقل: (قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تجرمون) وشاء ذلك ليرتقي في الجدل، فاختار الأسلوب الذي يُهذِّب، لا ليهيِّج الخصم؛ فيعاند، وهذا من الحكمة؛ حتى لا يقول للخصم ما يسبب توتره وعناده فيستمر الجدل بلا طائل.
وهنا يقول الحق سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فإذا كان الظلم من جهتي؛ فسوف يحاسبني الله عليه، وإن كان من جهتكم؛ فاعلموا قول الحق سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} ولم يحدد من المجرم، وترك الحكم للسامع.
كما تقول لإنسان له معك خلاف: سأعرض عليك القضية واحكم أنت، وساعة تفوضه في الحكم؛ فلن يصل إلا إلى ما تريد. ولو لم يكن الأمر كذلك لما عرضت الأمر عليه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ}

.تفسير الآية رقم (18):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
وكلمة {وَيَعْبُدُونَ} تقتضي وجود عابد؛ ووجود معبود؛ ووجود معنى للعبادة. والعابد أدنى حالاً من المعبود، ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للأمر والانصراف عن المنهي عنه.
هذا هو أصل العبادة، ووسيلة القرب من الله.
وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح لابد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على الأشياء، أما إن كان الأمر بين متساويين فيسمونه التماساً.
إذن: فهناك آمر ومأمور، فإن تساويا؛ فالمأمور يحتاج إلى إقناع، وأما إن كان في المسألة حكم سابق بأن الآمر أعلى من المأمور؛ كالأستاذ بالنسبة للتلميذ، أو الطبيب بالنسبة للمريض، ففي هذا الوضع يطيع المأمور الآمر لأنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه.
وكذلك المؤمن؛ لأن معنى الإيمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق؛ فإذا اعتقدت هذا؛ فالإنسان ينفذ ما يأمر به الله؛ ليأخذ الرضاء والحب والثواب. وإن لم ينفذ؛ فسوف ينال غضب المعبود وعقابه.
إذن: فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه؛ نلت الثواب منه، وإن خالفت؛ تأخذ عقاباً؛ لذلك لابد أن يكون أعلى منك قدرة، ويكون قادراً على إنفاذ الثواب والعقاب، والقادر هو الله جل علاه.
أما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فبأي شيء أمرتهم؟ إنها لم تأمر بشيء؛ لذلك لا يصلح أن تكون لها عبادة؛ لأن معنى العبادة يتطلب أمراً ونهياً، ولم تأمر الأصنام بشيء ولم تنه عن شيء، بل كان المشركون هم الذين يقترحون الأوامر والنواهي، وهو أمر لا يليق؛ لأن المعبود هو الذي عليه أن يحدد أوجه الأوامر والنواهي.
إذن: فمن الحمق أن يعبد أحدٌ الأصنم؛ لأنها لا تضر من خالفها، ولا تنفع من عبدها، فليس لها أمر ولا نهي.
ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره، فالواحد منهم يستطيع أن يصنع الصنم، وأن يصلحه إذا انكسر، أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على الأرض. وفي هذه لحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع، وهذا عين التخلف العقلي.
إذن: فمثل هذه العبادة لون من الحمق، ولو عُرِضَتْ هذه المسألة على العقل؛ فسوف يرفضها العقل السليم.
وعندما تجادلهم، وتثبت لهم أن تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع، تجد من يكابر قائلاً: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} وهم بهذا القول يعترفون أن الله هو الذي ينفع ويضر، ولكن أما كان يجب أن يتخذوا شفيعاً لهم عند الله، وأن يكون الشفيع متمتعاً بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده؟
ثم ماذا يقولون في أن من تُقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الأصنام آلهة وينهي عن عبادتها؟
وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده؟ من أجل ذلك جاء الأمر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [يونس: 18].
إذن: فمن أين جئتم بهذه القضية؛ قضية شفاعة الأصنام لكم عند الله؟ إنها قضية لا وجود لها، وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناماً تشفع، وليس هذا وارداً، فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء.
فهو سبحانه الذي خلق السموات وخلق الأرض، ويعلم كل ما في الكون، وقضية شفاعة الأصنام عنده ليست في علمه، ولا وجود لها، بل هي قضية مفتراة، مُدَّعاة.
وقوله الحق هنا: {أَتُنَبِّئُونَ الله} مثلها مثل قوله الحق: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} [الحجرات: 16].
ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون: إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر، وكلما فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة، وما داموا هم الذين يشرِّعون، فكأنهم يرغبون في تعليم خالقهم كيف يكون الدين، وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة مَنْ خلق الكون، فأحكمه بنظام.
وقوله الحق: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فيه تنزيه له سبحانه، فهو الخالق لكل شيء، خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء، وقضية شفاعة الأصنام إنما هي قضية مفتراة لا وجود لها؛ لذلك فهي ليست في علم الله، والحق سبحانه مُنزَّه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ولا يعلمها، ومُنزَّه جل وعلا عن أن يُشرَك به؛ لأن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه، ونحن نرى على سبيل المثال صاحب مال يديره في تجارة ما، ولكن ماله لا ينهض بكل مسئوليات التجارة، فيبحث عن شريك له.
وسبحانه وتعالى قوي وقادر، ولا يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته، ثم ماذا يفعل هؤلاء الشركاء المدَّعون كذباً على الله؟
إن الحق سبحانه يقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42].
وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلاء الشركاء قوة وقدرة على التصرف، فهم لن يفعلوا أي شيء إلا بابتغاء ذى العرش، أي: بأمره سبحانه وتعالى. وهم حين ظنوا خطأ أن لكل فلك من الأفلاك سيطرة على مجال في الوجود، وأن النجوم لها سيطرة على الوجود، وأن كل برج من الأبراج له سيطرة على الوجود، فلابد في النهاية من الاستئذان من مالك الملك والملكوت.
ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون، ومعهم الفلاسفة الذين أقروا بأن هناك أشياء في الكون لا يمكن أن يخلقها إنسان، أو أن يدَّعى لنفسه صناعتها؛ لأن الجنس البشري قد طرأ على هذه المخلوقات، فقد طرأ الإنسان على الشمس والقمر والنجوم والأرض، ولابد إذن أن تكون هناك قوة أعلى من الإنسان هي التي خلقت هذه الكائنات.
كل هذه الكائنات تحتاج إلى مُوجِد، ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الأرض أو وجدنا من ادعى صناعتها أو خلقها.
ولكن الفلاسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا إلى اسمه ولا إلى منهجه، وقوة الحق سبحانه مطلقة، ولا يحتاج إلى شريك له، وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءاً بسيطاً من أثر قوة الله التي وهبها للإنسان، فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي.
وكل منا يعلم أنه لا توجد بذرة نضعها في الأرض، فتنبت أشجاراً من المصابيح، بل استدعت صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علما الطاقة، واستنبطوا من المعادلات إمكان تصور صناعة المصباح الكهربي، وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك الذي يضيء داخل المصباح، وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج إلى جهد علماء وعمل مصانع، كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن. فما بالنا بالشمس التي تضيء الكون كله، وإذا كان أتفه الأشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والإمكانات الفنية والتطبيقية، وتطوير للصناعات، فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم، ولا أحد يقدر على إطفائها، ولا تحتاج إلى صيانة من البشر، وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد إلا الله سبحانه.
وأنت بما تبتكره وتصنعه لا يمكن أن يصرفك عن الله، والذكي حقاً هو من يجعل ابتكاراته وصناعاته دليلاً على صدق الله فيما أخبر.
وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس ضمن ما خلق وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم؛ لأنها هي المصباح الذي يهدي الجميع، وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد لله، فما بالنا بكل نعمة من سائر مخلوقاته. ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالأشياء فلا تحطمنا ولا نحطمها، فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق.
وإياك أن تقول: إن الفيلسوف الفلاني جاء بنظرية كذا؛ فخذوا بها، بل دع عقلك يعمل ويقيس ما جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه، وإن دخلت النظرية مجال التطبيق، وثبت أن لها تصديقاً من الكتاب، فقل: إن الحق سبحانه قد هدى فلاناً إلى اكتشاف سر جديد من أسرار القرآن؛ لأن الحق يريد منا أن نتعقل الأشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة، بحيث نأخذ طموحات العقل؛ لتقربنا إلى الله، لا لتبعدنا عنه، والعياذ بالله.
وإذا قال الحق سبحانه: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فذلك لأن الشركة تقتضي طلب المعونة، وطلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من الأعلى، ولا يوجد مساوٍ لله تعالى، ولا أعلى من الله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}