فصل: تفسير الآية رقم (41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (41):

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)}
وهذه آية تضع الاطمئنان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَقُل الله سبحانه: (إذا كذَّبوك) بل قال: {إِن كَذَّبُوكَ} [يونس: 41] وشاء الحق سبحانه أن يأتي بالتكذيب في مقام الشك، وأتبع ذلك بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41] أي: أبْلِغْهم: أنا لا أريد أن أحْمِلكم على ما أعمل أنا، إنما أريد لكم الخير في أن تعملوا الخير، فإن لم تعملوا الخير؛ فهذا لن يؤثر في حصيلتي من عملي.
وبذلك يتضح لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُجازَى على عدد المؤمنين به، بل بأداء البلاغ كما شاءه الله سبحانه.
وقد شاء الحق سبحانه أن ينقل محمد صلى الله عليه وسلم الخير إلى أمته، فإن ظلوا على الشر؛ فهذا الشر لن يناله لأن خير البلاغ بالمنهج يعطيه صلى الله عليه وسلم خيراً، لأنه يطبِّقه على نفسه، وشر الذين لا يتبعونه إنما يعود عليهم؛ لأن الذين يتأبون على الاستجابة لأي داعٍ إنما يظنون أن الداعي سوف يستفيد.
والبلاغ عن الله، إنما يطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً وسلوكاً ويُجازَى عليه.
فلا يجوز الخلط في تلك المسائل {لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41].
ثم يقول الحق سبحانه على لسان رسول صلى الله عليه وسلم: {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
وكلمة {برياء} تفيد أن هناك ذنباً، وهذا القول الحق فيه مجاراة للخصوم، وشاء الحق سبحانه أن يُعلِّم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أدب الحوار والمناقشة، فيقول: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
أي: أننا الرسول ومعه المؤمنون وأنتم أيها الكافرون إما على هدى، أو في ضلال. والرسول صلى الله عليه وسلم موقن أنه على هدى وأن الكافرين على الضلال، ولكنه يجاريهم؛ عدالة منه صلى الله عليه وسلم ومجاراة لهم.
كذلك يعلِّمه ربه سبحانه أن يقول: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} [سبأ: 25].
أي: أنه يبين لهم: هَبُوا أنِّي أجرمتُ فأنتم لن تُسألوا عن إجرامي، ومن أدب الرسول صلى الله عليه وسلم شاء له الحق سبحانه أن يقول: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
ولم يقل: (ولا نُسأل عما تُجرمون). وكذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}

.تفسير الآية رقم (42):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}
وكلمة (مَنْ) تطلق وقد يراد بها المفرد، وقد يراد بها المفردة، وقد يراد بها المثنى، وقد يراد بها الجمع، ومرة يطابق اللفظ فيقول سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25].
ومرة يقصد المعنى فيقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42].
لأن {مَّن} صالحة للموقعين.
والسماع كما نعلم هو استقبال الأذن للصوت، فإن كان صوتاً مُبْهماً كأصوات الحيوانات أو أصوات الأعواد، فهذه الأصوات لا تفيد إلا ما تفيده النغمة في الجسم من هزة أو ارتجاج.
وإما أن يكون الصوت له معنى تواضُعيٌّ، كاللغات المختلفة التي يتخاطب بها الناس في البلدان المختلفة، فإن تكلمتَ بالإنجليزية في بلد يتكلم أهله بهذه اللغة فهموك وفهمت عنهم. هذا هو معنى التواضع في اللغة، أي: أن المتكلم والسامع على درجة. واحدة من الاتفاق على اللغة.
والنبي صلى الله عليه وسلم عربي يتحدث بلسان عربي مبين لقوم من العرب، فما العائق عن السمع إذن؟
إن العائق عن السمع نفض الأذن لما يأتي من جهة الخصم، والسماع كما نعلم هو استشراف المخاطب إلى ما يفهم من المتكلم، فإن لم يوجد عند المخاطب استشراف إلى أن يسمع، فالكلام يُقال ولا يصل.
إذن: لابد للسامع من حالة الاستشراف إلى فهم ما يقوله المتكلم. وكما يقول المثل: (إذن من طين وأخرى من عجين). أو كما تقول المزحة أن واحداً مال على أذن صديق له وقال: (أريد أن أقول لك سِراً) فاقترب الصديق مستشرفاً سماع السر، فقال الرجل: (أريد مائة جنيه كقرض)؛ فقال الصديق: (كأني لم أسمع هذا السر).
إذن: فالكلام ليس مجرد صوت يصل إلى الأذن، لكن لابد من استشراف نفسي للتقلي. وهم لا يملكون هذا الاستشراف؛ لذلك قال الحق سبحانه: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} [يونس: 42] أي: كان سمعهم لا يسمع.
ومثال ذلك: أننا نجد المدرس الذي يشرح الدرس للتلاميذ، وبين التلاميذ من يستشرف السمع؛ ولذلك يفهم الدرس، أما الذي لا يستشرف فكأنه لم يسمع الدرس.
وهم قد فاتوا الصُّمَّ؛ لأن الأصم قد يفهم بالحركة او الإشارة أو لغة العين، ولكن هؤلاء لا يسمعون ولا يعقلون {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ}

.تفسير الآية رقم (43):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)}
والرؤى أيضاً تحتاج إلى استشراف، وأن يُقْبِل المرء على ما يريد أن يراه، وأحياناً لا يكون الرائي مستشرفاً؛ لأن قلبه غير متجه للرؤية.
وسئُل واحد: إنك تقول: من رأى فلاناً الصالح يَهْده الله. فردَّ عليه السامع متسائلاً: كيف تقول ذلك؟! فردَّ القائل: لقد رأى أبو جهل خيراً من هذا، ومع ذلك ظل كافراً. فردَّ السامع: إن أبا جهل لم يَرَ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رأى يتيم أبي طالب.
وهكذا شرح الرجل أن أبا جهل لم ينظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم على أنه رسول؛ لأنه لو نظر إليه بهذا الإدراك لتسللت إليه سكينة الإيمان وهَيبة الخشوع وجلال الورع.
ونحن قد نلقى رجلاً صالحاً في بشرته أدْمة أو سواد، وصلاحه يضيء حوله، وله أسْر من التقوى، وجاذبية الورع.
ولو أن أبا جهل رأى محمداً صلى الله عليه وسلم على أنه رسول لتغيَّر أمره.
وها هو فضالة يحكى عن لحظة أراد فيها أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما اقترب منه؛ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماذا كنت تحدِّث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنت أذكر الله. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «استغفِر الله، ثم وضع يده على صدر فضالة».
وساعة سمع فضالة هذا، ورأى محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك القول، قال: ما كان أبغض إليَّ من وجهه، ولكني أقبلت عليه فما كان أحَبَّ إليَّ في الأرض كلها من وجهه.
هذا هو السماع، وهذا هو البصر، وكلاهما السمع والبصر أكرم المتعلقات وأشرفها؛ لأن السمع هو وسيلة الاستماع لبلاغ الله عنه، والإنسان قبل أن يقرأ لابد له من أن يكون قد سمع.
والمقصود هنا بالعمى في قول الحق سبحانه: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] هو عمى البصيرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً}

.تفسير الآية رقم (44):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}
كلمة (الله) هي اسم عَلَمٍ على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي عرفناها في أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وإن كان لله تعالى كمالات لا تتناهى؛ لأن الأسماء أو الصفات التي يحملها التسعة والتسعون اسماً لا تكفي كل كمالات الله سبحانه، فكمالاته سبحانه لا تتناهى.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسألك بكل اسم سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خَلْقك، أو استأثرت به في علّم الغيب عندك».
وإن سأل سائل: ولماذا يستأثر الله سبحانه ببعض من أسمائه في علم الغيب؟
أقول: حتى يجعل لنا الله سبحانه في الآخرة مزيداً من الكمالات التي لم نكن نعرفها؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يفتح على رسوله صلى الله عليه وسلم من محامده وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبله.
وهذا بعض من فيض لا ينفد من آفاق اسم عَلَمٍ على واجب الوجود، وصفات علم واجب الوجود، والتسعة والتسعون اسماً التي نعلمها هي اللازمة لحياتنا الدنيا، ولكننا سنجد في الآخرة صفات كمال أخرى، وكلمة (الله) هي الجامعة لكل هذه الأسماء، ما عرفناها؛ وما لم نعرفها.
والإنسان منا حين يُقبل على عمل، فهذا العمل يتطلب تكاتُفَ صفات متعددة، يحتاج إلى قدرة، وعلم، وحكمة، ولُطْف، ورحمة، وغير ذلك من الصفات، فإن قلت: باسم القويّ؛ فأنت تحتاج إلى القوة، وإن قلت باسم القادر؛ فأنت تحتاج إلى القدرة، وإن قلت: باسم الحليم؛ فأنت تحتاج إلى الحِلْم، وإن قلت: باسم الحكيم؛ فأنت تحتاج إلى الحكمة، وإن قلت: (باسم الله) فهي تكفيك في كل هذا وغيره أيضاً؛ ولذلك يكون بدء الأعمال ب (بسم الله)، فإذا احتجت إلى قدرة وجدتها، وإن احتجت إلى غِنَىً وجدته، وإن احتجت إلى بَسْطٍ وجدته.
وكل صفات الكمال أوجزها الحق سبحانه لنا في أن نقول: (بسم الله). وحين تبدأ عملك باسم الله؛ فأنت تُقِرُّ بأن كل حَوْلٍ لك موهوب من الله، والأشياء التي تنفعل لك، إنما تنفعل باسم الله، وكل شيء إنما يسخر لك باسم الله، وهو القائل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71- 72] ٍ.
ولو لم يذلِّل الله لنا الأنعام والأشياء لتنفعل لنا ما استطعنا أن نملكها، بدليل أن الله تعالى قد ترك أشياء لم يذللها لنا حتى نتعلَّم أننا لا نستطيع ذلك، لا بعلْمنا، ولا بقُدْرتنا، إنما الحق سبحانه هو الذي يُذلِّل.
فأنت ترى الطفل في الريف وهو يسحب الجمل، ويأمره بالرقود؛ فيرقد، ويأمره بالقيام؛ فيقوم.
أما إن رأينا ثعباناً فالكثير منا يجري ليهرب، ولا يواجهه إلا من له دُرْبة على قتله. والبرغوث الصغير الضئيل قد يأتي ليلدغك ليلاً، فلا تعرف كيف تصطاده؛ لأن الله لم يذلِّله لك.
وكذلك الثمرة على الشجرة إذا قطفتها قبل نضجها تكون غير مستساغة، أما إن قطفتها بعد نضجها فأنت تستمتع بطعمها، ثم تأخذ منها البذرة لتعيد زراعتها، وتضمن بقاء النوع، بل إن الثمرة تسقط من على الشجرة حين تنضج وكأنها تنادي من يأكلها.
وكذلك الإنسان حين يبلغ، أي: يصبح قادراً على أن ينجب غيره، فيكلّفه الله بعد ذلك بالتكاليف الإيمانية؛ لأنه لو كلَّفه قبل ذلك ثم طرأتْ عليه مشاكل المراهقة؛ فقد لا يستطيع أن يتحمل التكليف.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يخلق من عدم، وأن يربِّى حتى يكتمل الإنسان، ثم حدَّد التكليف من لحظة البلوغ، ووضع شرط اكتمال العقل والرشد، وألا توجد آفة أو جنون.
ولا أقوى من الله سبحانه يمكن أن يُكلِّف لتفعل غير ما يريد الله؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يكتمل للإنسان الرشد ساعة التكليف، أم المجنون فلم يكلفه الله سبحانه، وكذلك يسقط التكليف عن المُكْرَه؛ لأن التكليف في مضمونه هو اختيار بين البدائل، وهذه منتهى العدالة في التشريع.
وأنت حين تستقبل التكليف عليك ألا تنظر إلى ما تأخذه منك العبادات، لأنها لا تأخذ من حريتك، بل تحترم أنت حرية الآخرين، ويحترمون هم حريتك، فإن حرَّم عليك أن تسرق، فهو سبحانه قد حماك بأن حرَّم على جميع الخلق أن يسرقوا منك.
إذن: فالقيد قد جاء لصالحك.
وهَبْ أنك أطلقت يدك في الناس، فماذا تصنع لو أطلقوا هم أياديهم فيما تملك؟
وحين حرَّم عليك التكليف أن تنظر إلى محارم غيرك، فهو قد حرم على الغير أن ينظروا إلى محارمك.
وحين أمرك أن تزكِّي، فهو قد أخذ منك؛ ليعطي الفقير من المال الذي استخلفك الله فيه.
فلا تنظر إلى ما أخذ منك، بل انظر إلى ما قد يعود عليك إن أصابك القدر بالفقر، والشيء الذي تستشعر أنه يؤخذ منك فالله سبحانه يعطيك الثواب أضعافاً كثيرة.
وبعد ذلك انظر إلى حركة الحياة، وانظرْ إلى ما حَرَّم الله تعالى عليك من أشياء، وما حلَّل لك غير ذلك؛ فستجد المباح لك أكثر مما منعك عنه.
إذن: فالتكليف لصالحك.
ثم بعد كل ذلك: أيعود شيء مما تصنع من تكاليف عل الحق سبحانه؟ لا.
أيعطيه صفة غير موجودة؟
لا؛ لأن الحق سبحانه قد خلقنا بكل صفات كماله، وليس في عملنا ما يزيده شيئاً.
إذن: فمن المصلحة أن تطبّق التكاليف لأنها تعود عليك أنت بالخير.
وانظر مثلاً إلى الفلاح في الحقل، إنه يحرث الأرض، وينقل السماد، ويبذر، ويروى ويتعب، وبعد ذلك يستريح في انتظار الثمار.
وأنت حين تنفِّذ تكاليف الحق سبحانه فأنت تجد العائد، وأنت ترى في حياتك أن الفلاح الكسول يصاب بحسرة يوم الحصاد، فما بالنا بحساب الآخرة.
والفلاح الذي يأخذ من مخزنة إردبّاً؛ ليزرعه، وهو في هذه الحالة لا ينقص مخزنه؛ لأنه سيعود بعد فترة بخسمة عشر إردبّاً.
وهكذا من ينفِّذ التكاليف يعود عليه كل خير؛ ولذلك أقول: انظر في استقبالات منهج الله تعالى فيما تعطيه، لا فيما تأخذه.
وهكذا ترى أنه لا ظلم؛ لأننا صنعة الله، فهل رأيتم صانعاً يفسد صنعته؟
إذن: فالصانع الأعلى لا يظلم صنعته ولا يفسدها أبداً، بل يُحسِّنها ويعطيها الجمال والرونق؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].
أي: أن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، ومن الظلم جَحْد الحق، وهذا هو الظلم الأعلى، ومن الظلم أن يعطى الإنسان نفسه شهوة عاجلة؛ ليذوق من بعد ذلك عذاباً آجلاً، وهو بذلك يحرم نفسه من النعيم المقيم، وهو حين يظلم نفسه يكون قد افتقد القدرة على قياس عمره في الدنيا، فالعمر مهما طال قصير، وما دام الشيء له نهاية فهو قصير.
والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب الناس، فهو قد نصب لهم آيات باقية إلى أن تقوم الساعة، وكلهم شركاء فيها، وهي الآيات الكونية، وبعد ذلك خَصَّ كل رسول بآية ومعجزة، وأنزل منهجاً ب (افعل) و(لا تفعل)، وبيَّن في آيات الكتاب ما المطلوب فعله، وما المطلوب أن نمتنع عنه، وترك لك بقية الأمور مباحة.
والمثال الذي أضربه دائماً: هو التلميذ الذي يرسب آخر العام، هذا التلميذ لم تظلمه المدرسة، بدليل أن غيره قد نجح؛ لذلك لا يصح أن يقال: إن المدرسة أسقطت فلاناً، ولكن الصحيح أن نقول: إن فلاناً قد أسقط نفسه، وأن زميله قد أنجح نفسه، ودور المدرسة في ذلك هو إعلان النتيجة.
ومن الظلم أيضاً أن يستكثر الظالم نعمة عند المظلوم، فيريد أن يأخذها منه، ولا يمكن أن يكون الحق سبحانه وتعالى ظالماً يستكثر نِعَم عباده؛ لأنه مُنزَّه عن ذلك؛ فضلاً عن أن خَلْقه ليس عندهم نِعَم يريدها هو، فهو الذي أعطاها لهم؛ ولذلك لا يأتي منه سبحانه أي ظلم، وإنْ جاء الظلم فهو من الإنسان لنفسه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً}