فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (2):

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}
إذن: فقد أحكمت آيات الكتاب وفصِّلت لغاية هي: ألا نعبد إلا الله.
والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر، وفيما نهى.
وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة، فهل مَنْ عَبَدَ الصنم تلقَّى من أمراً أو نهياً؟
وهل مَنْ عَبَدَ الشمس تلقَّى منها أمراً أو نهياً؟
إذن: فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة؛ لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها.
والعبادة بدون منهج (افعل) و(لا تفعل) لا وجود لها، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة.
وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
غير قوله سبحانه: {اعبدوا الله} [المائدة: 72].
ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن يقولوا للناس: {اعبدوا الله} [الأعراف: 59].
ولكن هنا يقول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
فكأنه سبحانه يواجه قوماً لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة؛ فيريد سبحانه أولاً أن يُنهي هذه المسألة، ثم يثبت العبادة لله.
إذن: فهنا نفي وإثبات، مثل قولنا: (أشهد ألا إله إلا الله)، هنا ننفي أولاً أن هناك إلهاً غير الله، ونثبت الألوهية لله سبحانه.
وأنت لا تشهد هذه الشهادة إلا إذا وُجد قوم يشهدون أن هناك إلهاً غير الله تعالى، ولو كانوا يشهدون بألوهية الإله الواحد الأحد سبحانه؛ لكان الذهن خالياً من ضرورة أن نقول هذه الشهادة.
ولكن قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
معناه النفي أولاً للباطل، وإذا نُفِي الباطل لابد أن يأتي إثبات الحق، حتى يكون كل شيء قائماً على أساس سليم.
ولذلك يقال: (درء المفسدة مقدَّم دائماً على جلب المنفعة) فالبداية ألا تعبد الأصنام، ثم وجِّه العبادة إلى الله سبحانه.
وما دامت العبادة هي طاعة الأمر، وطاعة النهي، فهي إذن تشمل كل ما ورد فيه أمر، وكل ما ورد فيه نهي.
وإنْ نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح، فهذه عبادة.
إذن: فالإسلام لا يعرف ما يقال عنه (أعمال دنيئة)، و(أعمال شريفة) ولكنه يعرف أن هناك عاملاً دنيئاً وعاملاً شريفاً.
وكل عامل يعمل عملاً تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلاحه وعدم الإفساد، فهذا عامل شريف؛ وقيمة كل امرئ فيما يحسنه.
وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة؛ لأن هناك أمراً بما يجب أن يكون، وهناك نهياً عما يجب ألا يكون، وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو لا تفعله، فإذا نظرت إلى نسبة ما تؤمر به، ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لأعمال الحياة، لوجدت أنها نسبة لا تتجاوز خمسة في المائة من كل أعمال الحياة، ولكنها الأساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان».
وأعداء الإسلام يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الأركان الخمسة، ولكن هذه الأركان هي الأعمدة التي تقوم عليها عمارة الإسلام.
وأركان الإسلام هي إعلان استدامة الولاء لله تعالى، وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين؛ لأنه يصلح الحياة.
وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الأرض، أما العلوم ا لأخرى فهي مطلوبة لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم، وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك تدعيماً لرفعة الإسلام.
إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين، ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها، فلا يأتي إنسان لا يعرف صحيح الدين ليتكلم والعَوْل، والرد؛ لأن المسلم قد تمر حياته كلها ولا يحتاج رأياً في قضية التوريث، أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم، وغير ذلك.
وإن تعرَّض المسلم لقضية مثل هذه، نقول له: أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى المختصين بهذا العلم، وهم أهل الفقه والفتوى، لأنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى الطبيب، وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس، وإن تعرضت لعملية محاسبية تذهب إلى المحاسب، فإن تعرضت إى أي أمر ديني، فأنت تسأل عنه أهل الذكر.
وأنت إذا نظرت إلى العبادة، تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة، وسبق أن ضربت لذلك مثلاً وقلت: هَبْ أن إنساناً يصلي، ولا يفعل شيئاً في الحياة غير الصلاة، فمن أين له أن يشتري ثوباً يستر به عورته ما دام لا يعمل عملاً أخر غير الصلاة، وهو إن أراد أن يشتري ثوباً، فلابد له من عمل يأخذ مقابله أجراً، ويشتري الثوب من تاجر التجزئة، الذي اشترى الأثواب من تاجر الجملة، وتاجر الجملة اشتراها من المصنع، في الدين؛ لأن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل الذكر.
فإن قيل: الدين للجميع، نقول: صدقت بمعنى التدين للجميع، أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة.
وأهل الذكر أيضاً في العلوم الأخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم، كما في الطب أو الهندسة أو غيرهما، وكذلك الأعمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتاً وتتطلب جهداً، فما بالنا بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة، وهو التفقه في الدين.
لذلك يقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
فنحن لا نطلب من كل مسلم مثلاً أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض، وأولي الأرحام، والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر، والمصنع الآخر نسج الثياب من غزل القطن أو الصوف. والقطن جاء من الزراعة، والصوف جاء من جز شعر الأغنام.
وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلاتك، هذا الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل.
وانظر لنفسك واسألها: ما أفطرتَ اليوم؟
وأقلُّ إجابة هي: أفطرت برغيف وقليل من الملح، وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال، وجاء البقال بالرغيف من المخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن، والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن الغلال التي جاءت من الحقل. وكذلك تمت صناعة ألات الطحن في مصانع أخرى قد تكون أجنبية.
وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات، فهناك الفلاح الذي حرث، وهناك مصمم آلة الطحن الذي درس الهندسة، وهناك عالم (الجيولوجيا) الذي درس طبقات الأرض ليستخرج الحديد الخام من باطنها، وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام؛ ليستخلص منه الحديد النقي الصالح للتصنيع.
وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك، وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي، فلا تقل: (سأنقطع للعبادة) بمعنى أن تقصر حياتك على الصلاة فقط، لأن كل حركة تصلح في الحياة هي عبادة، وإن أردت ألا تعمل في الحياة، فلا تنتفع بحركة عامل في الحياة. وإذا لم تنتفع بحركة أي عامل في الحياة، فلن تقدر أن تصلي، ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي.
إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء (افعل) و(لا تفعل).
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2].
والنذير: هو من يُخبر بشرٍّ زمنه لم يجيء، لتكون هناك فرصة لتلافي العمل الذي يُوقع في الشر، والبشير هو من يبشِّر بخير سيأتي إن سلك الإنسان الطريق إلى ذلك الخير.
إذن: الإنذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء.
وفي الإنذار تخويف ونوع من التعليم، وأنت حين تريد أن تجعل ابنك مُجِداً في دراسته؛ تقول له: إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلان الذي أصبح صعلوكاً تافهاً في الحياة.
إذن: فأنت تنذر ابنك؛ ليتلافى من الآن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي.
وكذلك يبشر الإنسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم.
إذن: فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام الإنسان مُتَّبعاً ما جاء بالمنهج الحق في ضوء (افعل) و(لا تفعل)، وما لم يرد فيه (افعل) و(لا تفعل) فهو مباح.
وعلى الإنسان المسلم أن يُبصِّر نفسه، ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء (افعل) هو العمل المباح، وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء (لا تفعل) ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل هذا الفعل، وعلى المسلم تحرِّي الدقة في مدلول كل سلوك.
ونحن نعلم أن التكليفات الإيمانية قد تكون شاقة على النفس، ومن اللازم أن نبيِّن للإنسان أن المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير.
ومثال ذلك: حين نجد الفلاح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم؛ ليضعه على ظهر الحمار ويذهب به إلى الحقل؛ ليخلطه بالتربة، وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظاراً ليوم الحصاد.
ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى هنا على لسان رسوله أن الأمر بعدم عبادة أي كائن غير الله، هو أمر من الله سبحانه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نذير وبشير من الله.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
فيه نفي لعبادة غير الله، وإثبات لعبودية الله تعالى.
وهذا يتوافق ويتسق مع الإنذار والبشارة؛ لأن عبادة غير الله تقتضي نذيراً، وعبادة الله في الإسلام تقتضي بشيراً.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ضعف الإنسان، ومعنى هذا الضعف أنه قد يستولي عليه النفع العاجل، فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه، فيقع في بعض من غفلات النفس.
لذلك بيَّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلات النفس عليه أن يستغفر الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه.
وإن طلب العبد المذنب مغفرة الله، فسبحانه قد شرع التوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى طاعة الله تعالى.
ولا يقع عبد في معصية إلا لأنه تأبَّى على منهج ربه، فإذا ما تاب واستغفر، فهو يعود إلى منهج الله سبحانه، ويعمل على ألا يقع في ذنب جديد.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}

.تفسير الآية رقم (3):

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
وهكذا يبيِّن الحق سبحانه أن على العبد أن يستغفر من ذنوبه السابقة التي وقع فيها، وأن يتوب من الآن، وأن يرجع إلى منهج الله تعالى، لينال الفضل من الحق سبحانه.
المطلوب إذن من العبد أن يستغفر الله تعالى، وأن يتوب إليه.
هذا هو مطلوب الله من العاصي؛ لأن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وحين يعجل العبد بالتوبة إلى الله تعالى فهو يعلم أن ذنباً قد وقع وتحقق منه، وعليه ألا يؤجل التوبة إلى زمنٍ قادم؛ لأنه لا يعلم إن كان سيبقى حياً أم لا.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [هود: 3].
والحق سبحانه يُجمل قضية اتباع منهجه في قوله تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
وقال في موضع آخر: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
فالحياة الطيبة في الدنيا وعدم الضلال والشقاء متحققان لمن اتبع منهج الله تعالى.
وظن بعض العلماء أن هذا القول يناقض في ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) و(إن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل).
وقال بعض العلماء: فكيف تقول: {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} [هود: 3].
هنا نقول: ما معنى المتاع؟
المتاع: هو ما تستمتع به وتستقبله بسرور وانبساط.
ويعلم المؤمن أن كل مصيبة في الدنيا إنما يجزيه الله عليها حسن الجزاء، ويستقبل هذا المؤمن قضاء الله تعالى بنفس راضية؛ لأن ما يصيبه قد كتبه الله عليه، وسوف يوافيه بما هو خير منه.
وهناك بعض من المؤمنين قد يطلبون زيادة الابتلاء.
إذن: فالمؤمن كل أمره خير؛ وإياك أن تنظر إلى من أصابته الحياة بأية مصيبة على أنه مصاب حقاً؛ لأن المصاب حقاً هو من حُرِم من الثواب.
ونحن نجد في القرآن قصة العبد الصالح الذي قتل غلاماً كان أبواه مؤمنين، فخشي العبد الصالح أن يرهقهما طغياناً وكفراً، فهذا الولد كان فتنة، ولعله كان سيدفع أبويه إلى كل محرم، ويأتي لهما بالشقاء.
إذن: فالمؤمن الحق هو الذي يستحضر ثواب المصيبة لحظة وقوعها.
ومنَّا من قرأ قصة المؤمن الصالح الذي سار في الطريق من المدينة إلى دمشق، فأصيبت رِجْله بجرح وتلوث هذا الجرح، وامتلأ بالصديد مما يقال عنه في الاصطلاح الحديث (غرغرينة) وقرر الأطباء أن تٌقطع رجله، وحاولوا أن يعطوه (مُرَقِّداً) أي: مادة تُخدِّره، وتغيب به عن الوعي؛ ليتحمل ألم بتر الساق، فرفض العبد الصالح وقال: إني لا أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
ومثل هذا العبد يعطيه الله سبحانه وتعالى طاقة على تحمُّل الألم، لأنه يستحضر دائماً وجوده في معية الله، ومفاضٌ عليه من قدرة الله وقوته سبحانه.
وحينما قطع الأطباء رجله، وأرادوا أن يكفنوها وأن يدفنوها، فطلب أن يراها قبل أن يفعلوا ذلك، وأمسكها ليقول: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو، فإني قد عوفيت في أعضاء.
إذن: فصاحب المصيبة حين يستحضر الجزاء عليها، إنما يحيا في متعة، ولذلك لا تتعجب حين يحمد أناس خالقهم على المصائب؛ لأن الحمد يكون على النعمة، والمصيبة قد تأتي للإنسان بنعمة أوسع مما أفقدته.
ولذلك نجد اثنين من العارفين بالله وقد أراد أن يتعالم كل منهما على الآخر؛ فقال واحد منهما: كيف حالكم في بلادكم أيها الفقراء؟
والمقصود بالفقراء هم العُبَّاد الزاهدون ويعطون أغلب الوقت لعبادة الله تعالى فقال العبد الثاني: حالنا في بلادنا إنْ أعطينا شكرنا، وإنْ حُرمنا صبرنا.
فضحك العبد الأول وقال: هذا حال الكلاب في بلخ: أي: أن الكلب إن أعطيته يهز ذيله، وإن منعه أحد فهو يصبر.
وسأل العبد الثاني العبد الأول: وكيف حالكم أنتم؟
فقال: نحن إن أعطينا آثرنا، وإن حُرِمنا شركنا.
إذن: فكل مؤمن يعيش في منهج الله سبحانه وتعالى فهو يستحضر في كل أمر مؤلم وفي كل أمر متعب، أن له جزاءً على ما ناله من التعب؛ ثواباً عظيماً خالداً من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} [هود: 3].
والحسن هنا له مقاييس، يُقاس بها اعتبار الغاية؛ فحين تضم الغاية إلى الفعل تعرف معنى الحسن.
ومثال ذلك: هو التلميذ الذي لا يترك كتبه، بل حين يأتي وقت الطعام، فهو يأكل وعيناه لا تفارقان الكتاب.
هذا التلميذ يستحضر متعة النجاح وحُسْنه ونعيم التفوق، وهو تلميذ يشعر بالغاية وقت أداء الفعل.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
أي: يؤتى كل ذي فضل مجزول لمن لا فضل له، فكأن الحق سبحانه يمنِّي الفضل للعبد.
ومثال ذلك: الفلاح الذي يأخذ من مخزن غلاله إردباً من القمح ليبذره في الأرض؛ ليزيده الله سبحانه وتعالى بزراعة هذا الإردب، ويصبح الناتج خمسة عشر إردباً.
والفضل هو الأجر الزائد عن مساويه، فمثلاً هناك فضل المال قد يكون عندك، أي: زائد عن حاجتك، وغيرك لا يملك مالاً يكفيه، فإن تفضلت ببعض من الزائد عندك، وأعطيته لمن لا مال عنده فأنت تستثمر هذا العطاء عند الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطيك قوة، فتعطى ما يزيد منها لعبد ضعيف.
وقد يكون الحق سبحانه قد أسبغ عليك فضلاً من الحلم، فتعطى منه لمن أصابه السفه وضيق الخلق.
إذن: فكل ما يوجد عند الإنسان من خصلة طيبة ليست عند غيره من الناس، ويفيضها عليهم، فهي تزيد عنده لأنها تربو عند الله، وإن لم يُفِضْها على الغير فهي تنقص.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39].
ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
وبعض من أهل المعرفة يفهم هذا القول الكريم بأن الإنسان الذي يفيض على غيره مما آتاه الله، يعطيه الحق سبحانه بالزيادة ما يعوضه عن الذي نقص، أو أنه سبحانه وتعالى يعطي كل صاحب فضلٍ فضل ربه، وفضل الله تعالى فوق كل فضل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].
فإن أعرضوا عنك فأبلغهم أنك تخاف عليهم من عذاب اليوم الآخر، ويُوصف العذاب مرة بأنه كبير، ويوصف مرة بأنه عظيم، ويوصف مرة بأنه مهين؛ لأنه عذاب لا ينتهي ويتنوع حسب ما يناسب المعذب، فضلاً عن أن العذاب الذي يوجد في دنيا الأغيار هو عذاب يجري في ظل المظنة بأنه سينقضي، أما عذاب اليوم الآخر فهو لا ينقضي بالنسبة للمشركين بالله أبداً.
ويقول الحق من بعد ذلك: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ}