فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (4):

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
أي: إلى الله مرجعكم في الإيجاد والإمداد، والبداية والنهاية، وبداية النهاية التي لا انتهاء معها وهي الآخرة، فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، فيؤتي سبحانه لكل ذي عمل صالح في الدنيا أجره، وثوابه في الآخرة.
ومن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار.
وفي الدنيا من زادت حسناته على سيئاته وعاش بين القبض والبسط.
والقبض والبسط هو إقبال على الله بتوبة وباعتراف بالذنب، والإقرار بالذنب هو بداية التوبة.
ومن كثرت سيئاته على حسناته كان في ضنك العيش وقلق النفس.
ويؤتي الحق سبحانه كل ذي فضل فضله، فمن عمل لله عز وجل؛ وفقه الله فيما يستقبل على طاعته، والذين أعرضوا يُخاف عليهم من عذاب يوم كبير.
{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 4].
لأنه سبحانه القادر على الإيجاد وعلى الإمداد، وعلى البداية والنهاية المحدودة، وبداية الخلود إما إلى جنة وإما إلى نار، فهو القادر على كل شيء.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ}

.تفسير الآية رقم (5):

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}
وإذا وجد (ألا) في أول الكلام فأنت تعلم أنها للتنبيه، ومعنى التنبيه أنه أمر يوقظ لك السامع إن كان غافلاً؛ لأنك تحب ألا تفوته كلمة من الكلام الذي تقوله.
وحين تنبهه بغير أداء الأسلوب الذي تريده منه، هنا يكون التنبيه قد أخذ حقه، ومن بعد ذلك يجيء الكلام الذي تقوله، وقد تهيَّأ ذهن السامع لاستقبال ما تقول.
ف (ألا) إذن هي أداة تنبيه؛ لأن الكلام ستار بين المتكلم والمخاطب، والمخاطب لا يعرف الموضوع الذي ستكلمه فيه، والمتكلم هو الذي يملك زمام الموقف، وهو يهيئ ذهنه لترتيب ما يقول من كلمات، أما المستمع فسوف يفاجأ بالموضوع؛ وحتى لا يفاجأ ولا تضيع منه الفرصة ليلتقط كلمات المتكلم من أولها، فهو ينبه بأداة تنبيه ليستمع.
ويقول الحق سبحانه هنا: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} [هود: 5].
ويقال: ثنيت الشيء أي: طويته، وجعلته جزئين متصلين فوق بعضهما البعض.
وحين يثني الإنسان صدره، فهو يثنيه إلى الأمام ناحية بطنه، ويداري بذلك وجهه، والغرض هنا من مداراة الوجه هو إخفاء الملامح؛ لأن انفعال مواجيد النفس البشرية ينضح على الوجوه؟
وهم كارهون للرسول صلى الله عليه وسلم، وحاقدون عليه؛ ولا يريدون أن يلحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ما على ملامحهم من انفعالات تفضح مواجيدهم الكارهة.
ومثل ذلك جاء من قوم نوح عليه السلام، حين قال الحق سبحانه على لسان نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [نوح: 7].
ومن البداهة أن نعرف أن الإصبع لا تدخل كلها إلى الأذن، إنما الأنملة تسد فقط فتحة السمع، وعدَّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح عليه السلام، فكل منهم أراد أن يُدخِل إصبعه في أذنه حتى لا يسمع أي دعوة، وهذا دليل كراهية، وهذه شهادة ضدهم؛ لأنهم يفهمون أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26].
فكأنهم تواصوا بالتشويش على القرآن، ثقة منهم في أن القرآن لو تناهى إلى الأذن فقد يؤثر في نفسية السامع؛ لأن النفس البشرية أغيار، وقد تأتي للنفس ما يجعلها تميل دون أن يشعر صاحبها.
ولو كان هذا القرآن باطلاً، فلماذا خافوا من سماعه؟
ولكنه الغباء في العناد والكفر.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5].
وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم؛ مداراة للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه، وهي انفعالات كراهية، أو أنها قد تكون انفعالات أخرى، فساعة يسمع واحد منهم القرآن قد ينفعل لما يسمع، ولا يريد أن يُظهر الانفعال.
إذن: فالانفعال قد يكون قسرياً، وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يتسللون ناحية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا القرآن، وكانوا يضبطون بعضهم البعض هنالك، ويدّعي كل منهم أنه إنما مرَّ على بيت النبي صلى لله عليه وسلم مصادفة.
وفي ذلك يقول الشاعر:
اذكُروهُمْ وقد تسلَّل كلُّ ** بعدَ ما انفضَّ مجلسُ السُّمَّارِ

اختلاساً يسْعَى لحجرةِ طَهَ ** لسَماعِ التنزيلِ في الأسْحَارِ

عُذْرهم حُسْنُهُ فلمّا تَراءَوْا ** عَلَّلوها ببَارزِ الأعْذَارِ

وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا في نفس الآية ب (ألا) في قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5].
فهم إن داروا على محمد صلى الله عليه وسلم، فهل هم قادرون على المداراة على رب محمد؟ والذي لا يدركه بصر محمد فربُّ محمد سيُعلمه به.
وما دام الحق سبحانه يعلم ما يسرون، فمن باب أولى أنه سبحانه وتعالى يعلم ما يعلنون.
والحق سبحانه وتعالى غيب، وربما ظن ظان أنه قد يفلت منه شيء، ولكن الحق سبحانه يُحصي ولا يُحصَى عليه، فإن ظن ظان أن الحق سبحانه يعلم الغيب فقط؛ لأنه غيب، فهذا ظن خاطئ؛ لأنه يعلم السر والعلن، فهو عليم بذات الصدور، وكلمة (عليم) صيغة مبالغة، وهي ذات في كنهها العلم.
وقول الحق سبحانه: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5].
نجد فيه كلمة {ذَاتِ} وهي تفيد الصحبة، و(ذَاتِ الصُّدُورِ) أي: الأمور المصاحبة للصدور.
ونحن نعلم أن الصدر محل القلب، ومحل الرئة، والقلب محل المعتقدات التي انتُهي إليها، وصارت حقائق ثابتة، وعليها تدور حركة الحياة.
ويُقصد ب {بِذَاتِ الصدور} أي: المعاني التي لا تفارق الصدور، فهي صاحبات دائمة الوجود في تلك الصدور، سواء أكانت حقداً أو كراهية، أو هي الأحاسيس التي لا تظهر في الحركة العادية، سواء أكانت نية حسنة أو نية سيئة.
وكل الأمور التي يسمونها ذات الصدور، أي: صاحبات الصدور، وهي القلوب، وكأن الجِرْم نفسه وهو القلب معلوم للحق سبحانه وتعالى، فخواطره من باب أولى معلومة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض}

.تفسير الآية رقم (6):

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}
وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة، وما دام الحق سبحانه عليماً بذات الصدور، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة، والحق سبحانه يعلم الإيجابيات أيضاً، فهو يعلم النية الحسنة أيضاً، ولكن الكلام هنا يخص جماعة يثنون صدورهم.

وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وبيَّن أنه عليم بكل شيء.
وقال سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].
والدابة: كا ما يدب على الأرض، وتستخدم في العرف الخاص للدلالة على أي كائن يدب على الأرض غير الإنسان.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه شُغِل حينما كُلِّف بخواطر عن أهله، وتساءل: كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي؟
فأوحى الله سبحانه أن يضرب حجراً فانفلق الحجر عن صخرة، فأمره الحق سبحانه أن يضرب الصخرة، فضربها فانفلقت ليخرج له حجر، فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك شيئاً كأنما تتغذى به، فقال: إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر الأرض. ومضى موسى عليه السلام إلى رسالته.
وهذا أمر طبيعي؛ لأن الحق سبحانه خالق كل الخلق، ولابد أن يضمن له استبقاء حياة واستبقاء نوع؛ فاستبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة.
إذن: فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالتزاوج.
ولذلك نقول دائماً: يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب، فالإله سبحانه هو رب الجميع، لكنه إله من آمن به.
وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع، فالجميع مسئولون منه؛ فالشمس تشرق على المؤمن وعلى الكافر، وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها، فلماذا لا يأخذ المؤمن بالأسباب؟
والهواء موجود للمؤمن والكافر؛ لأنه عطاء ربوبية، فإن استفاد الكافر من الهواء ودرسه، واستخدم وخواصه أكثر من المؤمن؛ فعلى المؤمن أن يجدَّ ويكدَّ في الأخذ بالأسباب.
إذن: فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في العبادة، وهو يُخرجك من مراداتك إلى مرادات ربك، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمراً فيقول لك المنهج: لا.
وفي هذا تحكم منك في الشهوات، وارتقاء في الاختبارات، أما في الأمور الحياتية الدنيا، فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حياته.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6].
وكلمة (على) تفيد أن الرزق حق للدابة، لكنها لم تفرضه هي على الله سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق.
ويقول سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].
ولأنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش؛ ليوصل إليها هذا الرزق.
والمستقر: هو مكان الاستقرار، والمستودع: هو مكان الوديعة.
والحق سبحانه يُعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه، والإنسان لا يعلم عنوان الرزق.
فالرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب، لكن السعي إلى الرزق شيء آخر؛ فقد تسعى إلى رزق ليس لك، بل هو رزق لغيرك.
فمثلاً: أنت قد تزرع أرضك قمحاً فيأتي لك سفر للخارج، وتترك قمحك؛ ليأكله غيرك، وتأكل أنت من قمح غيرك.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6].
أي: أن كل أمر مكتوب، وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد، ولكن لا يحكم إرادتك مكتوب؛ فما يأتي على بالك تفعله، وبين أن تفعل أمراً قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة، ثم تأتي أفعالك وفقاً لما كتبته.
ومن عظمة الخالق سبحانه أن كتب كل شيء، ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب.
والدليل على ذلك على سبيل المثال أن الله سبحانه كان يوحي إلى رسوله بالسورة من القرآن الكريم، وبعد ذلك يُسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فيتلو السورة على أصحابه، فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب، ومن يحفظ فهو يحفظ.
ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فيقرأ السورة كما كُتِبَتْ، ويأتي كل نجم من القرآن في مكانه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، فكيف كان يحدث ذلك؟
لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه، وأبلغه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض}