فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (32):

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}
والجدال هو قول كلام يقابل كلاماً آخر، والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف الآخر عن مذهبه بحجة أو بشبهة، بهدف إسقاط المذهب.
إذن: فالجدال هو مناقشة طرفين، يتقاسمان الكلام بهدف أن يقنع أحدهما الآخر بأن ينصرف عن مذهبه هو إلى مذهب القائل.
وكلمة (الجدال) مأخوذة من (الجَدْل) أي: الفَتْل، وفتل الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك، ثم ضَمِّ شعرتين إلى بعضهما، ثم القيام بِلَفِّ كل شعرتين أخريين، وهكذا حتى يتم اكتمال الحبل.
ويقال للرجل القوي: (مفتول العضلات)، أي: أن عضلاته ليست رخوة أو ضعيفة، بل مفتولة، أي: متداخلة ومشدودة.
وحين تنظر إلى الجهاز العضلي فأنت تندهش لقدرة الحق سبحانه وتعالى الذي خلق كل عضلة بشكل وأسلوب معين، يتيح لها أن تتآزر وتتعاون مع غيرها من العضلات لأداء الحركات المطلوبة منها.
فحين يرفع الإنسان رأسه فهو يحتاج لحركة أكثر من عضلة، وحين تعمل اليد فهي تحرك أكثر من عضلة، ولو تعطلت حركة عضلة واحدة، لامتنعت الحركة المقابلة لها.
وهم قد قالوا لنوح عليه السلام: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32].
ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام عاش ألف عام إلا خمسين عاماً، ومعنى ذلك أن جداله معهم أخذ وقتاً طويلاً.
والجدال يختلف عن المِرَاء، لأن الجدال إنما يكون لحقٍّ، والمراء، يكون بعد ظهور الحق.
الجدال إذن مطلوب، والحق سبحانه هو القائل: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
وكذلك يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} [المجادلة: 1].
إذن: فالجدال مطلوب لنصل إلى الحق، شرط أن يكون جدلاً حسناً، لا احتكاك فيه ولا إيذاء.
وهناك فارق بين احتكاك الآراء، وتحكُّك الآراء، فالتحكك كالتلكَّك، وهو الرغبة في عدم الوصول إلى الحق، لكن الاحتكاك هو الذي يوصل إلى الحق، مثلما نحكُّ الزناد بقطعة من حديد فتولد الشرر لنرى الحق، أما التحكُّك فهو يواري ويطمس الحقيقة.
والمِرَاء هو الجدَال بعد أن يظهر الحق، وهو مأخوذ من مَرَى الضَّرع، فحينَ يقومون بإنزال اللبن من ضرع الناقة أو البقرة، فالضرع يكون ملآن، وينزل منه اللبن بشدة وقوة، وبعد أن ينتهي حَلْبُ الضرع، يظل مَنْ يحلبها مُمْسِكاً بحَلَمات الناقة أو الجاموسة، ويستحلب ما بقى من اللبن، ويُقال لهذا الجزء الأخير (المريى).
ولذلك أخذوا من هذه العملية كلمة (المراء)، وهو ما بعد ظهور الحق.
وهناك بجانب الجدال والمراء، والاحتكاك، والتحكُّك، والحِجَاج؛ والمراد بالحجاج هو إظهار حجة الخصم على الخصم.
وبعد أن مَلُّوا من جدال نوح عليه السلام طلبوا أن ينزل بهم العذاب الذي أنذرهم به، وقد استبطأوا مجيء هذا العذاب؛ لأن نوحاً عليه السلام عاش بينهم ألف سنة إلا خمسين، وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32].
وكأنهم بهذا القول قد أخرجوا نوحاً مَخْرج من بيده أن يأتي بالعذاب، أو يمنع العذاب، وهذه مسألة لا يملكها نوح، بل هي مِلْك لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يُنبههم نوح عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله}

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)}
لأن الحق سبحانه هو الذي يقدِّر للعذاب أواناً، ويقدِّر لكل تعذيب ميلاداً، ولا يَعْجَلُ الله بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وهم لن يعجزوا الله تعالى ولن يفلتوا منه؛ لأنه لا توجد قوة في الكون يمكن أن تمنع مشيئة الله تعالى، أو أن تتأبَّى عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمَْ}

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
والمعنى هنا: إن كان الله سبحانه يريد أن يغويكم فلن تنتفعوا بالنصيحة إن أردت أن أنصحكم؛ لأن الآية بها تعدُّد الشرطين.
ومثال ذلك من حياتنا: حين يطرد ناظر المدرسة طالباً، عقاباً له على خطأ معين، فالطالب قد يستعطف الناظر، فيقول الناظر: (إن جئتني غداً أقبل اعتذارك إنْ كان معك والدك).
وقول الناظر: (إن كان معك والدك) هو شرط متأخِّر، ولكنه كان يجب أن يتقدَّم.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصددها جاء الشرط الأول متأخِّراً، ولكن هل يغوي الله سبحانه عِبادَه؟
لا، إنه سبحانه يهديهم، والغواية هي الضلال والبعد عن الطريق المستقيم.
والحق سبحانه يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} [النجم: 2].
وقال سبحانه عن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
ونحن يجب ألاَّ نقع في الآفة التي يخطئ البعض بها، حين يستقبلون ألفاظ العقائد على أساس ما اشتهر به اللفظ من معنى؛ فالألفاظ لها معانٍ متعددة.
لذلك لابد أن نعرض كل معاني اللفظ لنأخذ اللفظ المناسب للسِّياق.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59].
وقوله سبحانه هنا: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً}.
أي: سوف يلقون عذاباً، لأن غَيَّهم كان سبباً في تعذيبهم، فسمَّى العذاب باسم مُسبِّبه.
ومثل قول الحق سبحانه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
والحق سبحانه لا يُسيء لعباده، ولكنهم هم الذين يُسيئون لأنفسهم، فسمَّى ما يلقاهم من العذاب سيئةً.
وكذلك (الغَيُّ) يرد بمعنى (الإغواء)، ويرد بمعنى الأثر الذي يترتب عن الغي من العذاب.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى في كتابه صوراً متعددة للإغواء، فآدم عليه السلام حين تَنكَّبَ عن الطريق، وأكل من الشجرة المحرَّمة رغم تحذير الحق سبحانه له ألاّ يقربها، قال الحق سبحانه وتعالى في هذا الموقف: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
وقد فعل آدم عليه السلام ذلك بحكم طبيعته البشرية، فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه إذا خالف المنهج في (افعل) و(لا تفعل) ستظهر عورته وتبدو له سوءاته.
وهكذا أخذ آدم عليه السلام التجربة ليكون مُستعِداً لاستقبال المنهج والوَحْي.
وقد ذكر لنا الحق سبحانه كلمات الشيطان بقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
ولكن هل أغوى الله سبحانه الشيطان؟
إن الحق سبحانه لا يُغْوِي، ولكنه يترك الخيار للمكلَّف إن شاء أطاع، وإن شاء عَصَى.
ولو أنه سبحانه وتعالى جعلنا مؤمنين لما كان لنا اختيار، فإن أطاع الإنسان نال عطاء الله، وإن ضَلَّ، فقد جعل الله له الاختيار، ووَجَّهه لغير المراد مع صلاحيته للمراد.
إذن: فالاختيار ليس مقصوراً على الإغواء بل فيه الهداية أيضاً، والإنسان قادر على أن يهتدي، وقادر على أن يضلَّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته}

.تفسير الآية رقم (35):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
جاء هذا القول في صُلْب قصة نوح عليه السلام وقد يكون مما أوحى به الله سبحانه لنوح عليه السلام، أو يكون المراد به أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام.
والافتراء كما نعلم هو الكذب المتعمِّد الذي يناقض واقعاً.
وانظروا إلى كل ما جاء بالمنهج ليلتزم به الفرد، ستجدون أنه مُلْزِمٌ للجميع، وستكون الفائدة التي تعود عليك بالتزام الجميع بما فيهم أنت فائدة كبيرة، فإن قال لك المنهج: لا تسرقْ؛ فهذا أمانٌ لك من أن يسرقك الناس.
ولذلك فساعة تسمع للمنهج، لا تنظرْ إلى المأخوذ منك، بل التفتْ إلى المأخوذ لك.
وعلى ذلك لا يمكن أن يكون المنهج افتراء.
ونحن نعلم أن المنهج يؤسِّس في المجتمعات مقاييس عادلة للاستقامة، وحين يُشَرِّع الحق سبحانه تشريعاً، قد يبدو لك أنه يُحِدُّ من حريتك، ولكنه في الواقع يُحقِّق لك منافع متعدِّدة، ويحميك من أن يعتدي الآخرين عليك.
وكان الردُّ على الاتهام بالافتراء يتمثَّل في أمرين: إما أن يفتروا مثله، أو أن يتحمَّل هو وِزْرُ إجرام الافتراء.
وإن لم يكن قد افتراه، فعليهم يقع وِزْرُ إجرامهم باتِّهامه أنه قد افترى.
وأسلوب الآية الكريمة يحذف عنهم البراءة في الشطر الأول منها، ولو جاء بالقول دون احتباك، لقال سبحانه: قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنتم براءه منه، وإنْ لم أفْتَرِ فعليكم إجرامكم وأنا بريء.
وجاء الحذف من شِقِّ المقابل من شِقِّ آخر، وهذا ما يسمَّى في اللغة (الاحتباك).
والحق سبحانه وتعالى يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249].
والفئة القليلة تكون قلَّتُها في الأفراد والعَتَاد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة الكثيرة، تظهر كثرَتها في العُدَّة والعَدَد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة القليلة إنما تَغْلِب بإذن الله تعالى.
وهكذا يوضِّح الحق سبحانه أن الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئته سبحانه تغلب الأسباب وتصل إلى ما شاءه الله تعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13].
وحذف سبحانه صفة الإيمان عن الفئة الأولى، كما حذف عن الفئة الثانية صفة أنها تقاتل في سبيل الطاغوت والشيطان، وهذا يسمَّى (الاحتباك).
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].
ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يبين لنا قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حين خاطب قومه، فقال سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
فلم يَقُلْ: (عَمَّا تُجرمون). فلم يقابل إيذاءهم القوليَّ والمادِّيَّ له بإيذاء قوليٍّ.
وكذلك ذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
وهذا ارتقاء في الجدل يناسب رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أنزلها الله على العالم كله.
وبعد ألف عام إلا خمسين من جدال نوح عليه السلام لقومه، قال له الحق سبحانه وتعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ}

.تفسير الآية رقم (36):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
ومجيء (إلا) هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى (غير) أي: لن يؤمن من قومك غير الذي آمن.
ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
و(إلا) هنا أيضاً بمعنى (غير)، ولو كانت (إلا) بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه معاذ الله سيكون ضمن آلهة آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون (إلا) للاستثناء، بل هي بمعنى (غير)، وتفيد معنى الوحدانية لله عَزَّ وجَلَّ وتَفرُّده بالألوهية.
والآية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح عليه السلام من قومه، سوف يؤمن؛ فقد ختم الله المسألة.
وهذا يعطينا تبريراً لاجتراء نوح عليه السلام على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه بقوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26 27].
وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زماناً طويلاً فلم يستجيبوا، وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وقال له سبحانه: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [هود: 36].
والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}