فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (62):

{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}
كانوا ينظرون إلى صالح عليه السلام بتقدير ورجاء قبل أن يدعوهم لعبادة الله تعالى وحده، ولا إله غيره.
والمرجوُّ هو الإنسان المؤمَّل فيه الخير، ذكاءً، وطموحاً، وأمانة، وأية خصلة من الخصال التي تبشر بأنه له مستقبلاً حسناً.
ولكن ما إن دعاهم صالح عليه السلام إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أعلنوا أنه بتلك الدعوة إنما يفسد رجاءهم فيه وما كانوا يأملون فيه.
وقد أوضح لهم صالح عليه السلام ما أوضحه الرسل من قبله ومن بعده، أن اتخاذ الأصنام أو الأشجار أو الشمس آلهة تُعْبد هو أمر خاطئ؛ لأن العبادة تقتضي أوامر ونواهي ينزل بها منهج؛ يتبعه من يعبدون، وتلك الكائنات المعبودة لا منهج لها، ولا عبادة دون منهج.
وأضاف قوم ثمود: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].
والشك هو استواء الطرفين: النفي والإثبات.
إذن: فهم ليسوا على يقين أن عبادتهم لما عبد آباؤهم هي عبادة صادقة، ودعوة صالح عليه السلام لهم جعلتهم يترددون في أمر تلك العبادة؛ وهذا يُظهر أن خصال الخير في صالح عليه السلام جعلتهم يترددون في أمر عبادتهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لثمود: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي}

.تفسير الآية رقم (63):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)}
وكأن صالحاً قد ارتضاهم حكماً فقال: أخبروني إذا كنت أنا على بينة من ربي ويقين بأنه أرسلني وأيَّدني، وأنا إن خدعت الناس جميعاً فلن أخدع نفسي، فهل أترك ما أكرمني به ربي وأنزل إليَّ منهجاً أدعوكم إليه؟ هل أترك ذلك وأستمع لكلامكم؟ هل أترك يقيني بأنه أرسلني بهذه الرسالة {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} [هود: 63] وهي النبوة؟
{فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63].
وساعة يستفهم إنسان عن شيء في مثل هذا الموقف فهو لا يستفهم إلا عن شيء يثق أن الإجابة ستكون بما يرضيه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان صالح عليه السلام: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63].
ونحن نعلم أن الخسارة ضد المكسب، ومعنى الخسارة أن يقل رأس المال. فهل التخسير واقع منه عليهم أم واقع منهم عليه.
إن ثراء الأسلوب القرآني هنا يوضح لنا هذه المعاني كلها، فإن أطاعهم صالح عليه السلام وعصى ربه، فهو قد أزاد في خسارته، أو أنه ينسبهم إلى الخسران أكثر، لأنهم غير مهديين، ويريدون له أن يضل ويتبع ما يعبدون من دون الله تعالى.
إذن: فالتخسير إما أن يكون واقعاً عليهم من صالح عليه السلام وإما أن يكون واقعاً منهم على صالح.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان صالح عليه السلام: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}

.تفسير الآية رقم (64):

{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)}
وكان قوم صالح قد طلبوا آية، فقالوا له: إن كنت نبيّاً فأخرج لنا ناقة من تلك الصخرة، وأشاروا إلى صخرة ما، وهم قوم كانوا نابغين في نحتن بيوتهم في الجبال. ومن يَزُورْ المنطقة الواقعة بين الشام والمدينة، يمكنه أن يشاهد مدائن صالح، وهي منحوتة في الجبال.
وقد قال فيهم الحق سبحانه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء: 149].
هم إذن قد حددوا الآية، وهي خروج ناقة من صخرة أشاروا إليها، فخرجت الناقة وهي حامل.
وبعد أن وُجدت الناقة على وفق ما طلبوها لم يطيقوا أن يعلنوا التصديق، وقد قال لهم صالح عليه السلام: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64].
وساعة تسمع شيئاً مضافاً إلى الله تعالى، فاعلم أن له عظمة بعظمة المضاف إليه.
مثلما نقول: (بيت الله)، وهذا القول إن أُطلق فالمقصود به الكعبة المشرفة، وإن حددنا موقعاً وقلنا عنه: (بيت الله) فنحن نبني عليه مسجداً، وتكون أرضه قد حُكرت لتكون مُصَلّى، ولا يُزاوَل فيها أي عمل آخر.
هكذا تكون الكعبة هي بيت الله باختيار الله تعالى، وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت لله باختيار خَلْق الله.
ولذلك فبيت الله باختيار الله هو قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله.
إذن: فإن أضيف شيء لله تعالى، فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى، وقد قال لهم صالح: {هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64] وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو.
ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلام، ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب لله تعالى له عظمة من المضاف إليه.
ومثال ذلك: ابن أبي لهب، وكان قد تزوج ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحين اشتد عناد أبي لهب للرسول صلى الله عليه وسلم، قال أبو لهب لابنه: طلق بنت محمد، فطلقها، وفعل فعلاً يدل على الازدراء، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه).
فقال أبو لهب: إني لأتوجس شرّاً من دعوة محمد.
ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة، وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكاناً في وسط رحال الركب كله خوفاً على ابنه من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بأسد يقفز من الرحال ويأكل الولد، فهنا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر إلى الله فقال: (أكلك كلب من كلاب الله) فكان كلب الله أسداً.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلام: هذه الناقة هي الآية التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر.
وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الأرقى من الجماد، وهو النبات، ولكن الحق سبحانه استجاب للآية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان.
ونحن نعلم أن الكائنات الأرضية إما أن تكون جماداً، وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو فيصير نباتاً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيواناً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة والفكر فيصير إنساناً.
وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلام بشجرة من الصخر، وهذا أمر فيه إعجاز أيضاً، ولكن الحق سبحانه أرسل الآية كما طلبوها؛ ناقة من جنس الحيوان، وحامل في الوقت نفسه.
وطالبهم صالح عليه السلام أن يحافظوا عليها؛ لأنها معجزة، عليهم ألا يتعرضوا لها. وقال لهم: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64].
وهكذا وعظهم، وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وإن مسّوها بسوء ولم يأخذهم عذاب، فمن آمن به لابد أن يكفر.
إذن: فلابد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسّوها.
وهم قد مسّوها بالفعل، وهو ما تبينه الآية الكريمة التالية: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ}

.تفسير الآية رقم (65):

{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}
وجلسوا في منازلهم ثلاثة أيام ثم جاءهم العذاب.
ولقائل أن يقول: ولمَ الإمهال بثلاثة أيام؟
ونقول: إن العذاب إذا جاء فالألم الحسِّي ينقطع من المعذَّب، ويشاء الله تعالى أن يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المُدَّة حتى يتألموا حِسِّيًا، وكل يوم يمرُّ عليهم تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
الحق سبحانه هو الذي يَعِدُ، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه؛ لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب.
على عكس الإنسان منا حين يَعِدُ بشيء، فمن الممكن أن يأتي وقت تنفيذ الوعد ولا يستطيع.
لذلك يقول لنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23- 24].
لأنك إن قلت: (أفعل ذلك غداً)، وتعد إنساناً بلقائه لكذا وكذا؛ فقل: (إن شاء الله)؛ لأن الله تعالى لا يمنع ترتيب أمور لزمن يأتي، وإنما يجب أن يردف من يرتب الأمور (بمشيئة القوي القادر) حتى إذا لم ينجز ما وعد به؛ يكون قد خرج عن الكذب، لأن الله تعالى لم يشأ، لأن الإنسان إذا وعد، فهو لا يعتمد على إرادته، ولكن مشيئة الله تعالى تعلو كل شيء.
والفعل كما نعلم يقتضي فاعلاً، ومفعولاً، وزمناً، وسبباً دافعاً، وقدرة تمكِّن الإنسان من الفعل، فهل يملك أحدٌ شيئاً من كل هذا؟
إن الإنسان لا يملك نفسه أن يعيش إلى الغد، ولا يملك من يعده أن يوجد غداً حتى يلقاه، ولا يملك أن يظل السبب سبباً للِّقاء؛ فربما انتهى السبب، ولا يملك حين تجتمع الأسباب كلها أن توجد له قدرة وقوة على إنفاذ السبب.
إذن: فإذا قال: (أفعل ذلك غداً مع فلان)؛ يكون قد جازم وتكلم في شيء لا يملك عنصراً واحداً من عناصره، فقل: (إن شاء الله)، أي: أنك تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر.
ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات، قدرته على خلقه فهو سبحانه القائل: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
وقوله: {فِي دَارِكُمْ} لأن من هؤلاء الذين كفروا قوماً في مكان يختلف عن مكان آخر يوجد به أيضاً قوم كافرون، ومنهم المسافر، ومنهم العائد من سفر، فتتبعهم العذاب حيثما كانوا، فلم ينزل على مكان واحد، إنما نزل على المكي منهم في أي مكان.
ولم يَنْجُ من هذه المسألة إلا واحد اسمه (أبو رغال)، وكان يحج إلى بيت الله، فلم يتبعه عذابه في بيت الله؛ لأن الله سبحانه طلب منا نحن عباده أن نؤمِّن من دخل بيته، فهو سبحانه وتعالى أوْلى بأن يؤمِّن من دخل البيت الحرام، وظل الحجر الذي سيُضرب به، أو الصيحة التي كان عليها أن تأخذه، ظلت إلى أن خرج من الحرم فوقعت عليه.
وعَمَّ العذابُ الكافرين من قوم صالح، وتتبع من في الديار إلا هذا الرجل، وما إن خرج من البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب.
ولذلك كان قاتل الأب أو الإنسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل، إذا ما دخل البيت الحرام فهو يُؤمَّن إلى أن يخرج، وكانوا يُضيِّقون عليه، فلا يطعمه أحد، ولا يسقيه أحد ليضطر إلى الخروج، فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام، ولتظل حرمة البيت الحرام مُصَانة.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام، صيانة وتكريماً للكرامة الإنسانية.
ونحن نعلم أيضاً أن كل حدث من الأحداث يقتضي زماناً، ويقتضي مكاناً.
وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض، فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم فيه القتال؛ فخصَّ البيت الحرام بذلك، وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال؛ فكانت الأشهر الحرم؛ لان الحرب قد تكون سجالاً بين الناس وتوقظ فيهم الحمية والأنفة والعزة.
وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب، ولكنه لا يحب أن يجبن أمام الناس، فأراد الحق سبحانه أن يجعل لهم شيئاً يتوارون فيه من الزمان ومن المكان، فحرم القتال في الأشهر الحرم.
وما إن تأتي الأشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلاء: لولا الأشهر الحرم لكنت قد أنزلت بخصمي الهزيمة الساحقة، وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه؛ لأنه في أعماقه يتمنى انتهاء الحرب.
وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام، هنا يقول مَنْ كان يحاربه: لو لم يدخل الحرم؛ لأذقته عذاب الهزيمة.
وبمضيِّ الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالأمن والسلام، وربما عشقوه فانتهوا من الحرب.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ}