فصل: تفسير الآية رقم (74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (74):

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)}
والجدل هو أن تأخذ حُجَّة من مقابل؛ وتعطيه حُجَّة؛ لتصل إلى حق. والجدل يختلف عن المراء فالمراء يعني أنك تعرف الحقيقة وتجادل بالباطل لأنك لا تريد أن تصل إلى الحق.
وقد نهانا الحق سبحانه عن المراء، وأمرنا بأن نجادل بشرط أن يكون الجدال بالتي هي أحسن.
وهنا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم بعد أن ذهب عنه الروع وجاءته البشرى بأن الله تعالى سيرزقه بغلام، وعلم إبراهيم من الملائكة أنهم ذاهبون لتعذيب قوم لوط: {قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} [الذاريات: 32 34].
ومجادلة سيدنا إبراهيم في عقاب قوم لوط، لم تكن ردّاً لأمر الله، ولكن طلباً للإمهال لعلهم يؤمنون؛ ذلك أن قلب إبراهيم عليه السلام؛ قلب رحيم.
ولذلك يأتي الحق سبحانه بالعلة في المجادلة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}

.تفسير الآية رقم (75):

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}
إذن: فالعلة في الجدال أنه حليم لا يُعجِّل بالعقوبة، وأوَّاه؛ أي: يتأوه من القلب، والتأوه رقة في القلب، وإن كان التأوه من الأعلى فهذا يعني الخوف من ألا يكون قد أدى حق الله تعالى، وإن كان التأوه للأقل فهو رحمة ورأفة.
ولذلك فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى تأجيل العذاب لقوم لوط لعلهم يؤمنون، وتأوُّههُ هنا لله تعالى، وعلى هؤلاء الجهلة بما ينتظرهم من عذاب أليم.
وقال الحق سبحانه في صفات إبراهيم أنه (منيب) أي: يرجع إلى الحكم وإلى الحق في قضاياه.
ألم يَقُلْ الحق سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 114].
وبعد أن بحث إبراهيم عليه السلام عن الحق، وأناب إليه، يبين لنا الله سبحانه وتعالى مظهرية الإنابة في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها والتي أوضحت تأوه إبراهيم لله عز وجل وتأوهه رحمة بهؤلاء الذين لم يؤمنوا، وهم قوم لوط، وأيضاً كانت حجة إبراهيم عليه السلام في الجدال ما قاله الحق سبحانه في سورة العنكبوت: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 31- 32].
وكان سؤال إبراهيم للملائكة: كيف تُهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو يؤمن بالله وعلى رأسهم نبي من الله هو لوط عليه السلام، وردت عليه الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 32].
وكأن إبراهيم خليل الرحمن يعلم أن وجود مؤمنين مع الكافرين في قرية واحدة، يبيح له الجدال عن أهل القرية جميعاً.
ويتلقى إبراهيم الرد هنا في سورة هود في الآية التالية: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ}

.تفسير الآية رقم (76):

{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}
وقول الملائكة: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} [هود: 76].
يعني إبلاغ إبراهيم أن مسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوط أمرٌ مُنتهٍ ومحسوم، فهم قد جاءوا لينفذوا، لا ليهدِّدوا؛ وأبلغوا إبراهيم: {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} [هود: 76].
وإذا ما كان الأمر قد جاء من الله، فإبراهيم عليه السلام لأنه {مُّنِيبٌ} يعلم أن أي أمر من الله تعالى لابد أن يُنفَّذ، فلابد أن يَتقبَّل أمرَ الحق سبحانه: {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76].
أي: لا أحد بقادر على أن يرد عذاب الله. وكما أن هناك وعداً من الله تعالى غير مكذوب، فهناك أيضاً عذاب غير مردود.
ويُروى أن إبراهيم عليه السلام في جداله قال للملائكة: إذا كان في قوم لوط خمسون قد آمنوا بالله تعالى، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال: وإن كان فيهم عشرة يؤمنون بالله، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال وإن كان فيهم واحد هو لوط؟ فردَّت الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32].
وانتهى الجدال، وذهبت الملائكة إلى مهمتها التي هي إيقاع العذاب بقوم لوط.
ويقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ}

.تفسير الآية رقم (77):

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
أي: أن لوطاً شعر بالسوء، وضاق بهم ذرعاً، والذرع مأخوذ من الذراع التي فيها الكف والأصابع وندفع بها الأشياء، وأي شيء تستطيع أن تمد إليه ذراعك لتدفع به، وإن لم تَطُله ذراعك؛ قلت: (ضقت به ذرعاً) أي: أن يدي لم تطله، وهو أمر فوق قوتي وطاقتي، وفوق ما آتاني الله من الآلات ومن الحيل.
وما الذي يسيء لوطاً في مجيء الملائكة؟
قيل: لأن الملائكة قد جاءوا على الشكل المعروف من الجمال، فحين يُقال: (فلان ملاك)، أي: شكله جميل.
ولوط عليه السلام يعلم أن آفة قومه هي إتيان الذكور، وامرأته تعلم هذه الآفة، لكن موقفها من ذلك غير موقف لوط، فهي ترحب بتلك الآفة.
ويُقال: إنها تنبهت لمجيء الرجال الحِسان ولم تعرف أنهم ملائكة العذاب وصعدت إلى سطح المنزل، وصفقت لعل القوم ينتبهون لها، فلم يلتفت لها أحد، فأشعلت ناراً فانتبه لها القوم، وأشارت لهم بما يعبر عن مجيء ضيوف يتميزون بالجمال.
وهنا قال لوط عليه السلام: {هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77].
أي: يوم شديد المتاعب.
ويقال: (يوم عصيب) و(يوم عصبصب)، ومنه (العُصْبَة) وهم جماعة يتكاتفون على شيء، ويقوى الفرد بمجموعهم، وقد صدق ظن لوط.
وفي هذا يقول الحق سبحانه عن ذلك: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ}

.تفسير الآية رقم (78):

{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}
وقول الحق سبحانه: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78].
أي: يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دُربة، يكون متردداً خائفاً، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط.
وكلمة (يهرعون) هي من الألفاظ العجيبة في اللغة العربية، وألفاظ اللغة تجد فيها فعلاً له فاعل، كقولنا: (يضربُ زيدٌ عَمْراً) أي: أن الضارب هو (زيد) والمضروب هو (عمرو)، ونقول: (يُضْرَبُ عمرو) أي: أننا بنينا الفعل للمجهول، وسُمِّي عمرو (نائب فاعل).
أما في الفعل (يُهْرَعُ) فلا نجد أحداً يقول: (يُهرع) إلا ويكون بعدها فاعل وليس نائب فاعل، مثلها مثل الفعل (جُنَّ) فهل هناك من يأتي لنفسه بالجنون، أم أن الجنون هو الذي جاءه؟ لا أحد يعرف سبب الجنون؛ ولذلك بُنيت الكلمة للمجهول، ولكن ما يأتي بعدها يكون فاعلاً. وهذا من إعجاز البيان القرآني.
وكذلك نقول: (زُكِمَ فلان) فمن الذي أصابه بالزكام؟ لا نعرف سبباً ظاهراً للزكام.
إذن: فإذا جُهِلَ الفاعل فنحن نبني الفعل للمجهول، ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلاً.
وقول تعالى: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78].
يبيِّن أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لأن كلاً منهم له دربة على ذلك الفعل المشين، أو أن كلاً منهم ذاهب إلى ما يحب دون تَهيُّب، باندفاع من نفسه ودَفْع من غيره، مثلما تقول: (سنوزع تمويناً بالمجان)؛ هنا تجد الناس يتدافعون، كل منهم من تلقاء نفسه، وغيره يدفعه ليرتد إلى الوراء.
وقوم لوط كانوا على دُرْبة بتلك الفاحشة.
يقول الحق سبحانه عنهم: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} [هود: 78].
أي: أن هذه المسألة عندهم كانت محببة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا حياء يمنعهم عنها.
فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما كانوا يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر.
وماذا يكون موقف لوط عليه السلام في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة، وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكَّر لوط عليه السلام في أن يصرفهم انصرافاً من جنس اندفاعهم.
يقول الحق سبحانه: {قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78].
وقد قال ذلك لأن المرأة مخلوقة لذلك، ومن الممكن أن يتزوجوا من بناته.
وكان العُرْف في أيام لوط عليه السلام لا يمنع أن يزوِّج المؤمن ابنته لغير المؤمن؟ وقد زَوَّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إحدى بناته لعُتبة بن أبي لهب، وأخرى لأبي العاص بن الربيع؟ قبل تحريم الحق سبحانه تزويج المؤمنة لغير المؤمن.
فهل كان المقصود: بناته من صُلبه أم بنات أمته، أم بنات المؤمنين به؟ وقد قيل: إنه لم يؤمن بالله إلا لوط وابنتاه، فكيف يكون الزواج لابنتين من كل هذا العدد من الرجال المتدافعين؟
وقيل: إنه بحث عن السادة الأقوياء الذين بيدهم القرار، وأراد أن يراضيهم بهذا الزواج؛ لعلهم يرجعون عن الفواحش والسيئات، وفي هذا طهر لهم، وبذلك يحفظون كرامته أمام ضيوفه.
يقول لوط عليه السلام: {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78].
وكلمة (ضيف) كما نعلم جاءت هنا مفردة، ولكنها تطلق أيضاً على الجمع، والمثنى، وتصلح للدلالة على المذكر وعلى المؤنث أيضاً، فإن جاء ضيف واحد تقول: (هذا ضيفي)، وإن جاء اثنان تقول: (هذان ضيفي)، وإن كانت امرأة تقول: (هذه ضيفي)، وإن كانتا امرأتين تقول: (هاتان ضيفي)، وإن جاءت جماعة تقول: (هؤلاء ضيفي).
والحق سبحانه يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24].
وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل: كلمة (طفل) فهي مفرد؛ ولكنها قد تطلق على الجماعة، إلا أن كلمة (طفل) وُجِد لها جمع هو (أطفال).
والحق سبحانه يقول: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 31].
إذن: فكلمة (طفل) تطلق أيضاً، ويراد بها الجماعة.
وهنا يطلب لوط عليه السلام من قومه ألا يخزوه في ضيفه، والخزي فضيحة أمام النفس وأمام الناس.
والإنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيئ ما لم يره أحد، أما أن يراه الناس، ففي هذا فضح له؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس، والهوان أن يكون العمل السيئ بينه وبين نفسه.
ويتساءل لوط عليه السلام: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} [هود: 78].
أي: ألا يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة، يمنع هذه المسألة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ}

.تفسير الآية رقم (79):

{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}
هذه الآية تحمل رد المتدافعين طلباً للفحشاء من قوم لوط؛ فقد قالوا له: أنت تعلم مقصدنا، وليس لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا.
وكان هذا يعني الإعراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلاً من طلب فعل الفاحشة مع ضيوف لوط، وهم الملائكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في الجمال.
ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}