فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (115):

{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
وجاءت كلمة (اصبر) لتخدم كل عمليات الاستقامة.
وكذلك يقول الحق سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132].
والصبر نوعان: صبر (على)، وصبر (عن) وفي الطاعات يكون الصبر على مشقة الطاعة، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر، وفي اتقاء المعاصي يكون الصبر عن الشهوات.
وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين: في الإيجاب للطاعة، وفي السلب عن المعصية.
ونحن نعلم أن الجنة حٌقَّتْ بالمكاره؛ فاصبر على المكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات؛ فاصبر عنها.
وافرض أن واحداً يرغب في أكل اللحم، ولكنه لا يملك ثمنها، فهو يصبر عنها؛ ولا يستدين.
ولذلك يقول الزهاد: ليس هناك شيء اسمه غلاء، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس.
ولذلك نجد من يقول: إذا غلا شيء عليّ تركته، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا.
والحق سبحانه يقول: {واصبر على ما أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
وهنا يقول الحق سبحانه: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [هود: 115].
وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما فرض الله فوق ما فرق الله، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو حج لبيت الله؛ لأن العبادة ليست اقتراحاً من عابدٍ لمعبود، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه.
وحاول ألاّ تدخل في مقام الإحسان نَذْراً؛ لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته، واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك؛ حتى لا تدخل مع الله في ودٍّ إحساني ثم تفتر عنه، وكأنك والعياذ بالله قد جرَّبت مودة الله تعالى، فلم تجده أهلاً لها، وفي هذا طغيان منك.
وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الإحسان فلا تنكرها عليه، وإلا لسويت بين من وقف عند ما فُرِضَ عليه، وبين من تجاوز ما فُرِضَ عليه من جنس ما فَرَضَ الله.
وجرب ذلك في نفسك، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة، وقم لتصلي الفجر في المسجد، ثم احرص على أن تتقن عملك، وحين يجيء الظهر قم إلى الصلاة في المسجد، وحاول أن تزيد من ركعات السنة، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رَقَّتْ في أعماقك، وامتلأتَ بإشراقات نوارينة تفوق إدراكات الحواس، ولذلك لا تستكثر على مَنْ يرتاض هذه الرياضة الروحية، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية.
ولذلك لا نجد واحداً من أهل النور والإشراق يدَّعي ما ليس له، والواحد منهم قد يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم، ولا يعلنها له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد خَصَّه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة.
وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدوداً للمرتاض ولغير المرتاض، في قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاة عبداً صالحاً، ووصف الحق سبحانه العبد الصالح بقوله تعالى: {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65].
وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67].
وبيَّن العبد الصالح لموسى بمنتهى الأدب عذره في عدم الصبر، وقال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68].
وردَّ موسى عليه السلام: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69].
فقال العبد الصالح: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 70].
ولكن الأحداث توالت؛ فلم يصبر موسى؛ فقال له العبد الصالح: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78].
وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي مع غير المرتاض على ذلك، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب، ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه.
ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقرَّ ميزان الكون.
والحق سبحانه يبيِّن لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين، في قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15- 16].
ويبيِّن الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى، في قوله سبحانه: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلاً من الليل، وللمسلم أن يصلي العشاء، وينام إلى الفجر.
وتستمر مدارج الإحسان، فيقول الحق سبحانه: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
والحق سبحانه لم يكلِّف المسلم بذلك، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان يفعل ذلك.
ويقول الحق سبحانه أيضاً: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].
ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم، بل جعله حقاً غير معلوم أو محددٍ، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة، ولكن من يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم.
وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان، ليودَّ الحق سبحانه.
ولله المثل الأعلى: نحن نجد الإنسان حين يوده غيره؛ فهو يعطيه من خصوصياته، ويفيض عليه من مواهبه الفائضة، علماً، أو مالاً، فما بالنا بمن يدخل في ودٍّ مع الله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ}.

.تفسير الآية رقم (116):

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}
وكلمة (لولا) هنا تحضيضية، والتحضيض إنما يكون حثاً لعفلٍ لم يأت زمنه، فإن كان الزمن قد انتهى ولا يمكن استدراك الفعل فيه، تكون (لولا) للتحسر والتأسف.
وفي سورة يونس يقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98].
وذكَّرهم بالآيات. ونحن قد علمنا أن (لولا) لها استعمالان في اللغة، فهي إن دخلت على جملة اسمية، فهي تدل على امتناع لوجود، كقول إنسان لآخر: (لولا أن أباك فلاناً لضربتك على ما أذنبت) وتسمى (لولا) في هذه الحالة (حرف امتناع لوجود).
وإذا دخلت (لولا) على جملة فعلية، فهي أداة تحضيض، وتحميس، وحث المخاطب على أن يفعل شيئاً، مثلما تشجِّع طالباً على المذاكرة، فتقول له: (لولا ذاكرت بجد واجتهاد في العام الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السنة الدراسية).
وفي هذا تحميس له على بذل مزيد من الجهد، أما إذا قلت لراسب: (لولا ذاكرت لما رسبت) فهذا توبيخ وتأسيف له على ما فات، وشحن طاقته لما هو آت؛ لأن الزمن قد فات وانتهى وقت المذاكرة؛ لذلك تكون (لولا) هنا للتقريع والتوبيخ.
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن بقية الأشياء هي التي ثبتت أمام أحداث الزمن، فأحداث الزمن تأتي لتطوح بالشيء التافه أولاً، ثم بما دونه ثم بما دونه، ويبقى الشيء القوي؛ لأنه ثابت على أحداث الزمن؛ وبقية الأشياء دائماً خيرها.
والحق سبحانه قد بيَّن لنا أنه قد أهلك الأمم التي سبقت؛ لأنه لم توجد فئة منهم تنهى عن الفساد في الأرض، وجاء الإهلاك لامتناع من يقاوم الفساد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وضرب الحق سبحانه لنا المثل بالبقية في كل شيء، وأنها هي التي تبقى أمام الأحداث، ففي قصة شعيب عليه السلام يقول الحق سبحانه: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 84- 86].
ومعنى ذلك أن نقص المكيال أو الميزان قد يزيد التاجر ما عنده، ولكنه لا يلتفت إلى ماهو مدخور.
ولذلك قال شعيب عليه السلام: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85].
فأنت إن نظرت إلى شيء قد ذهب، فامتلك القدرة على أن تحقق فيه بالفهم، لتجده مدخراً لك باقياً.
ولنا المثل في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما سألها عن شاة أُهديت له، وكانت تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب من الشاة كتفها، فتصدقت بكل الشاة إلا جزءاً من كتفها، فلمَّا سألها: ما فعلت بالشاةّ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها.
هكذا نظرت عائشة رضي الله عنها هذا المنظور الواقعي؛ بأن الباقي من الشاة هو كتفها فقط، وأنها تصدقت بباقي الشاة، ويلفتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتة إيمان ويقين، ويقول لها: (بقى كلها إلا كتفها).
هكذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما بقي من الشاة من خير.
ويؤيد ذلك حديث قاله صلى الله عليه وسلم: «وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».
ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور، وإلى المدخور، فيقول الحق سبحانه: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} [الكهف: 46].
ويصف الحق سبحانه هذا المدخور بقوله: {ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76].
إذن: لابد أن تنظر إلى الباقيات في الأشياء؛ لأنها هي التي يُعوَّل عليها.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم، فيقول تعالى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17].
ويقول سبحانه: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} [القصص: 60].
إذن: فإياك أن تنظر إلى الذاهب، ولكن انظر إلى الباقي.
وإذا عضَّتِ الإنسان الأحداث في أي شيء، نجد أن سطحي الإيمان يفزع مما ذهب، ونجد راسخ الإيمان شاكراً لله تعالى على ما بقي.
وها هو ذا سيدنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنه حينما جُرحت ساقه جرحاً شديداً، وهو في الطريق إلى الشام، ولحظة أن وصل إلى قصر الخلافة قال الأطباء: لابد من التخدير لنقطع الساق المريضة، فقال: والله ما أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
وكان هذا القول يعني أن تجرى له جراحة بتر الساق دون مخدر، فلمَّا قُطعت الساق، وأرادوا أن يأخذوها ليدفنوها؛ لتسبقه إلى الجنة إن شاء الله؛ قال: ابعثوا بها، فجاءوا بها إليه، فأمسكها بيده وقال: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو؛ فقد عافيت في أعضاء.
هكذا نظر المؤمن إلى ما بقي.
وحين يتكلم القرآن الكريم عن مراتب ومراقي الإيمان يقول مرة: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [غافر: 40].
ويقول عن أناس آخرين: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157].
والجنة باقية بإبقاء الله لها، ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله، وهكذا تكون درجة الرحمة أرقى من درجة الجنة.
وهكذا تجد في كل أمر ما يسمى بالباقيات.
وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116].
أي: لولا أن كان في الناس بقية من الخير وبقية من الإيمان، وبقية من اليقين، وكانوا ينهون عن الفساد في الأرض، لولا هم لخسف الله الأرض بمن عليها.
والبقايا في كل الأشياء هي نتيجة الاختيار، والاختبار؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17].
وفي العصر الحديث نقول: (البقاء للأصلح).
إذن: فالحق سبحانه إنما يحفظ الحياة بهؤلاء الذين ينهون عن الفساد في الأرض؛ لأنهم يعملون على ضوء منهج الله، وهذا المنهج لا يزيد ملكاً لله، ولا يزيد صفة من صفات الكمال لله، لأنه سبحانه خلق الكون بكل صفات الكمال فيه، ومنهجه سبحانه إنما يُصلح حركة الحياة، وحركة الأحياء.
وهكذا يعود منهج السماء بالخير على مخلوقات الله، لا على الله الذي كوَّن الكون بكماله.
واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 78].
فكما رفع الحق سبحانه السماء بلا عمد، وجعل الأمور مستقرة متوازنة؛ فلكم أن تعدلوا في الكون في الأمور الاختيارية بميزان دقيق؛ لأن اعوجاج الميزان إنما يفسد حركة الحياة.
ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح، ويرى الناس العاطل، وهو يحيا في ترفٍ من سرقة خير الكادح، فيفعلون مثله، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد.
وينزوي أصحاب المواهب، فلا يعمل الواحد منهم أكثر من قدر حاجته؛ لأن ثمرة عمله إن زادت فهي غير مصونة بالعدالة.
وهكذا تفسد حركة الحياة، وتختل الموازين، وتتخلف المجتمعات عن ركب الحياة.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} [هود: 116].
وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم بشرط أن يأمورا بالمعروف، وينهوا عن المنكر.
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110].
وجعلها الحق سبحانه الأمة الخاتمة، لأنه لا رسالة بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الرسالات قبلها تأتي بعد أن يتقلص الخير في المجتمعات، وفي النفوس.
فقد وضع الحق سبحانه المنهج لأول الخلق في النفس الإنسانية، وكانت المناعة ذاتية في الإنسان، إن ارتكب ذنباً فهو يتوب ويرجع بعد أن يلوم نفسه، ولكن قد يستقر أمره على المعصية، وتختفي منه (النفس اللوَّامة)، ويستسلم للنفس الأمَّارة بالسوء، فيجد من المجتمع من يقوِّمه، فإذا ما فسد المجتمع، فالسماء تتدخل بإرسال الرسل، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمَّنها الحق سبحانه أنه سيظل فيها إلى أن تقوم الساعة من يدعو إلى الخير، ومن يأمر بالمعروف، ومن ينهى عن المنكر؛ ولذلك لن يوجد أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيداً لهذا المعنى: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل).
والعَالِم: هو كل من يعلم حكماً من أحكام الله سبحانه، وعليه أن يبلغه إلى الناس.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضَّر الله وجه امرئ سمع مقاتلي فوعاها، وأدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامِع».
ويقول الحق سبحانه: {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ ما أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116].
وقد أنجى الحق سبحانه بعضاً ممن نهوا عن الفساد في الأرض.
ونرى أمثلة على ذلك في القرية التي كانت حاضرة البحر، وكانت تأتيهم حيتانهم شُرعاً يوم السبت الذي حرموا فيه الصيد على أنفسهم، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم.
ويقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164- 165].
هكذا أنجى الله سبحانه الذي نهوا عن السوء في تلك القرية، وقد نرى في بعض المجتمعات عنصرين:
الأول: أنه لا يوجد طائفة تنهى عن الفساد.
والعنصر الثاني: أن ينفتح على المجتمع باب الترف على مصراعيه، وفي انفتاح باب الترف على مصراعيه مذلَّة للبشر؛ لأنك قد تجد إنساناً لا تترفه إمكاناته؛ فيزيد هذه الإمكانات بالرشوة والسرقة والغصب.
وكل ذلك إنما ينشأ لأن الإنسان يرى مترفين يتنعمون بنعيم لا تؤهله إمكاناته أن يتنعم به.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن إهلاك مثل هذه المجتمعات: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [الإسراء: 16].
وبعض الناس يفهمون هذه الآية الكريمة على غير وجهها؛ فهم يفهمون الفسق على أنه نتيجة لأمر من الله سبحانه وتعالى والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر الله؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5].
أي: أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج الله، لكنهم خالفوا المنهج الإلهي مختارين؛ ففسقوا عن أمر ربهم.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {واتبع الذين ظَلَمُواْ ما أُتْرِفُواْ فِيهِ} [هود: 116].
وقوله سبحانه:(ظلموا) تبين أن مادة الترف التي عاشوا فيها جاءت من الظلم، وأخذ حقوق الناس وامتصاص دماء الكادحين.
ومادة(ترف) تعني النعمة يتنعم بها الإنسان. ومنها: أَترف، وأُترف، وكلمة (أترف) أي: أطغته النعمة، وأنسته المنعم سبحانه. وأترف، أي: مد الله له في النعمة ليأخذه أخذ عزيز مقتدر.
والحق سبحانه يقول: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44].
فمن يمسك عدوه ليرفعه؛ فلا يظنن أنه يدلِّله، ولكنه يرفعه ليلقيه من علٍ، فيزداد ويعظم ألمه. وكان الله سبحانه قد أعطى أمثال هؤلاء نعمة؛ ليطغوا.
ولنا أن ننتبه إلى كلمة (الفتح) التي تجعل النفس منشرحة، وعلينا أن ننتبه إلى المتعلق بها، أهو فتح عليك، أم فتح لك؟
إن فُتح عليك؛ فافهم أن النعمة جاءت لتطغيك، ولكن إن فُتح لك، فهذا تيسير منه سبحانه، فهو القائل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1].
وهؤلاء الذين يحدثنا الحق سبحانه عنهم في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ قد فتح الله سبحانه عليهم أبواب الضر؛ لأنهم غفلوا عنه.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116].
أي: كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل؛ وهو اتباع منهج السماء؛ لأن كلمة(مجرمين) مأخوذة من مادة (جرم) وتعني: (قطع)، وقطع اتباع منهج السماء؛ والغفلة عن الإيمان بالخالق سبحانه، والاستغراق في الترف الذي حققوه لأنفسهم بظلم الغير، وأخذ نتيجة عرق وجهد الغير.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى}.