فصل: تفسير الآية رقم (121):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (121):

{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)}
أي: اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مستندٌ إلى رصيد قويّ من الإيمان بإلهٍ لا يهوله أن يستعد له الخصم؛ فهو صلى الله عليه وسلم والذين معه لا يواجهون الخصم بذواتهم؛ ولا بعدَدهم وعُددهم؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن مدداً سوف يصله من الوطن الذي يحارب من أجله؛ لأنه سيعزز من قوته، فما بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده؛ وممن لا يُجير عليه أحدٌ؛ فهو يُجير ولا يُجَار عليه.
ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى عليه السلام حين كاد الفرعون أن يلحق به؛ ورأى قومه أنْ لا نجاة لهم؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم؛ صرخوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
لكن موسى عليه السلام يطمئنهم: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فموسى عليه السلام يعلم أنه مُستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمدَّه الله سبحانه بمعجزة جديدة: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63].
فينفلق البحر؛ ليفسح بين مياهه طريقاً يابسة؛ وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى في قطع السبيل على عدوه حتى لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله سبحانه: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
أي: أتركه على ما هو عليه؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق سبحانه البحر كما كان، وبذلك أنْجَى الحق سبحانه وأهْلَكَ بالشيء الواحد؛ وهذه لا يقدر عليها غير الله سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا يَهَبُ الحق سبحانه المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين. والإيمان كله معركة من التحدي؛ تحدٍّ في صدق الرسول كمبلِّغ عن الله، ومعه معجزة تدل على رسالته، وتحدٍّ في نصرة الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة؛ فيغلبون الكثرة الكافرة.
والحق سبحانه يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [البقرة: 249].
وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان.
وقد تميِّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولاً؛ ثم ينتهي دورها؛ لينزل له بعدها منهج من السماء؛ ليبشِّر به قومه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميَّز بمعجزة لا تنتهي، وهي عَيْنُ منهجه؛ لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة؛ فكان لابد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة.
ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول: محمد رسول الله والقرآن معجزته إلى أن تقوم الساعة.
والحق سبحانه يقول هنا: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121].
ونحن نعلم أن كل كائن منَّا له مكان، أي: له حَيِّز وجِرْم. ويقال: فلان له مكانة في القوم، أي: له مركز مرموق؛ إذا خلا منه لا يستطيع غيره أنْ يشغله، وهو مكان يدلُّ على الشرف والعظمة والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن.
فقول الحق: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121].
أي: اعلموا على قَدْر طاقتكم من عُدة ومن عَدد، فإن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رباً سيهديه وينصره، وفي هذا تهديد لهم؛ وليس أمراً لهم؛ لأنهم ككفار لن يمتثلوا لأمر مِنْ عَدوِّهم.
ولو أنهم امتثلوا لأمر محمد وربِّ محمد لَمَا كانوا كافرين؛ بل لأصبحوا من الطائعين.
وحين يقول لهم سبحانه في آخر الآية: {إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121].
فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لأنكم من الأغيار الأحداث؛ أما فعل الله تعالى فهو غير محدود؛ لأنه سبحانه قديمٌ أزليٌّ لا تحده حدود، ولن يناقض عمل المُحدَث الحادث عمل القديم الأزلي، فقوة الحادث المُحدَث موهوبة له من غيره، أما قوة الحق سبحانه فهي ذاتية فيه.
ونحن نعلم أن أيَّ عمل إنما يُقَاس بقوة فاعله، وخطأ المستقبلين لمنهج الله أنهم إذا جاء عمل؛ نَسَوا مَنِ الذي عَمِلَ العمل، ولو كان العمل من فعل البشر لَحقَّ للإنسان أن يتكلم، لكن إذا ما كان العمل من الله تعالى فليلزمِ الإنسان حدوده.
ومثال ذلك: هؤلاء الذين جادلوا في مسألة الإسراء التي قال فيها الحق تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وقالوا: إننا نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، فكيف يقول إنه أتاها في ليلة؟
وكان الرد عليهم: إن محمداً لم يَقُلْ إنه سَرَى من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى بقوته هو، بل أُسْرِيَ به، والذي عمل ذلك هو الله سبحانه وليس محمداً، فقيسوا هذا العمل بقوة الله تعالى وليس بقوة محمد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (122):

{وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)}
في هذه الآية نلمس الوعيد والتهديد؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم، والمؤمنون ينتظرون وعد الرحمن لهم.
ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44].
وفي انتظار الكفار تهديد لهم، وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم، ولو لم تَأْتِ الأحداث المستقبلة كما قالها القرآن لتشكك المؤمنون، ولكن المؤمنين لم يتشككوا، وهكذا نتأكد أن القول بالانتظار لم يكن ليصدر إلا مِنْ واثقٍ بأن ما في هذا القول سوف يتحقق.
وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الأحداث التي جاءت في القرآن.
ألم ينزل قول الحق سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية، حتى قال عمر رضي الله عنه أيُّ جَمْعٍ يهزم؟ لأن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين، وعدم قدرة بعض المؤمنين على حماية نفسه، ثم تأتي غزوة بدر؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجيب أنه صلى الله عليه وسلم خطط على الأرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين، بل وأماكن إصاباتهم، وجاء ذلك قرآناً يُتلى على مر العصور، مثل قوله الحق: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16].
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي الواقع بما يؤيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شاء سبحانه أن يُنزل على الرسول لقطاتٍ من قصص الرسل الذين سبقوه لشد أَزْره، وليثبِّت فؤاده، ويذكِّر المؤمنين فيزدادوا إيماناً.
ثم يختتم الحق سبحانه سورة هود بقوله الكريم: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}

.تفسير الآية رقم (123):

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
أي: أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله سبحانه من خلال ما يُنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد شاء الحق سبحانه أن يحفظ هذا الذِّكْر الحكيم، ثقة منه سبحانه أنه إذا أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من الكائنات مؤمنهم وكافرهم فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق.
وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض المُدْركات، ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ، فإذا أخبر الله تعالى عن أمر لم نشهده من قديم قد أَوْغَلَ في الزمن، ولم يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ولم يسمعه من معلِّم؛ فهذا كَشْف لحجاب الماضي.
ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء (ماكُنات القرآن) مثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
وغير ذلك من الآيات التي تبدأ بقوله الحق: {مَا كُنْتَ}.
وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيباً عن الرسول ومَنْ معه؛ لكن الحق سبحانه أظهر هذا الغيب للرسول الذي لم يجلس إلى مُعلِّم بشهادة أعدائه، وكذلك كشف الحق سبحانه لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان.
ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان؛ إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضاً، والذي كشف هذا هو الحق سبحانه الذي قدَّر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم الساعة.
وقد طمر الحق سبحانه في القرآن أموراً لو كُشف عنها في زمن بَعْثة الرسول؛ لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك؛ وتحدث سبحانه عن وقائع مستقبلية بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى عليه وسلم؛ لم يكن أحد يتوقعها.
وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام؛ حضارة فارس وحضارة الروم، وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ. وهَزَمَتْ فارس التي لا تؤمن بإله امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة.
لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء؛ فَيُسرِّي الله سبحانه الأمر على رسوله، ويُنزِل الحق سبحانه قرآناً يُتلَى على مَرِّ العصور وكل الأزمان؛ يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس.
ويقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 15].
هكذا تأتي النبوءة في القرآن تحمل التحديد لميعاد نصر الروم في بضع سنين؛ و(البِضْع) يقصد به من ثلاث لتسع سنوات.
وإنْ قيل: تلك نبوءة محمد، نقول: ما عِلْم محمد بأخبار المعسكرين ولا بأسرار السياسة الداخلية لهما؟
وقد جاء نصر الروم كما حدد القرآن، وكان هذا هَتْكا للحجب، حجاب الزمان، وحجاب المكان، وحجاب الناس، وأوحى به الحق سبحانه عالم الغيب المطلق لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والغيب المطلق هو الذي لا يعرفه إلا الحق تبارك وتعالى وليس له مقدمات، ويكشفه الله لمن يرتضيه، مصداقاً لقوله سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26- 27].
وهذا الغيب المطلق يختلف عن الغيب المقيّد الذي له مقدمات؛ ما إن يأخذ بها الإنسان ويرتبها حتى يصل إلى اكتشاف سرٍّ من أسرار الكون.
والحق سبحانه هو القائل: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255].
وهكذا نعلم أن كل المكتشفات كانت موجودة في الكون ومطمورة فيه؛ وجعل الله تعالى لكل مستور منها ميلاداً، فالبخار واستخدامه في الحركات كان له ميلاد؛ والكهرباء كان لها ميلاد؛ واكتشاف الذرة كقوة ومصدر للطاقة كان له ميلاد، وكل مُكْتَشف ومُخْتَرع له ميلاد، وتتوالى مواليد الغيب مستقبلاً، وفي ميلادها إيمان اليقين بمن أخفاه وأظهره، وهو الله الحكيم.
وقد يأتي هذا الميلاد بكشف وبحث؛ وقد يُظهره الله بدون بَحْث؛ أو يُظهره صدفة؛ مثلما أظهر قانون الطفو النابع من قاعدة (أرشميدس) ومثلما أظهر الحق سبحانه قانون الجاذبية صدفة؛ أي: أنه سبب من الأسباب جعل عبداً من عباده يبحث في شيء، فيظهر له شيء لم يكن يبحث عنه؛ ولذلك نسب الحق سبحانه الإحاطة له سبحانه.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123].
ولم يقل: (إليه يَرْجع الأمر كله)، لأنه سبحانه ضبط كل مخلوق على قدر.
ولله المثل الأعلى: كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين، وكما يضبط المقاتل القنبلة لتنفجر في توقيت معين، والكون كله مُرتَّب على هذا الترتيب.
والله سبحانه القائل: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
فكل شيء إما يرجع إلى الله في التوقيت الذي شاءه الله.
أو: أن الأمر هو كل ما يتعلق بكائن حي؛ لأن الحق سبحانه قد خلق في الكون أشياء وترك ملكيتها له سبحانه والحق سبحانه لا ينتفع بها، أما الإنسان فينتفع بها، وإن كان لا يقربها ولا يملكها، مثل: الشمس التي ترسل أشعتها، ويستفيد الإنسان بضوئها وحرارتها، وهي لا تدخل في ملكية الإنسان؛ لأنها من أساسيات الحياة؛ لذلك لم يجعل للإنسان الذي خَصَّه الله بخاصية الاختيار حق ملكيتها أو الاقتراب منها؛ حتى لا يعبث بها.
وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق سبحانه في سلطته وحده، ولم يَأْمَنْ أحداً من خلقه عليها، مثل الأرض بعناصرها، وكذلك الماء والهواء حتى لا يعبث أحد بأنفاس الهواء لأحد آخر.
شاء الحق سبحانه أن يجعل الأساسيات في يده دون أن يُملِّكها لأحد؛ رحمةً منه بنا، ذلك أنه سبحانه عَلِمَ أن الإنسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك الأساسيات.
وسَخَّر الله هذه الأساسيات لخدمة كل المخلوقات، وسخَّر بعض المخلوقات ليسُوسها الإنسان، وبعض المخلوقات الآخر لم يستطع الإنسان تسخيره، وحتى قوة الإنسان نفسه؛ شاء الحق سبحانه أن يجعلها أغياراً؛ فالقوي يسير إلى الضَّعْف، والفقير قد يصبح غنياً.
وهكذا يَثْبت لنا أن كل ما نملك موهوب لنا من الله تعالى وليس هناك ما هو ذاتيٌّ فِينا، وما نملكه اليوم لا يخرج عن الملكية الموقوتة، فإذا جاء يوم القيامة؛ رجع كل ما نملك لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
ولذلك أيضاً تشهد الجوارح على الإنسان؛ لأنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في الدنيا.
وإذا كان الحق سبحانه يقول هنا: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} [هود: 123].
فهو سبحانه يقول في آية أخرى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6].
وكأن الحق سبحانه ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز يمتنُّ الله تعالى بها على عباده أنه يملكها.
ونحن نعيش الآن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى.
وحين يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123].
ففي ذلك تنبيه لكل إنسان، ليعمل مُسْتهدفاً النجاة حين لا يكون لنفسه على نفسه سبيل يوم القيامة.
وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق الأعلى الذي أعطى الإنسان قدرة من باطن قوته سبحانه وأعطاه غِنًى من باطن غِنَاه سبحانه وأعطاه حكمة من باطن حكمته سبحانه وأعطاه قبضاً وبسطاً من باطن قدرته سبحانه وكذلك أعطى لعبيده من كل صفة بعضاً من فَيْضها، ثم تظل الفيوضات للحق سبحانه وتعالى.
وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود الأمر إليه، لأن الأمر كله له سبحانه.
فإنْ حُدِّثتَ في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماتُه، فاعلمْ أن الذي أنزل هذا الكتاب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم على ثقة أن الحق سبحانه حين أمره أن يتوعد أعداء الدين فهو يُطمئنه أن المرجع في كل الأمور إليه سبحانه.
واطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه أن أعداء الدين إنْ لم يُجازَوْا في الدنيا، فغداً ترجع الأمور كلها إلى الله، وإن كان الحق قد مَلَّكهم أشياء؛ فسيسلُبهم هذه الملكية في الآخرة، وإنْ كان قد أعطاهم الخِيَار في الدنيا؛ خِيَار أنْ يؤمنوا ويطيعوا، أو أنْ يكفروا ويعصوا؛ فهذا الاختيار سيزول عنهم في الآخرة، وكل مالك لمُلْك يصير مُلْكه بعده إلى الله.
وما دام الأمرُ كذلك فلنعبد الله وحده سبحانه لأنه صاحبُ الأمر فيما مضى؛ وله الأمر الآن؛ وله الأمر فيما يأتي.
وهو سبحانه الذي شاء، فجعل للإنسان ثلاثةَ أزمان: زمان سَبقَ وجود آدم؛ وزمان من بعد آدم إلى وجود أيٍّ منا؛ ثم زمان مستقبل إلى ما لا نهاية؛ وبذلك يكون لكل منا زمان ماضٍ؛ وزمان حاضر وزمان مستقبل، وكل منا يدور في فلك الأحداث.
ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة؛ وتنضج عقلياً أن تتساءل عن ماضيك، وتاريخ الجنس البشري.
وأنت في هذه الحالة تكون رَهْناً بثقة المحدِّث: هل يقول الصدق أم يقول الكذب؟ خُصوصاً إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم، ولابد أنْ تقول لنفسك: لا يمكن أن يُحدِّثني عن ذلك إلا مَنْ خلقني.
وساعة يُبلِّغُكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بداية الخلق قائلاً: (كان الله، ولم يكُنْ شيء غيره).
ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلاماً عمَّا فاتَ قبل آدم هو الله سبحانه وتعالى.
وإنْ سألتَ: لماذا وُجِدتُ في زمني هذا، ولم أوجد في زمن آخر؟ هنا ستقول لنفسك إنْ كنت مؤمناً: (إن مشيئة وإرادة مَنْ أوجدني هي التي رجَّحتْ وجودي في هذا الزمن عن أي زمن آخر).
ولا بد أن تسأل نفسك: وما المطلوب مني؟
وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة؛ لأن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة والموت، والحق يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
فقد أعطاك الحق سبحانه العقل لتفكر، وأعطاك الطاقة لتفعل، وسخَّر لك الكون بالمطمور فيه من الرزق؛ لتستخرجه وتتعيش منه.
وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك، وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من الأعلى منك وتعطي للأدنى منك؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من الأعلى منك، وتُعطي للأدنى منك.
وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تُصلي بين يدي الله خمس مرات كل يوم؛ لتشحن طاقتك وتخرج للحياة بعد أن تُجدِّد ولاءك لمن خلقك وخلق الأكوان كلها، وإنْ أحسنتَ الوقوف بين يدي الله سيأتي مستقبلك مبنياً على هذا الإحسان.
والحق سبحانه يعطينا مثلاً لهاتين الحركتين، فيقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9].
هذه حركة يأخذ فيها الإنسان طاقة من الأعلى، فالسعي إلى ذكر الله وترك البيع من أجل ذلك يعطي الإنسان طاقة إيمانية، يظهر أثرها في الحركة الثانية من حركات الإنسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد هذا: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
ولذلك يقول الحق سبحانه في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
أي: أطِع الله في أمره؛ لأنه سبحانه الأعلى منك، بأن تؤدي المطلوب العبادي من: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج إنِ استطعتَ لذلك سبيلاً، لتأخذ من المدد الأعلى ما يعينك في حركتك الثانية التي تتحركها في الكون.
ومن العجيب أن حركتك في الكون الأدنى تُعينك على حركتك لاستمداد الطاقة من مُكوِّن الكون سبحانه.
فأنت حين تصلي تحتاج لِسَتْر عورتك بثوب، وحتى تأتي بالثوب لابد لك من أن تعتمد على حركة الفلاح في الزراعة، وحركة العامل في النَسْج، وحركة التاجر في البيع، وحركتك في عملك الذي يتيح لك أجراً تشتري منه الثوب.
وبذلك تكون قد أخذتَ كل علوم الحياة؛ لكي تذهب للصلاة لتأخذ المدد من المدد الأعلى.
وهكذا تجد أنك في حركة دائرة؛ تأخذ المدد من الأعلى لتعطي الكون الأدنى، وتأخذ من الأدنى ما يتيح لك الوقوف بين يدي صاحب المدد الأعلى.
وبهذا يثبت لك أن الحركة في الحياة الحاضرة لكل إنسان بالنسبة لعمره في الحياة، هي استقبال من المدد الأعلى، وانفعال مع المدد الأدنى، وكل منهما يعين على الآخر؛ لذلك فعليك أن تعبد الله بأن تنظِّم حركة حياتك على ضوء منهجه سبحانه.
واعلم أنه ستصادفك المصاعب فإن صادفتك فتوكل على الله، وتلك فائدة من فوائد استمرار ولائك لله الذي تأخذ منه المدد.
ولذلك (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة).
ومعنى (حزبة) أي خرج عن أسبابه، لذلك فهو يذهب إلى المسبب الأعلى، فإنْ عبدتَ الله وتوكلتَ عليه؛ فهو يعينك؛ لأنه سبحانه لا يغفل عما نعمل.
وهذه الآية تدلُّك على السعادة في الحاضر والمستقبل؛ لأنك إن كنت ترعى الله فسبحانه يكتب لك الحسنة بعشرة أمثالها، وقد يضاعف عن ذلك، وتُكتب السيئة بمثلها.
وبذلك تكون هذه الآية قد استوعبت وانتظمت حال الإنسان: قبل حياته، وحاضر حياته، ومستقبل حياته إلى أن تقوم الساعة.
يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
فدعوة الله بالطاعة، ودعوة الرسول بالسلوك السَّويّ يعطي للمؤمن حياة الحياة، وهي حياة تعيش في معية الله.