فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (32):

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
وكأنها وجدت الفرصة لتثبت لنفسها العذر في مراودتها له، فيوسف باعترافهن قد بلغ من الجمال ما لا يوجد مثله في البشر.
وقولها: {فذلكن} [يوسف: 32]، مُكوَّن من (ذا) إشارة ليوسف، و(ذلِكُنَّ) خطاب للنسوة، والإشارة تختلف عن الخطاب.
وهنا موقف أسلوبي؛ لأن الكلام حين يُنطق به، أو حين يُكتب لِيُقْرأ؛ له ألوان متعددة، فمرة يكون نثراً لا يجمعه وزن أو قافية؛ وقد يكون نثراً مسجوعاً أو مُرْسَلاً، ومرة يكون الكلام شعراً محكوماً بوزن وقافية.
والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور} [الطور: 1-4].
وهذا نثر مسجوع بلا تكلُّف، وأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً؛ فأذنك تأخذ منه على قدر سُمُوِّ أسلوبه، لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب، فأذنك تلتقط الفارق بين الأسلوبين.
والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون مُسْتعطفاً ابن جهور: هذا العَتْب محمودٌ عواقبه، وهذه الغَمْرة نَبْوة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي إنْ أبطأ سببه أو تأخر، غير ضنين ضناه، فأبطأ الدِّلاء قَبْضاً أملؤها، وأثقلُ السحابِ مشياً أعقلها، ومع اليوم غد. ولكل أجل كتاب، له الحمد على اهتباله، ولا عَتْب عليه في اغتفاله.
فإنْ يَكُن الفعلُ الذي سَاء واحداً ** فَأفْعالُه اللاتي سَرَرْنَ أُلوفُ

وهكذا تشعر انتقال ابن زيدون من النثر إلى الشعر، ولكنك وأنت تقرأ القرآن، تنتقل من النثر المُرْسل إلى النثر المسجوع إلى النظم الشعري على وزن بحور الشعر، فلا تكاد تفرق في الأسلوب بين شعر أو نثر.
والمثل نجده في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي} [يوسف: 32].
فهي موزونه من بحر البسيط، ولكنك لا تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
وكذلك قوله الحق: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46].
وأيضاً قوله الحق: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49].
وتأتي تلك الآيات في مواقع قد يكون ما قبلها نثراً، مما يدلُّ على أن النغم الذي قاله الله نَظْماً أو شعراً أو نثراً لا نشاز فيه، ويكاد أن يكون سَيْلاً واحداً.
وهذا لا يتأتَّى إلا من كلام الحق تبارك وتعالى، وأنت لن تشعر بهذا الأمر لو لم يُنبِّهْك أحد لِمَا في بعض الآيات من وزن شعري.
أما كلام البشر؛ فأنت إنْ قرأتَ الموزون؛ ثم انتقلت إلى المنثور؛ أحسَّتْ أُذنك بهذا الانتقال؛ ونفس المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور، ثم تنتقل إلى الموزون؛ وستشعر أذنك بهذا الانتقال.
{قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32].
قالت ذلك بجراءة مَنْ رأت تأثير رؤيتهن ليوسف، وأعلنت أنه {استعصم} ، وهذا يعني أنه قد تكلَّف المشقة في حجز نفسه عن الفعل، وهو قول يثبت أن رجولة يوسف غير ناقصة، فقد جاهد نفسه لِيكبتَها عن الفعل.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} [يوسف: 32].
قالت ذلك وكأنها هي التي تُصدِر الأحكام، والسامعات لها هُنَّ من أكبرْنَ يوسف لحظة رؤيته؛ تعلن لهُنَّ أنه إن لم يُطِعْها فيما تريد؛ فلسوف تسجنه وتُصغِّر من شأنه لإذلاله وإهانته.
أما النِّسْوة اللاتي سَمِعْنَها؛ فقد طمعتْ كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من القصر؛ حتى تنفرد أي منهن به.
ولذلك يُورِد لنا الحق سبحانه قول يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ...}.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}
ولسائل أن يقول: ولماذا جاء قول يوسف بالجمع، وقال: {السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} [يوسف: 33].
على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} [يوسف: 32].
ونقول: لابد أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشاراتٍ أو غمزات تُوحي له بألاّ يُعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدي به إلى السجن؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد امرأة العزيز في جمع النسوة اللاتي جمعتُهنَّ امرأة العزيز، وهُنَّ اللاتي طلبْنَ منه غَمْزاً أو إشارة أن يُخرج نفسه من هذا الموقف.
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته، وللعيون والانفعالات وقَسَمات الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات، وقد تكون إشارات عُيونهن قد دَلَّتْ يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن، وفي مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دوراً هاماً.
وها هو ذا أبو دلامة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة، وكان أبو دلامة مشهوراً بقدرة كبيرة على الهجاء. وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له: عزمتُ عليك إلا هجوتَ واحداً منا.
ودارت عيون في المجلس، وأشار له كل مَنْ حضر المجلس خُفيةً بأنه سيُجزل له العطاء إن ابتعد أبو دلامة عن هجائه؛ ولأن أبا دلامة معروفٌ بالطمع، وخشي أن يضيع منه أيُّ شيء من العطايا؛ لذلك قام بهجاء نفسه؛ وقال:
ألا أبلغْ لدَيْك أباَ دلامة ** فليسَ منَ الكِرامِ ولاَ كرامه

إذَا لَبِسَ العِمَامةَ كان قِرداً ** وخِنْزِيراً إذا خلَع العِمَامه

وهكذا خرج من قسم الأمير؛ وكسب العطايا التي وعده بها من حضروا المجلس.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة؛ فقال: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} [يوسف: 33].
أي: أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء، أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يُحرِّر نفسه من السجن بأن يستجيب لها، ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك.
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه، فقال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} [يوسف: 33].
ولسائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلْ يوسف (يا إلهي) وهو يعلم أن مناط التكليف في الألوهية ب (افعل) و(لا تفعل)؟
نقول: أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافاً بفضله سبحانه؛ لأنه هو جَلَّ وعلا مَنْ ربَّاه وتعهّده؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألاَّ يتخلى عنه في هذا الموقف.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإنْ لم يصرف الله عنه كيدهُنَّ؛ لاستجاب لغوايتهن، ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفون إلى عواقب الأمور.
وعلى الرغم من أن السجن أمر كريه؛ إلا أنه قد فضَّله على معصية خالقه، ولأنه لجأ إلى المُربِّي الأول. لتأتي الاستجابة منه سبحانه.
يقول الحق: {فاستجاب لَهُ...}.

.تفسير الآية رقم (34):

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
وهكذا تفضَّل عليه الله الذي خلقه وتولّى تربيته وحمايته، فصرف عنه كيدهُنَّ؛ الذي تمثل في دَعْوتِهنَّ له أن يستسلم لِمَا دَعتْه إليه امرأة العزيز، ثم غُوايتهن له بالتلميح دون التصريح.
تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء...} [يوسف: 51].
وهكذا أنجاه الله من مَكْر النسوة؛ وهو جَلَّ وعَلا له مُطْلق السمع ومُطْلق العلم، ولا يخفى عليه شيء، ويستجيب لأهل الصدق في الدعاء. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (35):

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
وبعد أن ظهرتْ العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل مشورته، وانكشف لهم انحرافُ امرأة العزيز وإصرارها على أن تُوقِع بيوسف في الفعل الفاضح معها، دون خجل أو خوف من الفضيحة.
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يُوضَع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك فَصْلٌ بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز.
كما أن كلمة: {لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35].
فيها نوع من استبقاء الحب الذي يُكِنُّه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيداً؛ بل احتفظ به بعيداً عن الزوجة المُصِرَّة على الخيانة، وعن المجتمع الذي يَلُوكُ تلك الوقائع.
والسجن كما نعلم هو حَبْس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛ وهو إجراء يتخذه القاضي أو الحاكم كعقوبة يُراد بها إذلال المسجون، أو وقاية المجتمع من شرِّه.
ونعلم أن الإنسان لا يجتريء على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله غلبة؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى السجن ويحرس تقييد حريته سَجَّان؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة.
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة، حين تعزل المسجون عن المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء المجتمع، ويزوره بعضٌ من أقاربه؛ ومعهم المأكولات؛ والمطلوبات.
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين عزل المجتمع الإيماني عن السجين، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يُكلِّم أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عَزْلاً عن الأهل، إلى أن أمر صلى الله عليه وسلم بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن؟
يقول الحق سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن....}.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
المعية التي دخل فيها اثنان من الفتية معه السجن هي معية ذات، وقِيلَ: إنهما الخبَّاز والساقي، وقيل: إن سبب دخولهما هو رغبة بِطَانة عزيز مصر في التشويش على ما حدث من فضيحة كبرى؛ هي فَضيحة مراودة امرأة العزيز ليوسف؛ ورفض يوسف لذلك.
وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما بمحاولة وضع السُّمِّ للعزيز.
وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشَّف لهما سلوك يوسف كواحد من المحسنين.
وحدث أن رأى كل منهما حُلْماً، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين، والسجين غالباً ما يكون كثير الوساوس، وغير آمن على غَدِه؛ ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي يُهِمهم: {قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36].
ومن سياق الكلام نعرف أننا أمام حُلْمين؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمراً، ورأى الثاني أنه يحمل خُبْزاً فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما أو كُلٌّ منهما على حِدَة يطلبان تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ، أو أنهما قد طلبا نبأ تَأويل هذا الأمر الذي رأياه.
وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36].
وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عملُه مقاييسَ الإحسان في ذهن مَنْ يصدر هذا الحكم.
فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا إلى أيِّ أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم؛ لَعرفوا أن الإحسان قَدْر مشترك بين الجميع.
ونجد اللص على سبيل المثال لا يسيئه أن يسرق أحداً، لكن يسيئه لو أن أحداً قام بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه، ويعرف حينئذ مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة؛ ويكون السوء متوجهاً منه إلى الغير؛ فهو يغفل عن مقام الإحسان.
إذن: إنْ أَردتَ أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق؛ فافهم الأمر بالنسبة لك إيجاباً وسَلْباً.
والمثال الذي أضربه دائماً هو: قبل أن تَمُدَّ عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن هذا ليس سوءً، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ الأمر إلى الصورة العكسية؛ حين تتجه عيون الغير إلى محارمك.
هنا ستجد الميزان ميزانك للأمور وقد اعتدل.
وإذا أردتَ اعتدال الميزان في كل فعل؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك؛ وانظر إلى الفعل يقع من الغير عليك؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من الأمرين ستجد قب الميزان منضبطاً.
وأقول دائماً: إن الحق سبحانه حين حرَّم عليك أن تسرق غيرك، لم يُضيِّق حريتك؛ بل ضيِّق حرية الملايين كي لا يسرقوك، وهذا مكسب لك.
إذن: فالذي يعرف مقام الإحسان؛ لا ينسب الفعل الصادر منه على الغير؛ والفعل الصادر من الغير عليه؛ بل ينظر إليهما معاً؛ فما استقبحه من الغير عليه؛ فليستقبحه منه على الغير.
وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين، وعَلِم يوسف عليه السلام من حكمهما عليه أن مقاييس الإحسان موجودة عندهما؛ ولذلك نظر إلى الأمر الذي جاءاه من أجله، واستغل هذه المسألة؛ لا لقضاء حاجتهما منه؛ ولكن لقضاء حاجته منهما.
فقد رأى فيهما شبهة الإيمان بالإحسان؛ والإيمان بالمحسنين، فلماذا لا ينتهز الفرصة فيأخذ حاجته منهما؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه؟
وكأنه قال لهما: ماذا رأيتُما من إحساني؟ هل رأيتم حُسْن معاملتي لكم؟ أم أن كلاً منكما قد رأى دقة اختياري للحَسَن من القول؟ وأنتما قد لا تعرفان أن عندي بفضل الله ما هو أكثر، وهو ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الآية التالية: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا...}.