فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)}
وبذلك أوضح لهما أنهما لا يريان منه إلا الظاهر من السلوك، ولكن هناك أمور مخفية، وكأنه يُنمي فيهما شعورهما بمنزلته وبإحسانه وبقدرته على أن يخبرهما بأوصاف ونوع أيِّ طعام يُرزَقانِه قبل أن يأتي هذا الطعام.
وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته، ولكنها من علم تلقَّاه عن الله، وهو أمر يُعلِّمه الله لعباده المحسنين؛ فيكشف الله لهم بعضاً من الأسرار.
وهما السجينان يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسناً الإيمان بالله. ولذلك يتابع الحق سبحانه: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37].
وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم الله بعضاً من هِبَات الخير، فيعلمون أشياء تَخْفى على غيرهم.
وهذا يدلُّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله بما يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثواباً بالجنة، أو عقاباً في النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام: {واتبعت مِلَّةَ...}.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
وبذلك أوضح يوسف عليه السلام أنه ترك مِلَّة القوم الذين لا يعبدون الله حَقَّ عبادته، ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب، وهم مَنْ أرسلهم الله لهداية الخلق إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالآخرة ثواباً بالجنة وعذاباً بالنار.
وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه سبحانه؛ ولذلك ما كان لِمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بالله، فالشرك بالله يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
فلو أن هناك آلهة غير الله سبحانه لصنع كلُّ إله شيئاً لا يقدر على صُنْعه الإله الآخر؛ ولأصبح الأمر صراعاً بين آلهة متنافرة.
ومن فضل الله هكذا أوضح يوسف عليه السلام أن أنزل منهجه على الأنبياء؛ ومنهم آباؤه إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من الله، بل أبلغوه للناس.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38].
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة: {لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] اعلم أن الأمر الذي أنت بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة السليمة يستحق الشكر، ولا شُكْر إلا على النعمة.
ولو فَطِنَ الناس لَشكروا الأنبياء والرسل على المنهج الذي بلَّغوه عن الله؛ لأنه يهديهم إلى حُسْن إدارة الدنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما واصله يوسف من حديثه للسجينين: {ياصاحبي السجن....}.

.تفسير الآية رقم (39):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)}
وكلمة (صاحب) معناها ملازم؛ والجامع بين يوسف والسجينين هو السجن، ونحن نقول (فلان صاحب الدراسة) أو (صاحب حج)، الشيء الذي يربط بين اثنين أو أكثر، إما أن تنسبه للمكان، أو تنسبه إلى الظرف الذي جمع بين تلك المجموعة من الصحبة.
وطرح يوسف السؤال: {ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] وحين تطرح سؤالاً عبر مقابل لك، فأنت تعلم مُقدَّماً أنه يفهم أن أرباباً متفرقون ليسوا خيراً من إله واحد، وكأن يوسف قد وَثِق من أن إجابتهما لن تكون إلا بقولهم (بل عبادة إله واحد خير).
وهو لم يكُنْ ليسأل إلاَّ إذا عرف أنهما سيُديرانِ كل الأجوبة؛ فلا يجدان جواباً إلا الجواب الذي أراده.
فهما قد عبدا آلهة متعددة؛ وكان المفروض في مقاييس الأشياء أن تُغنِيكم تلك الآلهة عن اللجوء لمن يعبد الإله الواحد.
إذن: في قُوَى البشر نجد التعدد يُثْرِي ويُضخِّم العمل، لكن في الألوهية نجد الشرك يُضعِف العمل.
ولذلك نجد الصوفي يقول: اعمل لوجه واحد يكفيك كل الأوجه. ولذلك قال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ...} [يوسف: 39].
ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ ذواتٍ لكانوا بلا كمال يستحقون من أجله العبادة، ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ تَكرار لما كان لهذا التكرار لزوم، ولو كان تفرُّقهم تفرُّق اختصاصات، فهذا يعني أن لكل منهم نقطةَ قوة ونقاطَ ضعف؛ وتفرُّقهم هذا دليل نقص.
ولذلك رحمنا الحق نحن المؤمنين به لنعبد إلهاً واحداً، فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
وقد حاول يوسف عليه السلام أن يهديهم إلى عباد الإله الواحد، وقال لهم من بعد ذلك ما جاء به الحق سبحانه: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ...}.

.تفسير الآية رقم (40):

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}
ونلحظ أن يوسف عليه السلام لم يتكلم حتى الآن مع السجينين عن مطلوبهما منه، وهو تأويل الرُّؤيَتَيْنِ، وهو لو تكلم في المطلوب منه أولاً؛ لانصرف ذِهْن وانتباه كُلٍّ من السجينين إلى قضاء حاجتهما منه؛ ولن يلتفتا بعد ذلك إلى ما يدعو إليه؛ ولأن الذي يدعو إليه هو الأمر الأبْقى، وهو الأمر العام الذي يتعلق بكل حركة من حركات الحياة.
وبذلك كان يوسف عليه السلام يؤثر السجينين؛ فقد أراد أن يلفتهما إلى الأمر الجوهري قبل أن يتحدث عن الجزئية الصغيرة التي يسألانِ فيها؛ وأراد أن يُصحِّح نصرة الاثنين إلى المنهج العام الذي يدير به الإنسان كل تفاصيل الحياة وجزئياتها؛ وفي هذا إيثار لا أثرة.
وهنا قال الحق سبحانه على لسان يوسف عليه السلام: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ...} [يوسف: 40].
أي: أن ما تعبدونه من آلهة مُتعدِّدة هو مُجرَّد عبادة لأسماء بلا معنى ولا وجود؛ أسماء ورثتموها عن آبائكم أو أنشأتموها أنتم، فكفرتُمْ بإنشاء أسماء لآلهة غير موجودة، كما كفر آباؤكم كُفْر نسيان التكليف أو إنكار التكليف.
وتُوضع الأسماء عادةً للدلالة على المُسمَّى؛ فإذا نطقنا الاسم تجيء صورة المسمى إلى الذِّهْن؛ ولذلك نسمي المولود بعد ولادته باسم يُميِّزه عن بقية إخوته؛ بحيث إذا أُطلِق الاسم انصرف إلى الذات المشخصة.
وإذا أُطلق اسم واحد على متعددين؛ فلابد أن يوضح واضع الاسم ما يميز كل ذات عن الأخرى.
والمَثل من الريف المصري؛ حين يتفاءل أب باسم (محمد)؛ فيسمِّي كل أولاده بهذا الاسم، ولكنه يُميِّز بينهم بأن يقول: (محمد الكبير) و(محمد الأوسط) و(محمد الصغير).
أما إذا وُضِع اسم لمُسمَّى غير موجود؛ فهذا أمر غير مقبول أو معقول، وهم قد وضعوا أسماء لآلهة غير موجودة؛ فصارت هناك أسماء على غير مُسمَّى.
ويأتي هؤلاء يوم القيامة؛ لِيُسألوا لحظة الحساب: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: 73-74].
وهكذا يعترف هؤلاء بأنه لم تَكُنْ هناك آلهة؛ بل كان هنا أسماء بلا مُسمَّيات.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} [يوسف: 40]. وكأن يوسف يتساءل: ءَإذا كانت لكم حاجة تطلبونها من السماء، هل ستسألون الاسم الذي لا مُسمَّى له؟
وهل يسعفكم الاسم بدون مُسمَّى؟
ويوسف عليه السلام يعلم أن المعبود لا يمكن أن يكون اسماً بلا مُسمَّى، وهو يعلم أن المعبود الحق له اسم يبلغه لرسله، ويُنزِل معهم المنهج الذي يوجز في «افعل» و(لا تفعل).
وهم قد سموا أسماء لا مُسمَّى لها، ولا يستطيع غير الموجود أن يُنزِل منهجاً، أو يُجيب مضطراً.
ولذلك يتابع القرآن ما جاء على لسان يوسف عليه السلام في وَصْف تلك الأسماء التي بلا مُسمَّيات، فيقول: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ما أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40].
أي: ما أنزل الله بها من حجة.
وتتابع الآية الكريمة ما جاء على لسان يوسف: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ...} [يوسف: 40].
أي: إنني والكلام ليوسف إن قلتُ شيئاً فلأنِّي ناقلٌ للحكم عن الله، لا عن ذاتي؛ ولا من عندي؛ ولا عن هواي؛ لأنه هو سبحانه الذي أمر ألا تعبدوا إلا إياه، أي: لا تطيعوا أمراً أو نهياً إلا ما أنزله الله في منهجه الهادي للحق والخير.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة: {ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
أي: أن هذا هو الدين المستقيم دون سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بمعنى: أن الرسل قد بلَّغتهم بالمنهج، ولكنهم لم يُوظِّفوا هذا العلم في أعمالهم.
ثم بدأ يوسف عليه السلام في تأويل المطلوب لهما.
يقول الحق سبحانه: {ياصاحبي السجن...}.

.تفسير الآية رقم (41):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)}
وهكذا رجع يوسف عليه السلام إلى مطلب السجينين، وفسَّر رؤيا مَنْ يسقي الخمر بأنه سيخرج من السجن ويعود ليسقي سيده، وأما الآخر فلسوف يُصلَبُ وتأكل الطير من رأسه، لأن رمزية الرؤيا تقول: إن الطير سيأكل من رأسه؛ وهذا يعني أن رأسه ستكون طعاماً للطير.
وتأويل الرؤيا علم يقذفه الله في قلوب مَنْ علَّمهم تأويل الأحاديث، وهي قدرة على فَكِّ شَفْرة الحُلْم، ويعطيها الله لمَنْ يشاء من عباده.
وقد قال يوسف لمَنْ قال: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36].
أنه سوف ينال العفو ما أظهرته الرؤيا التي قالها، وأما الآخر فسيأكل من رأسه الطير. أي: سيُصلب كما أوحتْ بذلك رموز الرُّؤيا.
ونلحظ أن يوسف عليه السلام قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الاثنين صاحبي الرؤييين.
وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه مُنصبًّا على الحكم؛ لا على المحكوم عليه، فقد سمع يوسف منهما؛ وهو لا يعرف مَنْ سينال البراءة، ومَنْ الذي سوف يُعاقب.
فنزع يوسف ذاته من الأمر، ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه؛ لأن الهوى يُلوِّن الحكم، ولا أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته، ولابد للقاضي لحظة أن يصدر حكماً أن يتجرد تماماً من الهوى والذاتيات.
ويُعلِّمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 21-24].
وكان من ذكر عدد نِعَاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلام لِصفِّه؛ وكان يريد أن يُصوِّر الظلم الذي وقع عليه، وحكم داود بأن مَنْ أخذ النعجة ليضمها لنعاجه هو الذي ظلم؛ وشعر داود أنه لم يُوفَّق في الحكم؛ لأنه ذكر في حيثية الحكم نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه.
فالأخذ وحده كان هو المبرر عند داود لإدانة الذي أراد الاستيلاء على ما ليس من حقه؛ ولذلك اعتبر أن هذا الأمر كله فتنة لم يُوفَّق فيها، واستغفر الله بالركوع والتوبة.
وقد كان يوسف عليه السلام حكيماً حين قال تأويل الرُّؤيا متجرداً من الذاتية، وأنهى التأويل بالقول: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41].
أي: أنه لا مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل؛ فقد جاء التأويل وفقاً لما علَّمه الله له.
وهناك الكثير من الروايات عما تحمَّله يوسف من صعاب قبل الجُبِّ وقبل السجن، وقيل: إن عمته ابنة إسحق، وهي أكبر أولاده؛ قد استقبلته بعد أن ماتت أمه لترعاه فتعلقت به؛ ولم تحب أحداً قَدْر محبتها له.
وتاقت نفس يعقوب إلى ولده؛ فذهب إليها وقال لها: سلِّمي إليَّ يوسف. لكنها قالت: والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، ولن أتركه.
فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها، عمدتْ إلى شيء من ميراث إبراهيم عليه السلام يتوارثه اكبر الأبناء، ووضعته تحت ملابس يوسف.
وكان العُرفُ الجاري أنه إذا سرق أحد شيئاً وتَمَّ ضبطه؛ تحول من حرٍّ إلى عبد، وحين كاد يعقوب أن يخرج مع ابنه يوسف عائداً إلى بيته؛ أعلنت العمة فقدان الشيء الذي أعطاه لها والدها إسحق؛ وفتشوا يوسف فوجدوا الشيء المفقود.
فقالت عمته: والله إنه لَسَلْم أي عبد وكان العرف أن مَنْ يسرق شيئاً يتحول إلى عبد عند صاحب الشيء.
وهكذا بقي يوسف مع عمته محروماً من أبيه لفترة، ولم يستطع الأب استرداده إلا بعد أن ماتت العمَّة.
ثم جاءت حادثة الجُبِّ، ومن بعدها محاولة امرأة العزيز لِغُوايته، ورغم تيقُّن العزيز من براءته إلا أنه أُودِع السجن؛ ويقول الرواة: (إن يوسف عليه السلام قد عُرف في السجن بالجود، والأمانة، وصدق الحديث، وحُسْن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير أي تأويل الرؤيا والإحسان إلى أهل السجن.
ولما دخل هذان الفَتيانِ معه السجن؛ تآلفا به وأحبَّاه حُبّاً شديداً وقالا له: والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال: بارك الله فيكما؛ إنه ما من أحد أحبَّني إلا دخل عليَّ من محبته ضررٌ، أحبتني عمَّتي فدخل الضرر بسببها، وأحبَّني أبي فأوذيتُ بسببه، وأحبَّتني امرأة العزيز فكذلك.
أي: أنه دخل السجن وصار معهما دون ذنب جَنَاه.
قال السجينان: إنا لا نستطيع غير ذلك).
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قاله يوسف لمن ظَنَّ أنه سينجو من السجن: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ...}.