فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (78):

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
وهكذا دخلوا مع يوسف في نقاش، وبدأوا في الاستعطاف؛ بقولهم: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً...} [يوسف: 78].
ونلحظ أن كلمة (كبير) تُطلق إطلاقات متعددة، إنْ أردتَ الكِبَر في السنِّ تكون من (كَبرَ يَكْبَر)، وإنْ أردتَ الكِبَرَ في المقام تقول: (كَبُرَ يَكبُر).
والحق سبحانه يقول: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5].
والكِبَر واحد من معاني العظمة، أما الكِبَرُ في السِّنِّ فهو مختلف؛ وهنا قالوا: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً...} [يوسف: 78].
قد تكون ترقيقاً بالعزة، أو ترقيقاً بالضعف.
أي: إن له أباً شيخاً كبيراً عظيماً في قومه؛ وحين يُبلغه أن ابنه قد احتُجز من أجل سرقة، فهذا أمر مؤلم؛ ولك أن تُقدِّر ذلك وأنت عزيز مصر؛ ونرجو أن تحفظ للأب شرفه ومَجْده وعظمته، واسْتُرْ ذلك الأمر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو: أن يكون قولهم مقصوداً به، أن الأب شيخ مُهدَّم، لا يحتمل الصدمة، وخصوصاً أن له ابناً قد فُقِد.
ثم يعرضون عَرْضاً آخر، فيقولون: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 78].
أي: أنهم سألوه أن يُتمِّمَ إحسانه عليهم، فقد أحسن استقبالهم؛ وسبق أن أنزلهم منزلاً كريماً، وأعطاهم المَيْرة، ولم يأخذ بضائعهم ثمناً لها.
ومَنْ يفعل ذلك؛ لا يضِنُّ عليهم بأن يستجيب لرجائهم، بأن يأخذ واحداً منهم بدلاً من أخيهم الصغير.
كل هذه ترقيقات منهم لقلبه، ولكن القاعدة هي ألاَّ يُؤاخذ بالذنب إلا صاحبه؛ ولذلك لم يَفُتْ هذا الأمر على يوسف، فجاء الحق سبحانه بما يوضح ذلك: {قَالَ مَعَاذَ الله...}.

.تفسير الآية رقم (79):

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
ويستعيذ يوسف عليه السلام بالله أن يأخذ أحداً بدلاً ممَّنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك، فما ذنبه في هذا الأمر؟ ولا أحد يمكن أن ينال عقاباً على ذنب ارتكبه غيره.
وساعةَ تقرأ (إذا) مُنوَّنة؛ فاعرف أن هناك جملةً محذوفةً، أي: أن يوسف قال: إنْ أخذنا غير مَنْ وجدنا متاعنا عنده نكون من الظالمين.
وجاء (التنوين) بدلاً من الجملة المحذوفة التي ذكرناها.
ومثال آخر من القرآن هو قول الحق سبحانه: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84].
ويحدث ذلك حين تبلغ الرُّوح الحلقوم، وجاء (التنوين) عِوَضاً عن الجملة كلها.
وهكذا أراد يوسف أن يُذكِّرهم أنه لا يحِقُّ له أن يأخذ أخاً منهم بدلاً من بنيامين؛ لأنه هو مَنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك؛ ولا يصح له أن يظلم أحداً، أو يأخذ أحداً بجريرة أحد آخر.
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة لا يُبَتُّ فيها بسهولة؛ لأنها تتعلق بأمر خطير.
ويصور الحق سبحانه حالتهم هذه فيقول: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ..}.

.تفسير الآية رقم (80):

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)}
ويقال: (يئس) أي: قطع الأمل من الشيء، وهم لم يقطعوا الأمل فقط، بل استيأسوا، وهو أمر فوق اليأس.
فهم قد أخذوا يُرقِّقون كل ألوان المُرقِّقات؛ ولا فائدة؛ وكلما أوردوا مُرقِّقاً؛ يجدون الباب أمامهم مُوصَداً.
وكأنهم بذلك يُلِحُّون على اليأس أن يأتيهم؛ لأن الظروف المحيطة والجو المحيط لا يحمل أي بارقة أملٍ، وكلما تبدو بارقةُ أملٍ ويطلبونها يجدون الطريق مُوصَداً؛ فكأنهم يطلبون اليأس من أن يأذن يوسف بسفر أخيهم بنيامين معهم في رحلة العودة إلى أبيهم.
وهنا: {خَلَصُواْ نَجِيّاً..} [يوسف: 80].
أي: أنهم انفردوا عنه، وعن أعين الحاضرين؛ العزيز يوسف، ومَنْ حوله من المُعَاونِين له، وأخيهم موضع الخلاف، وانفردوا بأنفسهم.
والانفراد هو المناجاة؛ والمناجاة مَسرَّة؛ والمَسرَّة لا تكون إلا في أمر لا تحب لغيرك أن يطلع عليه.
ونلحظ أن: {خَلَصُواْ...} [يوسف: 80] هي جمع، و: {نَجِيّاً} [يوسف: 80] مفرد، وهذا من ضمن المواقع التي يتساءل فيها مَنْ لا يملكون مَلَكةً عربية: كيف يأتي القرآن بمفرد بعد الجمع؟
ونقول دائماً: لو أنهم امتلكوا اللغة كملَكَة لَعرفوا أن ذلك جائز جداً. ومثال هذا هو قول الحق سبحانه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
وهم لا يفهمون أن اللغة فيها ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، كأن الملائكة يجمعون قوة كل واحد منهم لتكون قوة واحدة.
ومثال آخر: هو قول إبراهيم خليل الرحمن: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 75-77].
أي: أن إبراهيم عليه السلام جمع الآلهة المتعددة التي يعبدونها وجعلها عدواً واحداً له.
وكذلك يمكن أن نفعل مع كلمة (صديق)، وكذلك كلمة (عَدْل) فحين ينظر القضاء في أمر قضية ما؛ فالقاضي لا يُصدِر الحكم وحده؛ بل يُصِدره بعد التشاور مع المُستَشارين؛ ويصدر الحكم من الثلاثة: رئيس المحكمة، وعضو اليمين، وعضو اليسار وكلاهما بدرجة مستشار.
ويُقَال: (حكم القضاة عَدْلاً). ولا يقال: إن كل مستشار أو قاض له عدل.
وكذلك: {نَجِيّاً} [يوسف: 80] في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فهم حين استيأسوا من يوسف انفردوا بأنفسهم ليتناجوا.
وعادة يكون الرأي الأول للأخ الأكبر، الذي عادة ما يكون له من الخبرة والحكمة ما يتيح له أن يُبدِي الرأي الصواب.
وهنا يقول الحق سبحانه: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يوسف: 80].
وقد يكون كبيرهم هو أكبرهم عمراً؛ أو هو رئيس الرحلة، وحين رآهم قد قَبِلوا فكرة العودة دون أخيهم الذي احتجزه عزيز مصر؛ قال لهم رأيه الذي حذرهم فيه أنْ يغفلوا عن أن أباهم قد أخذ منهم موثقاً من الله إلا أنْ يُحَاط بهم؛ كما يجب ألا ينسوا أن لهم سابقة حين أخذوا يوسف وضيَّعوه.
وبناءً على ذلك استقر قراره ألاّ يبرحَ المكان، ولن يعود إلى أبيه إلا إنْ أذِنَ له بذلك؛ أو أن يحكمَ الله له بأن يُسلِّمه عزيزُ مصر أخاه، أو أن يموت هنا في نفس البلد.
وهذا القول في ظاهره دفاع عن النفس؛ وخجل من أن يعود إلى أبيه بدون بنيامين؛ ولذلك ترك أخوته يتحملَّون تلك المواجهة مع الأب.
وتبدو هذه المسألة أكثر قسوة على الأب؛ لأنه فقد في الرحلة الأولى يوسف، وفي الرحلة الثانية يفقد ابنه بنيامين، وكذلك الابن الكبير الذي يرأس الرحلة.
وفي هذا تصعيد للقسوة على الأب، وكان المفروض أن تدور مُدَاولَة بين الأخوة في تلك المُنَاجاة، ولكن الأخ الكبير أو رئيس الرحلة حسم الأمر.
وحين سألوه: ماذا نفعل يا كبيرنا؟ جاء قوله الذي أوردته الآية التالية: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (81):

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}
وهكذا أمر الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة إخوته أن يرجعوا إلى أبيهم، ويقولوا له ما حدث بالضبط، فقد اتُّهم ابنه بالسرقة، ونحن لا نقول هذا الكلام إلا بعد أن وجد فِتيان العزيز صُوَاع الملك في رَحْلِه، ولا نعلم هل دَسَّها أحد له؟ وهل هي حِيلة ومكيدة؟
ونحن لا نقول لك يا أبانا إلا ما وصل إلينا من معلومات، وقد أخذه العزيز طبقاً لشريعتنا، ونحن بخبرتنا بأخينا لا نشهد عليه بالسرقة، إلا أن ثبوتَ وجود صُواع الملك في رَحْله هو السبب في كل ذلك.
ويعلم الأخ الأكبر أن يعقوب عليه السلام قد يُكذِّب أولاده؛ لأن هناك سوابقَ لهم؛ لذلك أوصاهم الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة أن يقولوا لأبيهم إنْ كَذَّبهم ما جاء به الحق على ألسنتهم: {وَسْئَلِ القرية...}.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}
أي: أنك يا أبانا إنْ كنتَ تشك في أقوالنا؛ يمكنك أن تطلب أدلة أخرى من المكان الذي كنا فيه؛ لأن هذا الموضوع قد أحدث ضجَّة وحدث أمام جمع كبير من الناس، والقوافل التي كانت معنا شهدتْ الواقعة؛ فقد أذَّن مُؤذِّن بالحادث، وتَمَّ تفتيش العِير علناً.
فإذا أردتَ أن تتأكد من صدق أقوالنا، فاسأل العِير التي كانت تسير معنا في الطريق، وهم يعرفون هذه القضية كما نعرفها، أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلام أخوة يوسف لأبيهم يعقوب: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا..} [يوسف: 82].
ونحن نعلم أن كل حَدَثٍ من الأحداث لابد له من فاعل، ومن مفعول يقع عليه، ومن مكان يقع فيه، ومن زمان يقع فيه؛ ومن سبب يُوجِبه، ومن قوة تنهض به.
وفي بعض الحالات نجد أن المكان هو الأمر الظاهر والقوي في الحدث، فننسبه إليه، فيُقال: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
والمراد بطبيعة الحال أن يَسأل أهل القرية، أو: أن المسألة كانت واضحة تماماً لدرجة أن الجماد يعرف تفاصيلها، أو: أنك نبيٌّ ويوحي لك الله فَسَلْهُ أن يجعل الأرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير} [يوسف: 82].
ونعلم أن العير هي المَطايا؛ سواء أكانت نِياقاً أو كانت من الجمال أو الحمير أو البِغَال التي تحمل البضائع.
وحين يُقَال: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير...} [يوسف: 82].
أي: أن العير كان لها في الأمر شيء فوق المُلاَبسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر؛ فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقَى العير القادمة من الشام وهي مُحمَّلة بالبضائع؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه الكافرون من أموال المهاجرين التي كانت بمكة، ولم يكن مع هذه العير إلا قليل من الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذين قَدِموا من مكة؛ وصفهم بالنفير، أي: الجماعة الذين نفروا لمواجهة معسكر الإيمان.
إذن: فكل حَدَث يأخذ الأمر البارز فيه.
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقَوْا أباهم، وليس معهم أخوهم بنيامين؛ وكذلك تَخَلُّف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة.
يقول الحق سبحانه: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا...} [يوسف: 82].
ويجوز أن تفتيشهم قد تَمَّ في مكان بعيد قليلاً عن العُمْران؛ وفحص جنود أو مساعدو يوسف أمتعتهم التي عثروا فيها على صواع الملك.
وسُمى المكان (قرية)، مثلما نفعل نحن حالياً حين نخصص مكاناً للجمارك؛ نفحص فيه البضائع الخارجة أو الداخلة إلى البلد، فقولهم: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا...} [يوسف: 82].
أي: اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش.
وكذلك قولهم: {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82].
أي: اسأل مَنْ كانوا معنا، وجِئْنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الأخرى.
وكرر قولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82].
لأنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك؛ لذلك أرادوا هنا أن يُثبتوا صدقهم؛ وحين يسأل أبوهم يعقوب؛ سيجد أنهم صادقون فعلاً، وهم لم يطلبوا شهادة الغير إلا لأنهم واثقون من صدقهم هذه المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة الاسمية: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82].
لأنهم قد فهموا أن والدهم قد شَكَّ فيهم من قبل، حين جاءوا بدم كذبٍ، وادَّعوا أنه قميص يوسف، وأن الذئب قد أكله.
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ...}.