فصل: تفسير الآية رقم (110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (110):

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
وكلمة: {حتى} [يوسف: 110].
تدل على أن هناك غاية، ومادامتْ هناك غاية فلابُدَّ أن بداية ما قد سبقتْها، ونقول: (أكلتُ السمكة حتى رأسها). أي: أن البداية كانت أَكْل السمكة، والنهاية هي رأسها.
والبداية التي تسبق: {استيأس الرسل...} [يوسف: 110].
هي قوله الحق: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ...} [يوسف: 109].
ومادام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم؛ فهم قد ضَمِنوا النصر، ولكن النصر أبطأ؛ فاستيأس الرسل، وكان هذا الإبطاء مقصوداً من الحق سبحانه؛ لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة، فيجب ألا يضطلع بها إلا المُخْتَبر اختباراً دقيقاً.
ولابُدَّ أن يمر الرسول الأُسْوة لمَنْ معه ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة، ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحاً؛ فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة.
وهو الحق سبحانه القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله...} [البقرة: 214].
إذن: لابُدَّ من اختبار يُمحِّص. ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسياً؛ ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ثم نُؤهِّله لِنَيْل شهادة إتمام الدراسة الإعدادية؛ ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ثم يلتحق بالجامعة، ويتم اختباره سنوياً إلى أن يتخرج من الجامعة.
وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه، فهو يبذل المزيد من الجَهْد.
وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما؟
لابُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا؛ سيجد خيراً افضل منه عند الله في الآخرة.
ولقائل أن يقول: وهل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولاً معنى (استيأس)؛ وهناك فرق بين (يأس) و(استيأس)، ف (يأس) تعني قطع الأمل من شيء. و(استيأس) تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل.
أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة، فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول: أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87].
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: {متى نَصْرُ الله...} [البقرة: 214].
فضلاً عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا، والحق سبحانه يقول هنا: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ...} [يوسف: 110].
ومادة (الكاف)، و(الذال) و(الباء) منها (كَذَبَ)، و(كُذِبَ عليه) و(كُذِّب). والكذب هو القول المخالف للواقع، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر؛ فينطق الكلام على عَواهِنه؛ ولا يمرر الكلام على ذهنه؛ ولذلك يقال عنه (مخرف).
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا: إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع.
ومَنْ يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع؛ يقال عنه: إنه مُتعمِّد الكذب، ومَنْ يقول كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوباً إلى مَنْ قاله له؛ فيقول (أخبرني فلان) فلا يُعَدُّ كاذباً.
ولذلك أقول دائماً: يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين، وكذب الخبر؛ وكذب المُخْبر. فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى مَنْ قاله، فموقفه مختلف.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي: (وظنوا أنهم قد كُذبوا) أي: حدَّثهم غيرهم كَذِباً؛ وقراءة ثانية هي: (وظنوا أنهم قد كُذِّبوا) وهي تعني: أنهم قد ظنُّوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر هو كذب.
ولقائل أن يسأل: كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول: إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان؛ يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو مجيء النصر؛ وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه: (لقد كذب علينا)؛ لأن الظن إخبار بالراجح.
ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى معاذ الله قد كَذَبهم وعده، ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن النصر لن يأتي.
أو: أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه، ولا يعرفه أحد، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد.
ويقول سبحانه: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا...} [يوسف: 110].
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء.
وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب...}.

.تفسير الآية رقم (111):

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
ونلحظ أن هذه الآية جاءت في سورة يوسف؛ أي: إنْ أردتَ قصة يوسف وإخوته؛ ففي السورة كل القصة بمَراميها وأهدافها وعِظَتها، أو المهم في كل قصص الأنبياء.
يقول الحق سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [هود: 120].
ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من قَصِّ الأثر؛ وتتبُّعه بلا زيادة أو نقصان.
ويقول الحق سبحانه هنا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب...} [يوسف: 111].
وفي أول السورة قال الحق: {... إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43].
ونعرف أن مادة (العين) و(الباء) و(الراء) تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ.
والعِبْرة في هذه القصة قصة يوسف وكذلك قصص القرآن كلها؛ نأخذ منها عِبْرة من الجَليِّ فيها إلى الخَفيِّ الذي نواجهه؛ فلا نفعل الأمور السيئة؛ ونُقدِم على الأمور الطيبة.
وحين نقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية؛ وحين نبتعد عن العمل السيئ الذي جاء خَبرُه في القصة القرآنية؛ بذلك نكون قد أحسنَّا الفهم عن تلك القصص.
وعلى سبيل المثال: نحن نجد الظالم في القصَص القرآني؛ وفي قصة يوسف تحديداً؛ وهو ينتكس، فيأخذ الواحد مِنَّا العبرة، ويبني حياته على ألاّ يظلم أحداً. وحين يرى الإنسان منا المظلومَ وهو ينتصر؛فهو لا يحزن إنْ تعرَّض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتصر؛ فهو لا يحزن إن تعرض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن الله.
ونحن نقول: (عبر النهر) أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ.
وكذلك قولنا (تعبر الرُّؤْيا) أي: تؤوّلها؛ لأن الرُّؤْيا تأتي رمزية؛ وتعبرها أي: تشرحها وتنقلها من خفيّ إلى جليّ؛ وإيضاح المطلوب منها.
ونَصِفُ الدَّمْعة بأنها (عَبْرة)؛ والحزن المدفون في النفس البشرية تدل عليه الدَّمْعة.
وهنا قال الحق سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب...} [يوسف: 111].
والعِبْرة قد تمرُّ، ولكن لا يلتفت إليها إلا العاقل الذي يُمحِّص الأشياء، أما الذي يمرُّ عليها مُرور الكرام؛ فهو لا يستفيد منها.
و(أولو الألباب) هم أصحاب العقول الراجحة، و(الألباب) جمع (لُبّ). واللب: هو جوهر الشيء المطلوب؛ والقَِشْر موجود لصيانة اللُّبِّ، وسُمِّي العقل (لُبّاً) لأنه ينثرُ القشور بعيداً، ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها.
ويتابع الحق سبحانه: {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ...} [يوسف: 111].
أي: أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْياً عليك ليس حديث كَذبٍ مُتعمَّد؛ بل هو الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه.
ويُقال: (بين يديك) أي: سبقك؛ فإذا كنت تسير في طابور؛ فَمَنْ أمامك يُقال له (بين يديك)، ومَنْ وراءك يُقال له (مَنْ خلفك).
والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه؛ وليست هي التي تُصدِّق عليه؛ لأنه الكتاب المهيمن، والحق سبحانه هو القائل: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...} [المائدة: 48].
ويضيف الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ...} [يوسف: 111].
فالقرآن يُصدِّق الكتب السابقة، ويُفصِّل كل شيء؛ أي: يعطي كل جزئية من الأمر حُكْمها في جزئية مناسبة لها. فهو ليس كلاماً مُجْملاً، بل يجري تفصيل كل حُكْم بما يناسب أيَّ أمر من أمور البشر.
وفي أعرافنا اليومية نقول: (فلان قام بشراء بذلة تفصيل). أي: أن مقاساتها مناسبة له تماماً؛ ومُحْكمة عليه حين يرتديها.
وفي الأمور العقدية نجد والعياذ بالله مَنْ يقول: إنه لا يوجد إله على الإطلاق، ويقابله مَنْ يقول: إن الآلهة مُتعددة؛ لأن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد؛ فهناك إله للسماء، وإله للأرض؛ وإله للنبات؛ وإله للحيوان.
ونقول لهم: كيف يوجد إله يقدر على شيء، ويعجز عن شيء آخر؟
وإنْ قال هؤلاء: (إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها).
نرد عليهم: ليست تلك هي الألوهية أبداً، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
وحين يكون الشركاء مختلفين؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب؛ أما الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف؛ لأنه يأتمر بأمر واحد؛ لذلك يحيا مرتاحاً.
ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
أما مَنْ يقول بأنه لا يوجد إله في الكون، فنقول له: وهل يُعقل أن كل هذا الكون الدقيق المُحْكم بلا صانع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يُفَصّلَ هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في الكون، ونجد القرآن يُفصِّل لنا الأحكام؛ ويُنزِل لكل مسألة حُكْماً مناسباً لها؛ فلا ينتقل حُكْم من مجال إلى آخر.
وكذلك تفصيل الآيات، فهناك المُحْكم والمُتَشابه؛ والمَثَل هو قول الحق سبحانه. {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات...} [آل عمران: 114].
ويقول في موقع آخر: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ...} [آل عمران: 133].
جاء مرة بقول (إلى)، ومرة بقول (في)؛ لأن كلاً منها مناسبة ومُفصَّلة حَسْب موقعها.
فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها، وهي الغاية التي سيصل إليها، أما مَنْ يسارع في الخيرات؛ فهو يحيا في الخير الآن، ونطلب منه أن يزيد في الخير.
وأيضاً نجد قوله الحق: {... واصبر على ما أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].
ونجد قوله الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
وواحدة منهما وردتْ في المصائب التي لها غَرِيم، والأخرى قد وردتْ في المصائب التي لا غريم فيها؛ مثل المرض حيث لا غَرِيم ولا خُصومة.
أما إذا ضربني أحد؛ أو اعتدى على أحد أبنائي؛ فهو غريمي وتوجد خصومة؛ فوجوده أمامي يَهِيج الشر في نفسي؛ وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية، وهذا هو تفصيل الكتاب.
والحق سبحانه يقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ...} [فصلت: 3].
أي: أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلتْ في مناسبته.
ومثال هذا هو قوله سبحانه: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم...} [الإسراء: 31].
وقوله الحق: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...} [الأنعام: 151].
وكل آية تناسب موقعها، ومعناها مُتَّسق في داخلها، وتَمَّ تفصيلها بما يناسب ما جاءت له، فقوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ...} [الأنعام: 151].
يعني أن الفقر موجود، والإنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه.
أما قوله: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ...} [الإسراء: 31].
أي: أن الفقر غير موجود، وهناك خَوْف أن يأتي إلى الإنسان؛ وهو خوف من أمر لم يَطْرأ بعد.
وهكذا نجد في القرآن تفصيلاً لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم، وهو تفصيل لكل شيء ليس عندك؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ...} [النمل: 23].
وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا، بل هي قد أُوتيَت من كل شيء تملكه، أو يُمكِن أن تملكه في الدنيا.
وقول الحق سبحانه: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ...} [يوسف: 111].
لا يعني أن نسأل مثلاً: (كم رغيفاً في كيلة القمح؟).
وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال؛ فجاء بخباز، وسأله هذا السؤال؛ فأجاب الخباز؛ فقال السائل: ولكنك لم تَأْتِ بالإجابة من القرآن؟ فقال الإمام محمد عبده: لماذا لا تذكر قوله الحق: {... فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه.
والقسم الثاني: علاج لمَنْ وقع في المعصية.
وإليك المثال: هَبْ أن أُناساً يعلمون الشر؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه؛ لأنه مرض، وهو رحمة بمعنى ألاَّ يقعوا في المرض بداية.
إذن: فهناك ملاحظتان يشيران إلى القسمين:
الملاحظة الأولى: أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمن لم يقع في المعصية.
والملاحظة الثانية: أن المنهج يتضمن العلاج لِمَنْ وقع في المعصية.
ويُحدِّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً، فيقول: {... وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
أي: هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون، ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم، ومن المنطقيِّ أن يسمع المؤمن كلامه ويُنفذه؛ لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود إليه في كل ما يصون حياتك، فإنْ كنت مؤمناً بالله؛ فُخُذ الهدى، وخُذ الرحمة.
ونسأل الله أن نُعطَي هذا كله.