فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (7):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
ونحن نعلم أن (لولا) إنْ دخلت على جملة اسمية تكون حرف امتناع لوجود؛ مثل قولك (لولا زيد عندك لَزُرْتك)، أي: أن الذي يمنعك من زيارة فلان هو وجود زيد.
ولو دخلتْ (لولا) على جملة فعلية؛ فالناطق بها يحب أنْ يحدث ما بعدها؛ مثل قولك (لولا عطفتَ على فلان) أو (لولا صفحتَ عن ولدك)، أي: أن في ذلك حَضّاً على أنْ يحدث ما بعدها.
وظاهر كلام الكفار في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنهم يطلبون آية لتأييد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البيان الذي يحمله من الحق لهم، وكأنهم بهذا القول يُنكِرون المعجزة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم وهي القرآن الكريم، رغم أنهم أمةَ بلاغة وأدب وبيان، وأداء لُغوي رائع؛ وأقاموا أسواقاً للأدب، وخصصوا الجوائز للنبوغ الأدبي؛ وعلَّقوا القصائد على جدران الكعبة، وتفاخرت القبائل بمَنْ أنجبتهم من الشعراء ورجال الخطابة.
فلما نزل القرآن من جنس نبوغكم؛ وتفوَّق على بلاغتكم؛ ولم تستطيعوا أن تأتوا بآية مثل آياته؛ كيف لم تعتبروه معجزة؛ وتطالبون بمعجزة أخرى كمعجزة موسى عليه السلام؛ أو كمعجزة عيسى عليه السلام؟
لقد كان عليكم أن تفخروا بالمعجزة الكاملة التي تحمل المنهج إلى قيام الساعة.
ولكن الحُمْق جعلهم يطلبون معجزة غير القرآن، ولم يلتفتوا إلى المعجزات الأخرى التي صاحبتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يلتفتوا إلى أن الماء قد نبع من أصابعه صلى الله عليه وسلم؛ والطعام القليل أشبع القوم وفاض منه، والغمامة قد ظللته، وجذع النخلة قد أَنَّ بصوت مسموع عندما نقل رسول الله منبره؛ بعد أنْ كان صلى الله عليه وسلم يخطب من فوق الجذع.
وقد يكونون أصحاب عُذْر في ذلك؛ لأنهم لم يَرَوا تلك المعجزات الحِسِّية؛ بحكم أنهم كافرون؛ واقتصرت رُؤْياهم على مَنْ آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُحرم من المعجزات الكونية؛ تلك التي تحدث مرة واحدة وتنتهي؛ وهي حُجَّة على مَنْ يراها؛ وقد جاءتْ لتثبت إيمان القِلَّة المضطهدة؛ فحين يروْنَ الماء مُتفجِراً بين أصابعه، وَهُمْ مَزلْزلون بالاضطهاد؛ هنا يزداد تمسُّكهم بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الكافرين لم يَرَوْا تلك المعجزات. وكان عليهم الاكتفاء بالمعجزة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القرآن كافيني».
والقرآن معجزة من جنس ما نبغتُم فيه أيها العرب، ومحمّد رسول من أنفسكم، لم يَأْتِ من قبيلة غير قبيلتكم، ولسانه من لسانكم، وتعلمون أنه لم يجلس إلى معلم؛ ولا عِلُمِ عنه أنه خطب فيكم من قبل، ولم يَقْرِض الشعر، ولم يُعرف عنه أنه خطيب من خطباء العرب.
ولذلك جاء الحق سبحانه بالقول على لسانه: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
أي: أنني عِشْتُ بينكم ولم أتكلَّم بالبلاغة؛ ولم أنافس في أسواق الشِّعْرِ؛ وكان يجب أن تؤمنوا أنه قول من لَدُنْ حكيم عليم.
ولكن منهم مَنْ قال: (لقد كان يكتم موهبته وقام بتأجيلها).
وهؤلاء نقول لهم: هل يمكن أن يعيش طفل يتيم الأب وهو في بطن أمه؛ ثم يتيم الأم وهو صغير، ويموت جَدّه وهو أيضاً صغير، ورأى تساقط الكبار من حوله بلا نظام في التساقط؛ فقد ماتوا دون مرض أو سبب ظاهر؛ أكان مثل هذا الإنسان يأمنُ على نفسه أن يعيش إلى عمر الأربعين ليعلن عن موهبته؟
ثم من قال: إن العبقرية تنتظر إلى الأربعين لتظهر؟ وكلنا يعلم أن العبقريات تظهر في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث.
ورغم عدم اعترافكم بمعجزة القرآن؛ هاهو الحق سبحانه يُجري على ألسنتكم ما أخفيتموه في قلوبكم؛ ويُظهره الناس في مُحكم كتابه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وهكذا اعترفتُم بعظمة القرآن؛ وحاولتُم أن تغالطوا في قيمة المنزل عليه القرآن.
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ...} [الرعد: 7].
فلماذا إذنْ قُلْتم واعترفتم أنَّ له رباً؟ أمَا كان يجب أن تعترفوا برسالته وتُعلنون إيمانكم به وبالرسالة، وقد سبق أنْ قالوا: إن ربَّ محمد قد قَلاَه.
وهذا القول يعني أنهم اعترفوا بأن له رباً؛ فلماذا اعترفوا به في الهَجْر وأنكروه في الوَصْل.
وإذا كانوا يطلبون منك معجزة غير القرآن فاعلم يا محمد أن ربك هو الذي يرسل المعجزات؛ وهو الذي يُحدِّد المعجزة بكل رسول حسب ما نبغ فيه القوم المُرْسَل إليهم الرسول، وأنت يا محمد مُنْذر فقط؛ أي مُحذِّر: {... إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].
فكل قوم لهم هَادٍ، يهديهم بالآيات التي تناسب القوم؛ فبنو إسرائيل كانوا مُتفوِّقين في السحر؛ لذلك جاءت معجزة موسى من لَوْنِ ما نبغوا فيه؛ وقوم عيسى كانوا مُتفوقين في الطب؛ لذلك كانت معجزة عيسى من نوع ما نبغوا فيه.
وهكذا نرى أن لكل قوم هادياً، ومعه معجزة تناسب قومه؛ ولذلك رَدَّّ الله عليهم الرد المُفْحم حين قالوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ...} [الإسراء: 90-93].
فيقول الحق سبحانه: {... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 93-95].
ويأتي الرد من الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون...} [الإسراء: 59].
أي: أن قوماً قبلكم طلبوا ما أرادوا من الآيات؛ وأرسلها لهم الله؛ ومع ذلك كفروا؛ لأن الكفر يخلع ثوب العِنَاد على الكافر؛ لأن الكافر مُصَمِّم على الكفر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ...}.

.تفسير الآية رقم (8):

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}
وما المناسبة التي يقول فيها الحق ذلك؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يؤكد مسألة أن لكل قوم هادياً، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو منذر، وأن طلبهم للآيات المعجزة هو ابنٌ لرغبتهم في تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولو جاء لهم الرسول بآية مما طلبوا لأصرُّوا على الكفر، فهو سبحانه العَالِم بما سوف يفعلون، لأنه يعلم ما هو أخفى من ذلك؛ يعلم على سبيل المثال ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.
ونحن نعلم أن كُلَّ أنثى حين يشاء الله لها أن تحبل؛ فهي تحمل الجنين في رحمها؛ لأن الرحم هو مُسْتقرُّ الجنين في بطن الأم.
وقوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ...} [الرعد: 8].
أي: ما تُنقص وما تُذهب من السَّقْط في أي إجهاض، أو ما ينقص من المواليد بالموت؛ فغاضت الأرحام، أي: نزلتْ المواليد قبل أن تكتمل خِلْقتها؛ كأن ينقص المولود عيناً أو إصبعاً؛ أو تحمل الخِلْقة زيادة تختلف عما نألفه من الخَلْق الطبيعي؛ كأن يزيد إصبع أو أن يكون برأسين.
أو أن تكون الزيادة في العدد؛ أي: أن تلد المرأة تَوْأماً أو أكثر، أو أن تكون الزيادة متعلقة بزمن الحَمْل.
وهكذا نعلم أنه سبحانه يعلم ما تغيض الأرحام. أي: ما تنقصه في التكوين العادي أو تزيده، أو يكون النظر إلى الزمن؛ كأن يحدث إجهاض للجنين وعمره يوم أو شهر أو شهران، ثم إلى ستة أشهر؛ وعند ذلك لا يقال إجهاض؛ بل يقال ولادة.
وهناك مَنْ يولد بعد ستة شهور من الحمل أو بعد سبعة شهور أو ثمانية شهور؛ وقد يمتد الميلاد لسنتين عند أبي حنيفة؛ وإلى أربع سنوات عند الشافعي؛ أو لخمس سنين عند الإمام مالك، ذلك أن مدة الحمل قد تنقص أو تزيد.
ويُقال: إن الضحاك وُلِد لسنتين في بطن أمه، وهرم بن حيان وُلِد لأربع سنين؛ وظل أهل أمه يلاحظون كِبَر بطنها؛ واختفاء الطَّمْث الشهري طوال تلك المدة؛ ثم ولدتْ صاحبنا؛ ولذلك سموه (هرم) أي: شاب وهو في بطنها.
وهكذا نفهم معنى (تغيض) نَقْصاً أو زيادة؛ سواء في الخِلْقة أو للمدة الزمنية.
ويقول الحق سبحانه: {... وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8].
والمقدار هو الكمية أو الكيف؛ زماناً أو مكاناً، أو مواهب ومؤهلات.
وقد عَدَّد الحق سبحانه مفاتيح الغيب الخمس حين قال: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام...} [لقمان: 34].
وقد حاول البعض أن يقيموا إشكالاً هنا، ونسبوه إلى الحضارة والتقدم العلمي، وهذا التقدم يتطرق إليه الاحتمال، وكل شيء يتطرق إليه الاحتمال يبطل به الاستدلال، وذلك بمعرفة نوعية الجنين قبل الميلاد، أهو ذكر أم أنثى؟ وتناسَوْا أن العلم لم يعرف أهو طويل أم قصير؟ ذكي أم غبي؟ شقي أم سعيد؟ وهذا ما أعجز الأطباء والباحثين إلى اليوم وما بعد اليوم.
ثم إنْ سألتَ كيف عرف الطبيب ذلك؟
إنه يعرف هذا الأمر من بعد أن يحدث الحَمْل؛ ويأخذ عينة من السائل المحيط بالجنين، ثم يقوم بتحليلها، لكن الله يعلم دون أخذ عينة، وهو سبحانه الذي قال لواحد من عباده: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى...} [مريم: 7].
وهكذا نعلم أن عِلْم الله لا ينتظر عيِّنة أو تجربة، فعِلْمه سبحانه أزليّ؛ منزه عن القصور، وهو يعلم ما في الأرحام على أي شكل هو أو لون أو جنس أو ذكاء أو سعادة أو شقاء أو عدد.
وشاء سبحانه أن يجلي طلاقة قدرته في أنْ تحمل امرأة زكريا عليه السلام في يحيى عليه السلام، وهو الذي خلق آدم بلا أب أو أم؛ ثم خلق حواء من أب دون أم؛ وخلق عيسى من أم دون أب، وخلقنا كلنا من أب وأم، وحين تشاء طلاقة القدرة؛ يقول سبحانه: {... كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
والمثل كما قلت هو في دخول زكريا المحرابَ على مريم عليها السلام؛ فوجد عندها رزقاً؛ فسألها: {أنى لَكِ هذا...} [آل عمران: 37].
قالت: {... هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
وكان زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؛ ولكن هذا العلم كان في حاشية شعوره؛ واستدعاه قول مريم إلى بُؤْرة الشعور، فزكريا يعلم عِلْم اليقين أن الله هو وحده مَنْ يرزق بغير حساب.
وما أنْ يأتي هذا القول مُحرِّكاً لتلك الحقيقة الإيمانية من حافة الشعور إلى بُؤْرة الشعور؛ حتى يدعو زكريا ربه في نفس المكان ليرزقه بالولد؛ فيبشره الحق بالولد.
وحين يتذكر زكريا أنه قد بلغ من الكبر عتياً، وأن امرأته عاقر؛ فيُذكِّره الحق سبحانه بأن عطاء الولد أمر هَيِّن عليه سبحانه: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9].
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {عَالِمُ الغيب والشهادة...}.

.تفسير الآية رقم (9):

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}
ومَنْ كُلُّ شيء عنده بمقدار؛ لا يغيب عنه شيء أبداً، وما يحدث لأيِّ إنسان في المستقبل بعد أن يُولَد هو غيب؛ لكن المُطَّلع عليه وحده هو الله.
وكأن هناك (نموذجاً) مُصَغَّراً يعلمه الله أولاً؛ وإن اطلع عليه الإنسان في أواخر العمر؛ لوجده مطابقاً لِمَا أراده وعلمه الله أولاً؛ فلا شيء يتأبَّى عليه سبحانه؛ فكُلُّ شيء عنده بمقدار.
وهو عالم الغيب والشهادة؛ يعلمُ ما خَفِي من حجاب الماضي أو المستقبل، وكُلّ ما غاب عن الإنسان، ويعلم من باب أَوْلَى المشهودَ من الإنسان، فلم يقتصر علمه على الغيب، وترك المشهود بغير علم منه؛ لا بل هو يعلم الغيب ويعلم المشهود: {عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 9].
والكبير اسم من أسماء الله الحسنى؛ وهناك مَنْ تساءل: ولماذا لا يوجد (الأكبر) ضمن أسماء الله الحسنى؛ ويوجد فقط قولنا (الله اكبر) في شعائر الصلاة؟
وأقول: لأن مقابل الكبير الصغير، وكل شيء بالنسبة لمُوجِده هو صغير. ونحن نقول في أذان الصلاة (الله اكبر)؛ لأنه يُخرِجك من عملك الذي أوكله إليك، وهو عمارة الكون؛ لتستعين به خلال عبادتك له وتطبيق منهجه، فيمدُّك بالقوة التي تمارس بها إنتاج ما تحتاجه في حياتك من مأكل، ومَلْبس، وسَتْر عورة.
إذن: فكلُّ الأعمال مطلوبة حتى لإقامة العبادة، فإياك أن تقول: إن الله كبير والباقي صغير، لأن الباقي فيه من الأمور ما هو كبير من منظور أنها نعم من المنعم الأكبر؛ ولكن الله أكبرُ مِنَّا؛ ونقولها حين يُطلَب منا أن نخرج من أعمالنا لنستعين بعبادته سبحانه.
ونعلم أن العمل مطلوب لعمارة الكون، ومطلوب حتى لإقامة العبادة، ولن توجد لك قوة لتعبد ربك لو لم يُقوِّك ربُّك على عبادته؛ فهو الذي يستبقي لك قُوتَك بالطعام والشراب، ولن تطعم أو تشرب؛ لو لم تحرُثْ وتبذر وتصنع، وكل ذلك يتيح لك قوة لِتُصلي وتُزكي وتحُج؛ وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وسبق أنْ قُلت: إن الحق سبحانه حينما نادانا لصلاة الجمعة قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
وهكذا يُخرِجنا الحق سبحانه من أعمالنا إلى الصلاة الموقوتة؛ ثم يأتي قول الحق سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وهكذا أخرجنا سبحانه من العمل، وهو أمر كبير إلى ما هو أكبر؛ وهو أداء الصلاة.
وقول الحق سبحانه في وصف نفسه(المتعال) يعني أنه المُنزَّه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً؛ فلا ذات كذاته؛ ولا صفة كصفاته، ولا فعل كفعله، وكل ما له سبحانه يليق به وحده، ولا يتشابه أبداً مع غيره.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول...}.