فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (16):

{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)}
أي: من خلف الجبار المُتعنِّت بالكفر جهنمُ، وما فيها من عذاب. وفي العامية نسمع مَنْ يتوعد آخر ويقول له (وراك... وراك) ويعني بذلك أنه سيُوقع به أذىً لم يَأتِ أوانه بَعْد.
وكلمة (وراء) في اللغة لها استخدامات متعددة؛ فمرَّة تأتي بمعنى (بَعْد) والمثل في قوله تعالى عن امرأة إبراهيم عليه السلام: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].
أي: جاء يعقوب من بعد إسحق.
ومرّة تُطلق (وراء) بمعنى (غير) مثل قول الحق سبحانه: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون} [المؤمنون: 5-7].
وهنا يقول الحق سبحانه: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ...} [إبراهيم: 16].
ونعلم أن جهنم ستأتي مستقبلاً، أي: أنها أمامه، ولكنها تنتظره؛ وتلاحقه.
ويتابع الحق سبحانه: {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16].
والصديد هو الماء الرقيق الذي يخرج من الجُرْح، وهو القَيْح الذي يسيل من أجساد أهل النار حين تُشْوى جلودهم.
ولنا أن نتصورَ حجم الألم حين يحتاج أحدهم أن يشرب؛ فيُقدَّم له الصديد الناتج من حَرْق جلده وجُلُود أمثاله. والصديد أمر يُتأفَّفُ من رؤيته؛ فما باَلُنا وهو يشربه، والعياذ بالله.
ويقول الحق سبحانه متابعاً لِمَا ينتظر الواحد من هؤلاء حين يشرب الصديد: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ...}.

.تفسير الآية رقم (17):

{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
ويتجرعه أي: يأخذه جَرْعة جَرْعة، ومن فرط مرارته لا تكون له سيولة تُستسَاغ؛ فيكاد يقف في الحَلْق؛ والإنسان لا يأخذ الشيء جَرْعة جَرْعة إلا إذا كان لا يقدر على استمرار الجرعة؛ ولكن هذا المشروب من الصديد لا يكاد يستسيغه مَنْ يتجرعه. ويقال: استساغ الشيء. أي: ابتلعه بسهولة.
وقوله سبحانه: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ...} [إبراهيم: 17].
أي: لا يكاد يبلعه بسهولة فطعْمُه وشكله غير مقبولين.
ويتابع سبحانه: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ...} [إبراهيم: 17].
أي: ينظر حوله فيجد الموت يحيط به من كل اتجاه، لكنه لا يموت، ويُفاجأ بأن العذاب يحيط به من كل اتجاه مُصدِّقاً لقول الحق سبحانه: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17].
هكذا يتعذب الجبار المتعنت في أمر الإيمان. وإذا قِسْنَا العذاب الغليظ بأهونِ عذاب يلقَاهُ إنسان من النار لوجدنا أنه عَذابٌ فوق الاحتمال؛ فها هو صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لَرجلٌ يُوضعَ في أخْمَص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».
فمَا بالُنَا بالعذاب الغليظ، وقانا الله وإياكم شرَّه؟
ويقول سبحانه من بعد ذلك قضية كونية: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (18):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}
وقد يأتي في أذهان البعض ما يُشوِّه عقائد الإيمان، فيقول: كيف يدخل فلانُ النار وهو مَنْ أهدى البشريةَ تلك المخترعات الهائلة التي غيَّرت مسارات الحضارة، وأسعدتْ الناس؟ كيف يُعذِّب الله هؤلاء الذين بذلوا الجهد ليطوروا من العلوم والفنون، أيعذبهم لمجرد أنهم كفار؟
وأقول: نعم، يعذبهم الله على الرغم من أنه سبحانه لا يضيع عنده أَجْرُ مَنْ أحسنَ عملاً؛ وهو قادر على أنْ يَجزيهم في الدنيا بما ينالونه من مجد وشهرة وثروة؛ وهم قد عملوا من أجل ذلك. وانطبق عليه قوله: (عملتَ لِيُقال وقد قِيل) وأخذوا أجورهم مما عَمِلوا لهم؛ ذلك أنهم عملوا ولم يكُنْ في بالهم الله.
وهكذا يصور القرآن مسألة الجزاء، فالواحد من هؤلاء الكفار إذا كان يَلْقى العذاب الغليظ على الكفر؛ فالحق لا يغمطه أجر ما فعل من خير؛ فينال ذلك في الدنيا ويستمتع بإطلاق اسمه على اختراعه أو اكتشافه.
ونعلم جميعاً قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» أما في الآخرة فالعذاب جزاؤه؛ لأنه عاش كافراً بالله.
وهذه الأعمال التي صنعوها في الدنيا، وظنُّوا أنها أعمالٌ إنسانية وأعمال بِرٍّ تأتي يوم القيامة وهي رماد تهبُّ عليه الريح الشديدة في يوم عاصف لتذره بعيداً: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18].
ولن تكون لديهم عندئذ فرصة لاستئناف الحياة ليستفيدوا من التجربة؛ بل أمامهم وحولهم العذاب؛ لسان حال كل منهم يقول: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً...} [المؤمنون: 99- 100].
لكنه لو رُدَّ إلى الحياة لَعَاد إلى ما نُهِي عنه، مِصْداقاً لقول الحق سبحانه: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36].
وهذا الكفر هو الضلال البعيد الذي جعل كل أعمالهم التي ظنُّوا أنها صالحة؛ مجردَ أعمال مُحْبطة؛ فضلُّوا بالكفر عن الطريق المُوصِّل إلى خير الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله...}.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}
وسبحانه يُعلمنا هنا أنه خلق السماوات والأرض بميزان الحقِّ؛ فلا تأتي السماء وتنطبق على الأرض، فسبحانه القائل: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ...} [الحج: 65].
وأنت كلما سِرْتَ وجدتَ الشمس من فوقك، وهي مرفوعة بنظام هندسيّ دقيق.
وهكذا أراد الحق سبحانه أن يُؤكِّد قضية كونية مُحسَّة مشهودة؛ وبدأ بقوله: {أَلَمْ تَرَ...} [إبراهيم: 19].
رغم أنه لا يوجد مع العَيْن أيْن؛ ذلك أن الشمس واضحة أمام كُلِّ البشر، وهكذا نجد أن معنى {أَلَمْ تَرَ} هنا تكون بمعنى (ألم تعلم).
وجاء سبحانه ب {أَلَمْ تَرَ} هنا ليدلّنا على أن ما يُعلمنا الله به من حَقٍّ أصدق مما تُعلِمنا به العين؛ فإذَا قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} فاعلم أنه علم موثوق به.
وحين يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى رؤية السماوات والأرض؛ فكان لابد لنا أن نعلم أنها لم تَكُنْ لِتُوجَد إلا بخَلْق الله لها؛ وهو الذي أخبرنا أنها من خَلْقه؛ ولم يدّعَها أحدٌ لنفسه؛ وبذلك تثبت له قضية خَلْقها إلى أنْ يقولَ آخر أنه خلقها؛ ولم يَقُلْ لنا أحدٌ ذلك أبداً.
وسبق أن قال سبحانه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس...} [غافر: 57].
والبشر كما نعلم لا يعيش فرد منهم مِثْلما تعيش السماء؛ فالفرد يموت ويُولَد غيره؛ وكُلُّ البشر يأتون ويذهبون، والشمس باقية، وكذلك الأرض.
ومن عجيب الخَلْق الرحماني أن الله خلق كُلّ ذلك تسخيراً لأمر الإنسان؛ فلا يشذّ كائن من تلك المُسخرات عن أمر الإنسان. وما طُلِب منك أيُّها الإنسان تكليفاً مُخيَّر فيه إنْ شئتَ آمنت، وإنْ شئْتَ كَفرتَ؛ وإنْ شئتَ أطعتَ، وإن شئتَ عصيتَ.
ولكن المخلوق المُسخَّر لخدمتك ليست له هذه المشيئة. وهو سبحانه الحق القائل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
وقد أعلمنا هذا القولُ الكريم بأن الرحمانية سبقتْ لنا نحن البشر من قبل خَلْقنا، وأقدمتنا رحمانية الله على وجود مُهيَّأ لنا.
ومن العجيب أن الكونَ المخلوق لنا استبقاءً لحياتنا واستبقاءً لنوعنا يتركز في أشياء لا دَخْل لنا فيها، ولا تتغير أبداً؛ وهي الأشياء العليا كالشمس والقمر والأرض.
وهناك أشياء أخرى يكون التغيير فيها على نوعين: قسم يتغير ويأتي بدلاً منه شيء جديد، كالنبات الذي يذهب ويصير حصيداً، وكذلك الحيوانات التي نأكلها أو التي تموت.
وهناك خَلْق يتغير مع إبقاء عناصره، وإنْ تغيّرتْ مادته، كالجمادات التي نراها- الجبال والأرض وعناصرها- ونكتشف منها كُلَّ يوم جديداً.
إذن: فالمخلوقات التي استقبلتْ الوجود الإنساني نوعان: نوع لا دَخْل للأغيار فيها؛ ونوع آخر فيه دَخْل للأغيار مع بقاء مادتها وهي الجمادات؛ ونوع تتغير أنواعه وأجناسه.
كُلُّ هذه الأشياء تدلُّنا على أن الحقَّ سبحانه وتعالى له صِفَتان.
صفة القدرة والقهر؛ وهو سبحانه يقهر ما يشاء على ما يشاء؛ ولا يتغير.
وصفة الاختيار التي أوجدها في الإنسان.
وأثبتت صفة القدرة التي سخَّر بها سبحانه الأشياء لخدمة الإنسان مُطْلق سلطانه سبحانه على كُلِّ ما خلق؛ فلا شيءَ يخرج عن مراده أبداً.
وأراد سبحانه بصفة الاختيار التي وهبها للإنسان أنْ يأتيه عبده الإنسان محباً متبعاً لتكاليفه الإيمانية، فالذي يطيع الله وهو قادر على أنْ يعصيه إنما يدلُّ بذلك على أنه مُحِبٌّ لله؛ ويُثبِت له صفة المحبوبية.
وهنا يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق...} [إبراهيم: 19].
ولنا أن نلحظ أن كلمة (بالحق) وردتْ في مواقع كثيرة من القرآن الكريم.
وعلى سبيل المثال، نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق...} [الحجر: 85].
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38].
وهذا يدل على أن السماوات والأرض مخلوقة على هيئة ثابتة، وقد جعل ذلك مدارسَ الفلسفة تستقبل تلك القضية استقبالين؛ استقبالَ مَنْ يريد أنْ يؤمن؛ واستقبال مَنْ يريد أنْ يكفرَ. وانقسم مَنْ أرادوا الكفر إلى فريقين.
الفريق الأول: أخذ من ثبات قوانين الشمس والقمر والأرض دليلاً على أنه لايوجد خالق لهذا الكون، وقالوا: لو أن هناك خالقاً له لغيّر من هيئة السماوات والأرض، ولكن كُل من تلك الكواكب تدير نفسها بآلية ذاتية مُحْكمة.
والفريق الثاني مِمَّن أرادوا الكفر قال: إن الشذوذ في الكون ووجود خَلَل وعيوب خَلقية في بعض من المخلوقات والأنواع؛ دليلٌ على أنه لا يوجد إله. فكيف يخلق إلهٌ مخلوقاً أعمى؛ وآخر أعرجَ؛ وثالثاً بعين واحدة؟
وهكذا أخذ هذا الفريق من أهل الكفر وجود الشذوذ في الكون كدليل على عدم وجود إله.
ومن العجيب أن الفريق الذي أراد التغيير في هيئة السماوات والأرض؛ أراد ذلك كدليل على وجود خالق، والفريق الذي رأى أن هناك شذوذاً في بعض المخلوقات أخذ ثبات الخَلْق على هيئة واحدة كدليل على وجود إله.
كل ذلك يدُّلنا على أن الفريقين قد أخذاَ من قضيتين متعارضتين دليلاً على الكفر، ولم يتفق الفريقان على قضية واحدة، وهذا يوضح التناقض بينهما.
ولو أمعن كل من الفريقين النظر لَعلم كلٌّ منهما أن الإيمان ضرورة أساسية لِفهْم هذا الكون على ثباتَ ما فيه؛ وعلى وجود بعضٍ من الشذوذ فيَه.
فأنت يا مَنْ تنتظر ثباتاً في الأكوان خُذْ ثبات آلية الحركة في السماوات والأرض والشمس والقمر دليلاً على الإيمان بوجود خالق إله قادر.
وأنت يا مَنْ تأخذ التغيُّر في الخلق دليلاً على وجود خالق؛ فها أنت ترى اختلاف بعض المخلوقات ما يجعلك تعثر على عدم التماثل في المخلوقات دليلاً على وجود إله خالق له طلاقة القدرة.
وأوضح الحق سبحانه لنا أنه لم يخلق السماوات والأرض لعبة؛ بل خلقهما بالحق، وهناك فارق بين اللعبة والحق، فاللعبة قد يتوصل إليها مَنْ يعبث بشيء؛ فتخرج له صُدْفة يستخدمها هو أو غيره كَلُعبة.
يقول الحق: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3].
أما الخلق بالحق؛ فهذا يعني أن مَنْ يخلقها إنما يفعل ذلك بموازين دقيقة مُحْكمة؛ ويصنعها على نظام ثابت له قضية تحكمه من الحكمة والحق.
وما دام الكون الأعلى ثابتاً؛ فإن الحق سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض، وما دُمْتَ تريد ثباتاً في حركتك الاختيارية؛ فخُذ المنهج الذي أنزله الله بالحق؛ فتثبت قضاياك كما ثبتت القضايا العليا؛ وأنت حين تخرج عن منهج الحق تجد فساداً.
وإذا أردتَ ألاَّ يوجد فساد في المجتمع من أيّ لَوْنٍ فابحث عن حكم الله الذي ضَيّعه الإنسان في مخالفة منهجه تجد أن ضياعه هو السبب في وجود الفساد؛ واقرأ قوله الحق في سورة الرحمن: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 1-9].
وهكذا أنت ترى الشمس- على سبيل المثال- منضبطة في شروقها وغروبها وكُسُوفها؛ وكذلك القمر في سُطوعه أو مَحاقه أو خسوفه.
وكما رفع الحق سبحانه السماء ووضع الميزان؛ فعليكم أنْ تَزِنوا كُلَّ أمر بالميزان الصحيح لتنصلح أموركم، فإن اعتدال الموازين المادية والمعنوية والقيمية هي استقرار لحركة الحياة.
أما إنْ ظللتُم على العِوَج فاعلموا أنه سبحانه قادر على أن يُذهِبكم وأن يأتي بخَلْق جديد: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19].
إن منطوق الآن ومفهومها ليس مراده سبحانه؛ لأن الله خلق الخَلْق، ووهبهم الاختيار لِيُقبِل الخلق على الله، رغم أنه سبحانه قد ملّكهم ألاَّ يُقبِلوا عليه.
وفي موقع آخر يقول سبحانه: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].
ويقول في قضية إنكار اليهود لطريقة ميلاد المسيح عيسى بن مريم: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 57-60].
إذن: فطلاقة قدرة الله التي خلقته بلا أبٍ، يمكن أن تفعل تلك القدرة المطلقة ما تشاء، فلا شيء يتأبَّى على مرادات الحق ولا على قدراته.
ويقول في موقع آخر: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 40-41].
فلا أحد يسبق إرادة الله أو مشيئته.
ويقول الحق سبحانه مؤكداً أن قدرته على المجيء بخلق جديد ليست مسألة مستحيلة: {وَمَا ذلك...}.