فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (51):

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}
وكلمة(ضيف) تدلُّ على المائل لغيره لقِرَىً أو استئناس، ويُسمونه (المُنْضوي) لأنه ينضوي إلى غيره لطلب القِرَى، ولطلب الأمن. ومن معاني المُنْضوي أنه مالَ ناحية الضَّوْء.
وكان الكرماء من العرب من أهل السماحة؛ لا تقتصر سماحتهم على مَنْ يطرقون بابهم، ولكنهم يُعلِنون عن أنفسهم بالنار ليراها مَنْ يسير في الطريق ليهتدي إليهم.
وكلنا قرأنا ما قال حاتم الطائي للعبد الذي يخدمه:
أَوْقِد النارَ فإنَّ الليْلَ لَيْل قُرّ ** والريحُ يَا غُلامُ ريحُ صِرّ

إنْ جلبت لنَا ضَيْفاً فأنت حُر

وهكذا نعرف أصلَ كلمة انضوى. أي: تَبِع الضوء.
وكلمة(ضيف) لفظ مُفْرد يُطلَق على المفرد والمُثنَّى والجمع، إناثاً أو ذكوراً، فيُقال: جاءني ضيف فأكرمته، ويقال: جاءني ضيف فأكرمتها، ويقال: جاءني ضيف فأكرمتهما، وجاءني ضيف فأكرمتهم، وجاءني ضيف فأكرمتهُنَّ.
وكلُّ ذلك لأن كلمة (ضيف) قامت مقام المصدر. ولكن هناك من أهل العربية مَنْ يجمعون (ضيف) على (أضياف)؛ ويجمعون (ضيف) على (ضيوف)، أو يجمعون (ضيف) على (ضِيفان).
ولننتبه إلى أن الضيفَ إذا أُطلِق على جَمْع؛ فمعناه أن فرداً قد جاء ومعه غيره، وإذا جاءت جماعة، ثم تبعتْهَا جماعة أخرى نقول: وجاءت ضيف أخرى.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نعلم أنهم ليسوا ضيفاً من الآية التي تليها؛ التي قال فيها الحق سبحانه: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ...}.

.تفسير الآية رقم (52):

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)}
ونلحظ أن كلمة(سلاماً) جاءت هنا بالنَّصبْ، ومعناها نُسلّم سلاماً، وتعني سلاماً متجدداً. ولكنه في آية أخرى يقول: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: 25].
ونعلم أن القرآن يأتي بالقصة عَبْر لقطات مُوّزعة بين الآيات؛ فإذا جمعتَها رسمَتْ لك ملامح القصة كاملة.
ولذلك نجد الحق سبحانه هنا لا يذكر أن إبراهيم قد رَدَّ سلامهم؛ وأيضاً لم يذكر تقديمه للعجل المَشْويّ لهم؛ لأنه ذكر ذلك في موقع آخر من القرآن.
إذن: فمِنْ تلك الآية نعلم أن إبراهيم عليه السلام قد ردَّ السلام، وجاء هذا السلام مرفوعاً، فلماذا جاء السلام في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها منصوباً؟
أي: قالوا هم: {سَلاماً} [الحجر: 52].
وكان لابد من رَدٍّ، وهو ما جاءتْ به الآية الثانية: {قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: 25].
والسلام الذي صدر من الملائكة لإبراهيم هو سلام مُتجدّد؛ بينما السلام الذي صدر منه جاء في صيغة جملة اسمية مُثْبتة؛ ويدلُّ على الثبوت.
إذا رَدَّ إبراهيم عليه السلام أقوى من سلام الملائكة؛ لأنه يُوضِّح أن أخلاق المنهج أنْ يردَّ المؤمنُ التحيةَ بأحسنَ منها؛ لا أنْ يردّها فقط، فجاء رَدُّه يحمل سلاماً استمرارياً، بينما سلامُهم كان سلاماً تجددياً، والفرق بين سلام إبراهيم عليه السلام وسلام الملائكة: أن سلام الملائكة يتحدد بمقتضى الحال، أما سلام إبراهيم فهو منهج لدعوته ودعوة الرسل.
ويأتي من بعد ذلك كلام إبراهيم عليه السلام: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52].
وجاء في آية أخرى أنه: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].
وفي موقع آخر من القرآن يقول: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: 25].
فلماذا أوجسَ منهم خِيفةَ؟ ولماذا قال لهم: إنهم قومْ مُنْكَرون؟ ولماذا قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52].
لقد جاءوا له دون أن يتعرّف عليهم، وقدَّم لهم الطعام فرأى أيديهم لا تصل إليه ولا تقربه كما قال سبحانه: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70].
ذلك أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنه إذا قَدِم ضَيْفاً وقُدِّم إليه الطعام، ورفض أن يأكل فعلَى المرء ألاَّ يتوقع منه الخير؛ وأن ينتظر المكاره.
وحين عَلِم أنهم قد أرسلوا إلى قوم لوط؛ وطمأنوه بالخبر الطيب الذي أرسلهم به الله اطمأنتْ نفسه؛ وفي ذلك تأتي الآية القادمة: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ..}.

.تفسير الآية رقم (53):

{قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}
هكذا طمأنت الملائكة إبراهيم عليه السلام، وهَدَّأَتْ من رَوْعه، وأزالتْ مخاوفه، وقد حملوا له البشارة بأن الحق سبحانه سيرزقه بغلام سيصير إلي مرتبة أن يكون كثير العِلْم.
ويستقبل إبراهيم عليه السلام الخبر بطريقة تحمل من الاندهاش الكثيرَ، فيقول ما ذكره الحق سبحانه: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي..}.

.تفسير الآية رقم (54):

{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)}
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى يخلق الخَلْق على أنحاء مُتعدّدة؛ حتى يعلمَ المخلوق أن خَلْقه لا ضرورة أن يكونَ بطريقة محددة؛ بل طلاقة القدرة أن يأتي المخلوق كما يشاء الله.
والشائع أن يُولَد الولد من أبٍ وأم؛ ذكر وأنثى. أو بدون الأمرين معاً مثل آدم عليه السلام، ثُمَّ خلق حواء من ذكر فقط، وكما خلق عيسى من أم فقط، وخلق محمداً صلى الله عليه وسلم من ذكرٍ وأنثى.
وفي الآية التي نحن بصددها نجد إبراهيم عليه السلام يتعجب كيف يُبشِّرونه بغلام، وهو على هذه الدرجة من الكِبَر، في قوله تعالى: {على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} [الحجر: 54].
يعني أن (على) هنا جاءت بمعنى (مع) أي: أنه يعيش مع الكِبَر؛ ويرى أنه من الصعب أنْ يجتمعَ الكِبَر مع القدرة على الإِنجاب.
وأقول دائما: إن كلمة(على) لها عطاءاتٌ واسعة في القرآن الكريم، فهي تترك مرة ويأتي الحق سبحانه بغيرها لتؤدي معنًى مُعيناً؛ مثل قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71].
والصَّلْب إنما يكون على جذوع النخل؛ ولكن الحق سبحانه جاء ب(في) بدلاً من(على) ليدلَّ على أن الصَّلْبَ سيكون عنيفاً، بحيث تتدخل الأيدي والأرجُل المَصْلوبة في جذوع النخل.
وهنا يقول الحق سبحانه: {أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} [الحجر: 54].
أي: أَتُبشِّرونني بالغلام العليم مع أنِّي كبير في العمر؛ والمفهوم أن الكِبَر والتقدُّم في العمر لا يتأتَّى معه القدرة على الإنجاب.
وهكذا تأتي «على» بمعنى (مع). أي: كيف تُبشِّرونني بالغلام مع أنِّي كبير في العمر، وقد قال قولته هذه مُؤمِناً بقدرة الله؛ فإبراهيم أيضاً هو الذي أورد الحق سبحانه قَوْلاً له: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} [إبراهيم: 39].
وكأن الكِبَر لا يتناسب مع الإنجاب، ويأتي رَدُّ الملائكة على إبراهيم خليل الرحمن: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ}.

.تفسير الآية رقم (55):

{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)}
وكأن الملائكة تقول له: لسنا نحن الذين صنعنا ذلك، ولكِنَّا نُبلغك ببشارة شاءها الله لك؛ فلا تكُنْ من اليائسين.
ونفس القصة تكررتْ من بعد إبراهيم مع ذكريا- عليه السلام- في إنجابه ليحيى، حين دعا زكريا رَبّه أن يهبَه غلاماً: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 6].
وجاءته البشارة بيحيى، وقد قال زكريا لربه: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8].
وإن شئت أن تعرفَ سِرَّ عطاءات الأسلوب القرآني فاقرأ قَوْل الحق سبحانه رداً على زكريا: {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].
ولم يَقُلِ الحق سبحانه أصلحناكم أنتم الاثنين؛ وفي ذلك إشارة إلي أن العطبَ كان في الزوجة؛ وقد أثبت العلم من بعد ذلك أن قدرة الرجل على الإخصاب لا يُحدِّدها عمر، ولكن قدرةَ المرأة على أن تحمل مُحدّدة بعمر مُعين.
ثم إذا تأملنا قوله الحق: {وَوَهَبْنَا} [الأنبياء: 90].
نجد أنها تُثبِت طلاقةَ قدرة الله سبحانه فيما وَهَب؛ وفي إصلاح مَا فسد؛ فسبحانه لا يُعْوزِه شيء؛ قادر جَلَّ شأنه على الوَهْب؛ وقادر على أن يُهيئَ الأسباب ليتحققَ ما يَهبه.
وهنا تقول الملائكة لإبراهيم: {بَشَّرْنَاكَ بالحق} [الحجر: 55] أي: أنهم ليسوا المسئولين عن البشارة، بل عن صدق البشارة؛ ولذلك قالوا له من بعد ذلك: {فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} [الحجر: 55].
ويأتي الحق سبحانه بما رَدَّ به إبراهيم عليه السلام: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ..}.

.تفسير الآية رقم (56):

{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}
وهنا يعلن إبراهيم- عليه السلام- أنه لم يقنط من رحمة ربه؛ ولكنه التعجب من طلاقة التعجب من طلاقة القدرة التي توحي بالوحدانية القادرة، لا لذات وقوع الحَدث؛ ولكن لكيفية الوقوع، ففي كيفية الوقوع إعجاب فيه تأمل، ذلك أن إبراهيم- عليه السلام- يعلم عِلْم اليقين طلاقة قدرة الله؛ فقد سبق أن قال له: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى..} [البقرة: 260].
ولنلحظ أنه لم يسأله (أتحيي الموتى)، بل كان سؤاله عن الكيفية التي يُحْيى بها الله المَوْتى؛ ولذلك لسأله الحق سبحانه: {أَوَلَمْ تُؤْمِن...} [البقرة: 260].
وكان رَدّ إبراهيم-عليه السلام-: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
وحدثتْ تجربة عندما أُمر إبراهيم بأن يأخذ أربعة من الطير ثم يقطعهن ويلقي على كل جبل جزءاً، ثم يدعوهن فيأتينه سعياً، لذلك فلم يكُنْ إبراهيم قانطاً من رحمة ربه، بل كان متسائلاً عن الكيفية التي يُجرِي الله بها رحمته.
ولم تكن تلك المحادثة بين إبراهيم والملائكة فقط، بل اشتركت فيه زَوْجه سارة؛ إذ أن الحق سبحانه قد قال في سورة هود: {ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 72-73].
وهكذا نجد أن القرآن يُكمِل بعضُه بعضاً؛ وكل لَقْطة تأتي في موقعها؛ وحين نجمع اللقطات تكتمل لنا القصة.
وهنا في سورة الحجر نجد سؤالاً من إبراهيم- عليه السلام- للملائكة التي حملتْ له بُشْرى الإنجاب عن المُهمَّة الأساسية لمجيئهم، الذي تسبَّب في أن يتوجَّس منهم خِيفةً؛ فقد نظر إليهم، وشعر أنهم قد جاءوا بأمر آخر غير البشارةَ بالغلام؛ لأن البشارةَ يكفي فيها مَلَكٌ واحد.
أما هؤلاء فهم كثيرون على تلك المُهِمة، فيقول سبحانه هذا السؤال الذي سأله إبراهيم- عليه السلام-: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (57):

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}
أي: ما هو الأمر العظيم الذي جِئْتم من أجله؛ لأن الخَطْب هو الحَدث الجَلل الذي ينتاب الإنسان؟ وسُمِّي خَطْباً لأنه يشغل بال الناس جميعاً فيتخاطبون به، وكلما التقتْ جماعة من البشر بجماعة أخرى فَهُمْ يتحدثون في هذا الأمر.
ولذلك سُمِّيتْ رغبة الزواج بين رجل وامرأة وَتَقدّمه لأهلها طَلباً لِيَدها (خِطْبة)؛ لأنه أمر جلَلَ وهَامّ؛ ذلك أن أحداً لو نظر إلى المرأة؛ ورآه واحدٌ من أهلها لَثَار من الغَيْرة؛ ولكن ما أن يدقَّ البابَ طالباً يدَها، فالأمر يختلف؛ لأن أهلها يستقبلون مَنْ يتقدّم للزواج الاستقبالَ الحسن؛ ويقال: (جدعَ الحلالُ أنْفَ الغَيْرة).
وهنا قال إبراهيم عليه السلام للملائكة: ما خَطْبكم أيها المُرْسلون؟ أي: لأيِّ أمر جَلَلٍ أتيتُم؟
ويأتي الجواب من الملائكة في قول الحق سبحانه: {قَالُواْ إِنَّآ...}.