فصل: تفسير الآية رقم (48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (48):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ...} [النحل: 48].
المعنى: أَعَمُوا ولم يَرَوْا ولم يتدبروا فيها خلق الله؟
{مِن شَيْءٍ} [النحل: 48].
كلمة شيء يسمونها جنس الأجناس، و{مِن} تفيد ابتداء ما يُقال له شيء، أي: أتفه شيء موجود، وهذا يسمونه أدنى الأجناس.. وتفيد أيضاً العموم فيكون: {مِن شَيْءٍ...} [النحل: 48].
أي: كل شيء.
فانظر إلى أيّ شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافهاً ستجد له ظِلاً: {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ...} [النحل: 48].
يتفيأ: من فاءَ أي: رجع، والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس، أو عودة الشمس إلى الظل.
فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين: ظل ثابت مستمر، وظل مُتغيّر، فالظل الثابت دائماً في الأماكن التي لا تصل إليها أشعة الشمس، كقاع البحار وباطن الأرض، فهذا ظِلٌّ ثابت لا تأتيه أشعة الشمس في أي وقت من الأوقات.
والظلّ المتحرك الذي يُسمّى الفَيْء لأنه يعود من الظل إلى الشمس، أو من الشمس إلى الظل، إذن: لا يُسمَّى الظل فَيْئاً إلا إذا كان يرجع إلى ما كان عليه.
ولكن.. كيف يتكّون الظل؟ يتكّون الظل إذا مَا استعرض الشمسَ جسم كثيف يحجب شعاع الشمس، فيكون ظِلاً له في الناحية المقابلة للشمس، هذا الظل له طُولان وله استواء واحد.
طول عند الشروق إلى أنْ يبلغَ المغرب، ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس، فإذا ما استوتْ الشمس في السماء يصبح ظِلّ الشيء في نفسه، وهذه حالة الاستواء، ثم تميل الشمس إلى الغروب، وينعكس طول الظلّ الأول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق.
ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الآية الكونية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} [الفرقان: 45-46].
ذلك لأنك لو نظرتَ إلى الظلِّ وكيف يمتدُّ، وكيف ينقبض وينحسر لوجدتَ شيئاً عجيباً حقاً.. ذلك لأنك تلاحظ الظل في الحالتين يسير سَيْراً انسيابياً.
ما معنى:(انسيابي)؟ هو نوع من أنواع الحركة، فالحركة إما حركة انسيابية، أو حركة عن توالي سكونات بين الحركات.
وهذه الأخيرة نلاحظها في حركة عقارب الساعة، وهي أوضح في عقرب الثواني منها في عقرب الدقائق، ولا تكاد تشعر بها في عقرب الساعات.. فلو لاحظت عقرب الثواني لوجدتَه يسير عن طريق قفزات منتظمة، تكون حركة فسكوناً فحركة، وهكذا.
ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه، ثم ينطلق بها، وبذلك تمرُّ عليه لحظة لم يكن مُتحركاً فيها، وهذا ما نسميه بالحركة القفزية.. هذه الحركة لا تستطيع رَصْدها في عقرب الساعات؛ لأن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن رَصْدها وملاحظتها، هذه هي الحركة القفزية.
أما الحركة الانسيابية، فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة.. أي: حركة مستمرة ومُوزّعة بانتظام على الزمن.
ونضرب لذلك مثلاً بنمو الطفل.. الطفل الوليد ينمو باستمرار، لكن أمه لملازمتها له لا تلاحظ هذا النمو؛ لأن نظرها عليه دائماً.. فكيف تكون حركة النمو في الطفل؟ هل حركة قفزية يتجمع فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلاً، ثم ينمو طَفْرة واحدة؟
لو كان نموه هكذا لَلاَحظنا نمو الطفل، لكنه ليس كذلك، بل ينمو بحركة انسيابية تُوزّع المِلِّي الواحد من النمو على طول الزمن. فلا نكاد نشعر بنموه.
وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية، بحيث تُوزع جزئيات الحركة على جُزئيات الزمن، فالشمس ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلاً، لا.. بل مركونة إلى أمر الله، موصولة بكُنْ الدائمة.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلِفتَ خَلْقه إلى ظاهرة كونية في الوجود مُحسّة، يدركها كلٌّ مِنّا في ذاته، وفيما يرى من المرائي، ومن هذه المظاهر ظاهرة الظَلّ التي يعجز الإنسان عن إدراك حركته.
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15].
فالحق سبحانه يريد أن يُعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله، كما قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...} [الإسراء: 44].
فكل ما يُطلَق عليه شيء فهو يُسبِّح مهما كان صغيراً.
وقوله تعالى: {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل...} [النحل: 48].
لنا هنا وقفة مع الأداء القرآني، حيث أتى باليمين مُفْرداً، في حين أتى بالشمائل على صورة الجمع؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ...} [النحل: 48].
أتى بأقلّ ما يُتصوَّر من مخلوقاته سبحانه {مِن شَيْءٍ...} وهو مفرد، ثم قال سبحانه: {ظِلاَلُهُ..} [النحل: 48].
بصيغة الجمع. أي: مجمع هذه الأشياء، فالإنسان لا يتفيأ ظِلّ شيء واحد، لا.. بل ظِلّ أشياء متعددة.
و{مِن} هنا أفادت العموم: {مِن شَيْءٍ..} [النحل: 48].
أي: كل شيء. فليناسب المفرد جاء باليمين، وليناسب الجمع جاء بالشمائل.
ثم يقول تعالى: {سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].
فما العلاقة بين حركة الظلّ وبين السجود؟
معنى: سُجّداً أي: خضوعاً لله، وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليلٌ على أنه موصول بالمحرك الأعلى له، والقائل الأعلى ل (كُنْ)، والظل آية من آياته سبحانه مُسخّرة له ساجدة خاضعة لقوله: كُنْ فيكون.
وقلنا: إن هناك فرقاً بين الشيء تُعِده إعداداً كَوْنياً، والشيء تُعِده إعداداً قدرياً.. فصانع القنبلة الزمنية يُعِدُّها لأنْ تنفجرَ في الزمن الذي يريده، وليس الأمر كذلك في إعداد الكون.
الكون أعدّه الله إعداداً قدرياً قائماً على قوله كُنْ، وفي انتظار لهذا الأمر الإلهي باستمرار(كن فيكون).
وهكذا.. فليست المسألة مضبوطة ميكانيكاً، لا.. بل مضبوطة قَدرياً.
لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول: باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها، ويُرتّب على هذا الحكم أشياء أخرى.. نقول: لا.. ليس الأمر كذلك.. فالشمس خاضعة للإعداد القدريّ منضبطةٌ به ومنتظرة ل (كُنْ) التي يُصغِي لها الكون كله؛ ولذلك يقول تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
هكذا بيَّنت الآية الكريمة أن كل ما يُقال له (شيء) يسجد لله عز وجل، وكلمة (شيء) جاءت مُفْردة دالّة على العموم.. وقد عرفنا السجود فيما كلَّفنا الله به من ركن في الصلاة، وهو مُنْتَهى الخضوع، خضوع الذات من العابد للمعبود، فنحن نخضع واقفين، ونخضع راكعين، ونخضع قاعدين، ولكن أتمَّ الخضوع يكون بأنْ نسجدَ لله.. ولماذا كان أتمَّ الخضوع أن نسجدَ لله؟
نقول: لأن الإنسان له ذات عامة، وفي هذا الذات سيد للذات، بحيث إذا أُطلِق انصرف إلى الذات، والمراد به الوجه؛ لذلك حينما يعبّر الحق تبارك وتعالى عن فَنَاء الوجود يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ..} [القصص: 88].
وكذلك في قوله: {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} [الليل: 20-21].
فيُطلَق الوجه ويُراد به الذات، فإذا ما سجد الوجه لله تعالى دلَّ ذلك على خضوع الذات كلها؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه، فإذا ما ألصقه بالأرض فقد جاء بمنتهى الخضوع بكل ذاته للمعبود عز وجل.
كما دَلَّتْ الآية على أن الظل أيضاً يسجد لربه وخالقه سبحانه، والظلال قد تكون لجمادات كالشجر مثلاً، أو بناية أو جبل، وهذه الأشياء الثابتة يكون ظِلّها أيضاً ثابتاً لا يتحرك، أما ظِلّ الإنسان أو الحيوان فهو ظل متحرك، وقد ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً في الخضوع التام بالظلال؛ لأن ظل كل شيء لا يفارق الأرض أبداً، وهذا مثال للخضوع الكامل.
ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلال في قوله: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15].
يعني الذوات تسجد، وكذلك الظلال تسجد؛ ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر.. يقول: أيها الكافر ظِلُّك ساجد وأنت جاحد.. جاء هذا الترقِّي في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ...}.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)}
فأجناس الكون التي يعرفها الإنسان أربعة: إما جماد، فإذا وجدتَ خاصية النمو كان النبات، وإذا وجدتَ خاصية الحركة والحسِّ كان الحيوان، فإذا وجدتَ خاصية الفِكْر كان الإنسان، وإذا وجدتَ خاصية العلم الذاتي النوراني كان المَلَك.. هذه هي الأجناس التي نعرفها.
الحق تبارك وتعالى ينقلُنا هنا نَقْلة من الظلال الساجدة، للجمادات الثابتة، إلى الشيء الذي يتحرك، وهو وإنْ كان مُتحركاً إلا أن ظلّه أيضاً على الأرض، فإذا كان الحق سبحانه قد قال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض..} [النحل: 49].
فقد فصَّل هذا الإجمال بقوله: {مِن دَآبَّةٍ والملائكة...} [النحل: 49].
أي: من أقلّ الأشياء المتحركة وهي الدابة، إلى أعلى الأشياء وهي الملائكة.
وقد يقول قائل: وهل ما في السماوات وما في الأرض يسجد لله؟
نقول له: نعم.. لأنك فسرتَ السجود فيك أنت بوضْع جبهتك على الأرض، ليدلّ على أن الذات بعلُوّها ودنُوّها ساجدة لله خاضعة تمام الخضوع، حيث جعلتَ الجبهة مع القدم.
والحق تبارك وتعالى يريد منّا أن نعرف استطراق العبودية في الوجود كله؛ لأن الكافر وإنْ كانَ مُتمرِّداً على الله فيما جعل الله له فيه اختيارا، في أنْ يؤمن أو يكفر، في أن يطيع أو يعصي، ولكن الله أعطاه الاختيار.
نقول له: إنك قد ألفْتَ التمرّد على الله، فطلب منك أن تؤمن لكنك كفرتَ، وطلبَ منك يا مؤمن أن تطيعَ فعصيتَ، إذن: فلكَ إلْفٌ بالتمرّد على الحق.. ولكن لا تعتقد أنك خرجتَ من السجود والخضوع لله؛ لأن الله يُجري عليك أشياء تكرهها، ولكنها تقع عليك رغم أنفك وأنت خاضع.
وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].
أي: صاغرون مُستذلِّون مُنقَادُونَ مع أنهم أَلِفُوا التمرُّد على الحق سبحانه.
وإلا فهذا الذي أَلِف الخروج عن مُرادات الله فيما له فيه اختيار، هل يستطيع أنْ يتأبَّى على الله إذا أراد أنْ يُمرضه، أو يُفقره، أو يميته؟
لا، لا يستطيع، بل هو داخر صاغر في كل ما يُجريه عليه من مقادير، وإنْ كان يأباها، وإنْ كان قد أَلِف الخروج عن مُرادات الله.
إذن: ليس في كون الله شيء يستطيع الخروج عن مرادات الله؛ لأنه ما خرج عن مرادات الله الشرعية في التكليف إلا بما أعطاه الله من اختيار، وإلا لو لم يُعْطه الاختيار لما استطاع التمرّد، كما في المرادات الكونية التي لا اختيارَ فيها.
لذلك نقول للكافر الذي تمرّد على الحق سبحانه: تمرّد إذا أصابك مرض، وقُلْ: لن أمرض، تمرَّد على الفقر وقُلْ: لن أفتقر.. وما دُمْتَ لا تقدر وسوف تخضع راغماً فلتخضعْ راضياً وتكسب الأمر، وتنتهي مشكلة حياتك، وتستقبل حياة أخرى أنظف من هذه الحياة.
وقوله تعالى: {مِن دَآبَّةٍ...} [النحل: 49].
هو كل ما يدبّ على الأرض، والدَّبُّ على الأرض معنا الحركة والمشي.. وقوله: {والملائكة...} [النحل: 49].
أي: أن الملائكة لا يُقال لها دابة؛ لأن الله جعل سَعْيها في الأمور بأجنحة فقال تعالى: {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ..} [فاطر: 1].
وقال في آية أخرى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ...} [الأنعام: 38].
فخلق الله الطائر يطير بجناحيه مقابلاً للدابة التي تدب على الأرض، فاستحوذ على الأمرين: الدابة والملائكة.
و{مَا} في الآية تُطلق على غير العالمين وغير العاقلين؛ ذلك لأن أغلبَ الأشياء الموجودة في الكون ليس لها عِلْم أو معرفة؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا..} [الأحزاب: 72].
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49].
أي: أن الملائكة الذين هم أعلى شيء في خَلْق الله لا يستكبرون؛ لأن علوّهم في الخَلْق من نورانية وكذا وكذا لا يعطيهم إدلالاً على خالقهم سبحانه؛ لأن الذي أعطاهم هذا التكريم هو الله سبحانه وتعالى.
وما دام الله هو الذي أعطاهم هذا التكريم فلا يجوز الإدلال به؛ لأن الذي يُدِلُّ إنما يُدِلُّ بالذاتيات غير الموهوبة، أما الشيء الموهوب من الغير فلاَ يجوز أن تُدِلَّ به على مَنْ وهبه لك.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون..} [النساء: 172].
فلن يمتنعوا عن عبادة الله والسجود له رغم أن الله كرَّمهم ورفعهم.
ثم يقول تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ..}.