فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (93):

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}
لو حرف امتناع لامتناع. أي: امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة.
فلو شاء الله لجعلَ العالم كله أمةً واحدة على الحق، لا على الضلال، أمة واحدة في الإيمان والهداية، كما جعل الأجناس الأخرى أمةً واحدة في الانصياع لمرادات الله منها.
ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقاً تسخيرياً، فلا يوجد جنس من الأجناس تأَبَّى عما قصد منه، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان.
كل هذه الأكوان تسير سَيْراً سليماً كما أراد الله منها، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون، ذلك لما له من حرية الاختيار، يفعل أو لا يفعل.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..} [الحج: 18].
هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء، إلا في الإنسان فقال تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..} [الحج: 18].
فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس؟ لأنهم أصحاب الاختيار، فيستطيع الواحد منهم أن يفعلَ أو لا يفعل، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله، أم أرادها الله سبحانه وتعالى؟
قالوا بأن الله زاول قدرته المطلقة في خَلْق الأشياء المُسخرة، بحيث لا يخرج شيء عما أريد منه، وكان من الممكن أنْ يأتيَ الإنسان على هذه الصورة من التسخير، لكنه في هذه الحالة لن يزيد شيئاً، ولن يضيف جديداً في الكون، أليستْ الملائكة قائمة على التسخير؟
فالتسخير يُثبِت القدرة لله تعالى، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيء، لكن الاختيار يثبت المحبوبية لله تعالى، وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره.
فمثلاً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد، والآخر مسعود، فأخذت سعيداً وقيَّدته إليك في حبل، في حين تركت مسعوداً حراً طليقاً، وحين أمرت كلاً منهما لَبَّى وأطاع، فأيّ طاعة ستكون أحبّ إليك: طاعة القهر والتسخير، أم الطاعة بالاختيار؟
فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنْ جعلَه مختاراً في أنْ يطيعَ أو أنْ يعصيَ، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً، وهو قادر على المعصية، فقد أثبتَ المحبوبية لربه سبحانه وتعالى.
ولا بُدَّ أنْ تتوافرَ للاختيار شروطٌ. أولها العقل، فهو آلة الاختيار، كذلك لا يُكلّف المجنون، فإذا توفّر العقل فلابد له من النُّضْج والبلوغ، ويتمّ ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مِثْله، وأصبحتْ له ذاتية مولده.
وهذه سِمَة اكتمال الذات؛ فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين، وليس أَهْلاً للتكليف، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات، فلابد له أن يكون مختاراً غَيْرَ مُكْرهٍ، فإنْ أُكْرِه على الشيء فلن يسأل عنه، فإنِ اختلَّ شَرْط من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة في الاختيار.
والحق تبارك وتعالى وإن كرَّم الإنسان بالاختيار، فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض الأعضاء اضطرارية مُسخّرة لا دَخْلَ له فيها.
ولو تأملنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهرية، وتتوقف عليها حياة الإنسان، فكان من رحمة الله بنا أنْ جعل هذه الأعضاء تعمل وتُؤدِّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ.
فالقلب مثلاً يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به، وكذلك التنفس والكُلَى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مُسخّرة، كالجماد والنبات والحيوان.
ومن لُطْفِ الله بخَلْقه أنْ جعلَ هذه الأعضاء مُسخّرة، لأنه بالله لو أنت مختار في عمل هذه الأعضاء، كيف تتنفس مثلاً وأنت نائم؟!
إذن: من رحمة الله أنْ جعلكَ مختاراً في الأعمال التي تعرِضُ لك، وتحتاج فيها إلى النظر في البدائل؛ ولذلك يقولون: الإنسان أبو البدائل. فالحيوان مثلاً وهو أقرب الأجناس إلى الإنسان ليس لديْه هذه البدائل ولا يعرفها، فإذا آذيتَ حيواناً فإنه يُؤذيك، وليس لديه بديل آخر.
ولكن إذا آذيْت إنساناً، فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل، أو بأكثر مما فعلتَ، أو أقلّ، أو يعفو ويصفح، والعقل هو الذي يُرجِّح أحد هذه البدائل.
إذن: لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها، كما قال تعالى: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس} [الرعد: 31].
ولكنه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك، بدليل قوله: {ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ...} [النحل: 93].
وهذه الآية يقف عندها المتمحِّكون، والذين قَصُرَتْ أنظارهم في فهْم كتاب الله، فيقولون: طالما أن الله هو الذي يضِلّ الناس، فلماذا يُعذِّبهم؟ ونتعجَّب من هذا الفهم لكتاب الله ونقول لهؤلاء: لماذا أخذتُمْ جانب الضلال وتركتُم جانب الهدى؟ لماذا لم تقولوا: طالما أن الله بيده الهداية، وهو الذي يهدي، فلماذا يُدخِلنا الجنة؟ إذن: هذه كلمة يقولها المسرفون؛ لأن معنى: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ..} [النحل: 93].
أي: يحكم على هذا من خلال عمله بالضلال، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية، مثل ما يحدث عندنا في لجان الامتحان، فلا نقول: اللجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً، فليست هذه مهمتها، بل مهمتها أن تنظر أوراق الإجابة، ومن خلالها تحكم اللجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك.
وكذلك الحق تبارك وتعالى لا يجعل العبد ضالاً، بل يحكم على عمله أنه ضلال وأنه ضَالّ؛ فالمعنى إذن: يحكم بضلال مَنْ يشاء، ويحكم بهُدَى مَنْ يشاء، وليس لأحد أن ينقلَ الأمر إلى عكس هذا الفهم، بدليل قوله تعالى بعدها: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93].
فالعبد لا يُسأل إلا عَمَّا عملتْ يداه، والسؤال هنا معناه حرية الاختيار في العمل، وكيف تسأل عن شيء لا دَخْل لك فيه؟ فلنفهم إذن عن الحق تبارك وتعالى مُرَادَهُ من الآية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تتخذوا...}.

.تفسير الآية رقم (94):

{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)}
وردتْ كلمة الدّخَل في الآية قبل السابقة وقلنا: إن معناها: أن تُدخِلَ في الشيء شيئاً أدْنى منه من جنسه على سبيل الغشِّ والخداع، وإن كان المعنى واحداً في الآيتين فإن الآية السابقة جاءت لتوضيح سبب الدَّخَل وعَلّته، وهي أن تكون أُمة أَرْبى من أمة، ويكسب أحد الأطراف على حساب الآخر. أما في هذه الآية فجاءت لتوضيح النتيجة من وجود الدَّخَل، وهي: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا..} [النحل: 94].
ففي الآية نَهْيٌ عن اتخاذ الأَيْمان للغش والخداع والتدليس؛ لأن نتيجة هذا الفعل فساد يأتي على المجتمع من أساسه، وفَقْد للثقة المتبادلة بين الناس والتي عليها يقوم التعامل، وتُبنَى حركة الحياة، فالذي يُعطي عهداً ويُخلْفه، ويحلف يميناً ويحنث فيه يشتهر عنه أنه مُخلِف للعهد ناقض للميثاق.
وبناءً عليه يسحب الناس منه الثقة فيه، ولا يجرؤ أحد على الصَّفَق معه، فيصبح مَهيناً ينفضُ الناس أيديهم منه، بعد أنْ كان أميناً وأهلاً للثقة ومَحَلاً للتقدير.
هذا معنى قوله تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا...} [النحل: 94].
وبذلك يسقط حقُّه مع المجتمع، ويحيق به سوء فِعْله، ويجني بيده ثمار ما أفسده في المجتمع، وبانتشار هذا الخلُق السيئ تتعطّل حركة الحياة، وتضيع الثقة والأمانة.
إذن: هذه زَلَّة وكَبْوة بعد ثبات وقوة، بعد أنْ كان أَهْلاً للثقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يُقبِل عليه الناس، ويُحبُّون التعامل معه بما لديْه من شرف الكلمة وصِدْق الوعد، فإذا به يتراجع للوراء، ويتقهقر للخلف، ويفقد هذه المكانة.
ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون: فلان اهتزَّ مركزه في السوق أي: زَلَّتْ قدمه بما حدث منه من نقْضٍ للعهود، وحِنْث في الأيمان وغير ذلك مما لا يليق بأهل الثقة في السوق، ومثل هذا ينتهي به الأمر إلى أنْ يعلنَ إفلاسه في دنيا التعامل مع الناس.
أما الوفاء بالعهود والمواثيق والأَيْمان فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة لا تتزحزح ولا تهتزّ، فترى مال الناس جميعاً مالَه، وتجد أصحاب الأموال مقبلين عليك يضعون أموالهم بين يديك، بما تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل.
ولذلك، فالتشريع الإسلامي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي لا يملك إلا سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء، هذا هو رأس مالهم، فإنْ دخل شريك بما لديْه من رأس المال، فهذا شريك بما لديْه من شرف الكلمة وشرف السلوك، ووجاهة بين الناس، وماضٍ مُشرِّف من التعامل.
وهذه يسمونها (شركة الوجوه والأعيان) وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه الوجاهة إلا بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم، وبما له من سوابق فضائل ومكارم.
وكذلك، قد نرى هذه الثقة لا في شخص من الأشخاص، بل نراها في ماركة من الماركات أو العلامات التجارية، فنراها تُبَاع وتُشْتري، ولها قيمة غالية في السوق بما نالتْه من احترام الناس وتقديرهم، وهذا أيضاً نتيجة الصدق والالتزام والأمانة وشرف الكلمة.
وقوله تعالى: {وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94].
السوء: أي العذاب الذي يسُوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس، وكسَاد في الحال، بعد أنْ سقط من نظر المجتمع، وهدم جِسْر الثقة بينه وبين مجتمعه.
وقوله تعالى: {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله} [النحل: 94].
الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والأَيْمان ولا يُوفُونَ بها، فهل في هذا صَدٌّ عن سبيل الله؟
نقول: أولاً إن معنى سبيل الله: كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة تُدَار بشرف وأمانة وصِدْق ونفاذ عهد.
ومن هنا، فالذي يُخلف العهد، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال يضنُّ بماله، وصاحب المعروف يتراجع، فلو أقرضتَ إنساناً وغدرَ بكَ فلا أظنُّك مُقرِضاً لآخر.
إذن: لا شَكَّ أن في هذا صداً عن سبيل الله، وتزهيداً للناس في فعْل الخير.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94].
فبالإضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدنيا، وبعد أنْ زَلَّتْ بهم القدم، ونزل بهم من عذاب الدنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذاب عظيم أي في الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ...}.

.تفسير الآية رقم (95):

{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)}
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينهانا ويُحذِّرنا: إياك أنْ تجعلَ عهد الله الذي أكدته للناس، وجعلت الله عليه كفيلاً، فبعد أن كنت حُراً في أن تعاهد أو لا تعاهد، فبمجرد العهد أصبح نفاذه واجباً ومفروضاً عليك.
أو: عهد الله أي شرعه الذي تعاهدتَ على العمل به والحفاظ عليه، وهو العهد الإيماني الأعلى، وهو أن تؤمنَ بالله وبصدق الرسول في البلاغ عن الله، وتلتزم بكل ما جاء به الرسول من أحكام، إياك أنْ تقابله بشيء آخر تجعله أغْلى منه؛ لأنك إنْ نقضْتَ عهد الله لشيء آخر من متاع الدنيا الزائل فقد جعلتَ هذا الشيء أغلى من عهد الله؛ لأن الثمن مهما كان سيكون قليلاً.
ثم يأتي تعليل ذلك في قوله: {إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ..} [النحل: 95].
فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدنيا مهما كَثُر، بل فيما عند الله تعالى، وقد أوضح ذلك في قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
ولنا وقفة مع قوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...} [النحل: 95].
فهذا أسلوب توكيد بالقصر بإعادة الضمير(هو)، فلم يَقُلِ الحق سبحانه إنما عند الله خير لكم، فيحتمل أن ما عند غيره أيضاً خيْرٌ لكم، أما في تعبير القرآن {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: الخير فيما عند الله على سبيل القَصْر، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80].
فجاء بالضمير (هو) ليؤكد أن الشافي هو الله لوجود مَظنّة أن يكون الشفاء من الطبيب، أما في الأشياء التي لا يُظَنّ فيها المشاركة فتأتي دون هذا التوكيد كما في قوله تعالى: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81].
فلم يقل: هو يميتني هو يُحيين؛ لأنه لا يميت ولا يُحيي إلا الله، فلا حاجةَ للتوكيد هنا.
ما الذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد؟
الذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد أنْ يرى مصلحة سطحية فوق ما تعاقد عليه تجعله يخرج عما تعاهد عليه إلى هذه السطحية، ولكنه لو عقل وتدبَّر الأمر لعلم أنّ ما يسعى إليه ثمن بَخْسٌ، ومكسب قليل زائل إذا ما قارنه بما ادخِر له في حالة الوفاء؛ لأن ما أخذه حظاً من دنياه لابد له من زوال.
والعقل يقول: إن الشيء، إذا كان قليلاً باقياً يفضل الكثير الذي لا يبقى، فما بالك إذا كان القليل هو الذي يفنى، والكثير هو الذي يبقى.
ومثال ذلك: لو أعطيتُك فاكهة تكفيك أسبوعاً أو شهراً فأكلتها في يوم واحد، فقد تمتعْتَ بها مرة واحدة، وفاتَكَ منها مُتَعٌ وأكلاتٌ متعددة لو أكلتَها في وقتها.
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يُنبِّهك أنَّ ما عند الله هو الخير الحقيقي، فجعل موازينك الإيمانية دقيقة، فمن الحُمْق أن تبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95].
في الآية دِقَّة الحساب، ودِقَّة المقارنة، ودِقَّة حَلِّ المعادلات الاقتصادية.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ..}.