فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (2):

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)}
قوله: {وَآتَيْنَآ} أي: أوحينا إليه معانيه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ..} [الشورى: 51].
فليس في هذا الأمر مباشرة.
و(الكتاب) هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم.
والوَحْي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم.
ومثال ذلك: الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط؟
نقول: لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله، فلا دَخْلَ لأحد فيه، ولابد أنْ يظلَّ لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أُوحِيَ إليه لَفْظُ ومعنى القرآن الكريم، وأُوحِي إليه معنى الحديث النبوي الشريف.
والحق سبحانه يقول: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ..} [الإسراء: 2].
فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده، بل لِيُبلِّغه لبني إسرائيل، وليرسمَ لهم طريق الهدى الله سبحانه، وقال تعالى في آية أخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23].
والهُدَى: هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه، وبأقلّ تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.
ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله تعالى: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: 2].
ففي هذه العبارة خلاصة الهُدى، وتركيز المنهج وجِمَاعه.
والوكيل: هو الذي يتولَّى أمرك، وأنت لا تُولِّي أحداً أمرك إلا إذا كنتَ عاجزاً عن القيام به، وكان مَنْ تُوكِّله أحكمَ منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً.
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تِلْو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لِتولِّي أمرك والقيام بشأنك، فربما وَكَّلْتَ واحداً منهم ففاجأك خبر موته.
إذن: إذا كنتَ لبيباً فوكِّل مَنْ لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور، يقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تتخذَ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويُبلِّغونك عن الله سبحانه.
ولذلك الحق سبحانه يقول: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..} [الإسراء: 86].
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً، فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟
وقد تحدث العلماء طويلاً في(أن) في قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: 2].
فمنهم مَنْ قال: إنها ناهية. ومنهم من قال: نافية، وأحسن ما يُقال فيها: إنها مُفسّرة لما قبلها من قوله تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى..} [الإسراء: 2].
ففسرت الكتاب والهدى ولخَّصتْه، كما في قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120].
فقوله: {قَالَ ياآدم} تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان.
ومثله قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ..} [القصص: 7].
(فأنْ) هنا مُفسِّرة لما قبلها. وكأن المعنى: وأوحينا إليه ألاَّ تتخذوا من دوني وكيلاً.
أو نقول: إن فيها معنى المصدرية، وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول: عجبت أنْ تنجحَ، أي: من أنْ تنجح، ويكون معنى الآية هنا: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأنْ لا تتخذوا من دوني وكيلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا..}.

.تفسير الآية رقم (3):

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}
(ذرية) منصوبة هنا على الاختصاص لِقصْد المدح، فالمعنى: أخصّكم أنتم يا ذرية نوح، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات؟
ذلك لأننا نجَّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق، وحافظنا على حياتهم، وأنتم ذريتهم، فلابد لكم أنْ تذكروا هذه النعمة لله تعالى، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم.
فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجَّى آباءهم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جَرَّبه آباؤهم، ووجدوا أن مَنْ يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله.
ويقول تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3].
أي: أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويُجنّبهم الزَّلل والانحراف.
ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله، فإذا توفّر له قوت عامه قال: أعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره، وتراه ينشغل بهم، ويُؤثِرهم على نفسه، ويترقّى في طلب الخير لهم، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
ومع ذلك، فالإنسان عُرْضَة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد، فيقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى الله تتعدَّى بركتها إلى أولادك من بعدك، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم.
والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية، واستطعما أهلها فأبَوْا أنْ يُضيّفوهما، وسؤال الطعام يدل على صِدْق الحاجة، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكَنْزِه، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلا شكّ أنه صادق في سؤاله، فهذا دليل على أنها قرية لِئَام لا يقومون بواجب الضيافة، ولا يُقدِّرون حاجة السائل.
ومن هنا تعجَّبَ موسى عليه السلام من مبادرة الخِضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلاء اللئام: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77].
وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر، ويُظهِر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام، فيقول: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ..} [الكهف: 82].
فالجدار مِلْك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام، ولأن أباهما كان صالحاً سخّر الله لهما مَنْ يخدمهما، ويحافظ على مالهما.
إذن: فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً، فأكرمهم الله من أجله، وجعلهما في حيازته وحفظه.
وهنا قد يسأل سائل: ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين، فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21].
فكرامةً للآباء نلحق بهم الأبناء، حتى وإنْ قَصَّروا في العمل عن آبائهم، فنزيد في أجر الأبناء، ولا ننقص من أجر الآباء.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3].
وشكور صيغة مبالغة في الشكر، فلم يقل شاكر؛ لأن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة، أما الشكور فهو الدائب على الشكر المداوم عليه، وقالوا عن نوح عليه السلام: إنه كان لا يتناول شيئاً من مُقوّمات حياته إلا شكر الله عليها. ولا تنعَّم بنعمة من ترف الحياة إلا حمد الله عليها، فإذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني من غير حول مني ولا قوة، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني من غير حول مني ولا قوة، وهكذا في جميع أمره.
ويقول بعض العارفين: ما أكثر ما غفل الإنسان عن شكر الله على نعمه.
ونرى كثيراً من الناس قصارى جَهْدهم أن يقولوا: بسم الله في أول الطعام والحمد لله في آخره، ثم هم غافلون عن نعم كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، تستوجب الحمد والشكر.
لذلك حينما يعقل الإنسان ويفقه نِعَم الله عليه، ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة، تجده يعمل ما نُسميّه حَمْد القضاء مثل الصلاة القضاء أي: حمد الله على نعم فاتت لم يحمده عليها، فيقول: الحمد لله على كل نعمة أنعمتَها عليَّ يا ربّ، ونسيت أنْ أحمدَك عليها، ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه.
وقد يتعدى حمدَ الله لنفسه، فيحمد الله عن الناس الذين أنعم الله عليهم ولم يحمدوه، فيقول: الحمد لله عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه، ولم يحمدك عليها.
ولذلك يقولون: إن النعمة التي تحمد الله عليها لا تُسأل عنها يوم القيامة؛ لأنك أدَّيْتَ حقها من حَمْد الله والثناء عليه.
والحمد والشكر وإنْ كان شكراً للمنعم سبحانه وثناء عليه، فهو أيضاً تجارة رابحة للشاكر؛ لأن الحق سبحانه يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ..}.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ..} [الإسراء: 4].
أي: حكمنا حُكْماً لا رجعةَ فيه، وأعلنَّا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى.
والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفَصْل لابد له من قاضٍ مُؤهَّل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
إذن: لابد أن يكون القاضي مُؤهّلاً، ولو عُرْف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميِّين لا يعرفون عن القانون شيئاً، ولكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قَوْل الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضياً ويُحكّمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لابد له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على مَنْ أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه، ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة.
وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمِّي عليه الأمر، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي، فيحوّل الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا.
فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود، ولا يقدر أحد أنْ يُعمِّي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟!
ففي الحديث الشريف: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له، فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار).
فردَّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إنْ عمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب: (استفتِ قلبك، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ).
قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مُميّزاً بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يُراجع نفسه ويتدبر أمره.
وقوله: {فِي الكتاب..} [الإسراء: 4].
أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حُكْماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلّغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أَيُنفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأنْ يُطيعوا أمره.
وقوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قَسَماً دَلَّ عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسَم لا يكون إلا بالله.
أو نقول: إن المعنى: ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْماً مُؤكّداً، لا يستطيع أحد الفِكَاك منه، ففي هذا معنى القسَم، وتكون هذه العبارة جواباً ل (قضينا)؛ لأن القسَم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ...} [الإسراء: 4].
فما هو الإفساد؟
الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه، فكُلُّ شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللْتَ به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبْقِ الصالح على صلاحه.
فمثلاً، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء، فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فلا تطمسها، وإما أنْ تزيدَ في صلاحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخُّه في مواسير لتسهِّل على الناس استعمال، وغير ذلك من أَوْجُه الصلاح.
ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
أي: أنشأكم من الأرض، وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم، فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأعمِلْ عقلك المخلوق لله ليفكر، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون، فأنت لا تأتي بشيء من عندك، فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك، ويُوفِّر لك الرفاهية والترقي.
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم، وزادوا الصالح صلاحاً، وكم فيها من مَيْزات وفَّرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان، فأخذوا هذه الفكرة، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية.
وكما يكون الإفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوِّثات، كذلك يكون في المعنويات، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه، فكوْنُك لا تنفذ هذا المنهج، أو تكتمه، أو تُحرِّف فيه، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى.
ويقول تعالى لبني إسرائيل: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هَيِّن، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدلّ ذلك على أن الإسلام تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم، فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين، ثم أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن: كان من الأوْلى أن يُفسِّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دَخْلَ للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 4].
فإنْ كان الفساد مُطْلقاً. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مُثُلاً تكوينية وأُسْوة سلوكية، وحرّفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرَّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ..} [المائدة: 13].
والذي لم ينسَوْهُ لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرَّفوه، كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..} [المائدة: 13].
ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدَّى إلى أن أَتَوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً..} [البقرة: 79].
فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟
ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ..} [البقرة: 246].
فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضَوْه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصَّلوا منه ولم يقاتلوا.
ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قويَتْ دولتهم، واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصَّر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للإسلام، والأَوْلى أن نقول: إنهما بعد الإسلام، وسوف نجد في هذا رَبْطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء.
كيف ذلك؟
قالوا: لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومَنْ عنده علم الكتاب، فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحدهم: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لِمَا قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن: كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا مستشرفين لمجيئه، وعندهم مُقدِّمات لبعثته صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ..} [البقرة: 89].
فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفّى لهم رسول الله ما وفّوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وقتل منهم مَنْ قَتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2].
وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قَيْنقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ونصُّ الآية القادمة يُؤيِّد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام.