فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (37):

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}
ما زالت الآيات تسير في خطٍّ واحد، وترسم لنا طريق التوازن الاجتماعي في مجتمع المسلمين، فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد، هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع.
والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجاً قويماً لبناء مجتمع متماسك ومتوازن، يبدأ بقوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ..} [الإسراء: 22].
وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلّها، ثم قسّم المجتمع إلى طبقات، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدَّت مهمتها في الحياة، وحان وقت إكرامها وردِّ الجميل لها، فأوصى بالوالدين وأمر ببّرهما.
ثم توجّه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية، فأوصى بالأولاد، ونهى عن قتلهم خَوْفَ الفقر والعَوز، وخَصَّ بالوصية اليتيم؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان.
ثم تكلم عن المال، وهو قوام الحياة، واختار فيه الاعتدال والتوسُّط، ونهى عن طرفَيْه: الإسراف والإمساك. ثم نهى عن الفاحشة، وخصَّ الزنا الذي يُلوِّث الأعراض ويُفسد النسل، ونهى عن القتل وسَفْك الدماء.
ثم تحدث عمَّا يحفظ للإنسان ماله، ويحمي تعبه ومجهوداته، فأمر بتوفية الكيل والميزان، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما، ثم حَثَّ الإنسان على الأمانة العلمية، حتى لا يقول بما لا يعلم، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة.
ألم تَرَ أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه، إذن: الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض؛ لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أنْ يضع له توازناً اجتماعياً.
وأوّل شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعاً عند الله سواء، وكلنا عبيده، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة أو نَسَب، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط، لا فَرْق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وإنْ تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي؛ لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلاً: هذا غني، وهذا فقير.
ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت، ويَدَعُون غيرها من النواحي الأخرى، وهذا لا يصح، بل انظر إلى الجوانب الأخرى في حياة الإنسان، وإلى الزوايا المختلفة في النفس الإنسانية، ولو سلكتَ هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، وأن الحصيلة واحدة، وصدق الله العظيم القائل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ..} [الحجرات: 13].
وما دام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أنْ يرفعَ رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسةً أو منزلة فوق منزلة الآخرين، فقال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً..} [الإسراء: 37].
أي: فخراً واختيالاً، أو بَطَراً أو تعالياً؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء مَا افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أنْ جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هِبةً له، وليست أصيلة فيه.
كل أمور الإنسان بداية من إيجاده من عدم إلى الإمداد من عُدم هي هبة يمكن أنْ تسترد في يوم من الأيام، وكيف الحال إذا تكبَّرْتَ بمالك، ثم رآك الناس فقيراً، أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس عليلاً؟
إذن: فالتواضع والأدب أليَقُ بك، والتكبُّر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى، وكَوْنُ الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا.
ومَنْ أحب أن يرى مساواة الخَلْق أمام الخالق سبحانه، فلينظر إلى العبادات، ففيها استطراق العبودية في الناس، فحينما يُنادَى للصلاة مثلاً ترى الجميع سواسية: الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، الوزير مثلاً والخفير، الكل راكع أو ساجد، الكل خاضع لله مُتذلّل لله فقير لله، الكل عبيد لله بعد أنْ خلعوا أقدارهم، عندما خلعوا نعالهم، ففي ساحة الرحمن يتساوى الجميع، وتتجلى لنا هذه المساواة بصورة أوضح في مناسك الحج.
والأهم من هذا أن الرئيس أو الكبير لا يأنف، ولا يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلُّل، لماذا؟ لأن الخضوع هنا والتذلُّل لله، وهذا عين العِزَّة والشرف والكرامة.
ثم يقول تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} [الإسراء: 37].
في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المتكبرين، ولأصحاب الكبرياء الكاذب: كيف تتكبرون وتسيرون فخراً وخيلاء بشيء موهوب لكم غير ذاتي فيكم؟
فأنتم بهذا التكبُّر والتعالي لن تخرقوا الأرض، بل ستظل صلبة تتحداكم، وهي أدنى أجناس الوجود وتُدَاس بالأقدام، وكذلك الجبال وهي أيضاً جماد ستظل أعلى منكم قامةً ولن تطاولوها. والحق سبحانه وتعالى يُوبِّخ عبده المؤمن المكرم ليبقى له على التكريم في: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً..} [الإسراء: 37].
وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُوبِّخ أهل التكبُّر الكاذب أتى بأَدْنى أجناس الوجود بالأرض والجبال وهي جماد؛ لكنه قد يسمو على الإنسان ويفضُل عليه.
والناظر لأجناس الكون: الجماد والنبات والحيوان والإنسان، يجد الإنسان ينتفع بكل هذه الأجناس، فالجماد ينفع النبات، والحيوان والنبات ينفع الحيوان والإنسان، والحيوان ينفع الإنسان، وهكذا جميع الأجناس ُمُسخّرة في خدمة الإنسان، فما وظيفتك أنت أيها الإنسان؟ ومَنْ تخدم؟
لا بُدَّ أنْ يكون لك دَوْر في الكون ووظيفة في الحياة، وإلا كانت الأرض والحجر أفضل منك، فابحثْ لك عن مهمة في الوجود.
وفي فلسفة الحج أمر عجيب، فالجماد الذي هو أَدْنى الأجناس نجد له مكانة ومنزلة، فالكعبة حجر يطوف الناس من حوله، وفي ركنها الحجر الأسعد الذي سَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبيله وهو حجر، وعليه يتزاحم الناس ويتشرَّفون بتقبيله والتمسُّح به.
وهذا مظهر من مظاهر استطراق العبودية في الكون، فالإنسان المخدوم الأعلى لجميع الأجناس يرى الشرف والكرامة في تقبيل حجر.
وكذلك النبات يحْرُم قطعة، وإياك أن تمتدَّ يدك إليه، وكذلك الحيوان يحرُم صيْدَه، فهذه الأشياء التي تخدمني أتى الوقت الذي أخدمها وأُقدِّسها، وجعلها الحق سبحانه وتعالى مرة في العمر لنلمح الأصل، ولكي لا يغترَّ الإنسان بإنسانيته، وليعلم أن العبودية لله تعالى تَسْري في الكون كله.
فإياك أنها الإنسان أن تخدش هذا الاستطراق العبوديّ في الكون بمرح أو خُيَلاء أو تعالٍ.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}.

.تفسير الآية رقم (38):

{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}
أي: كُلُِّ ما تقدّم من وصايا وتوجيهات بداية من قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ..} [الإسراء: 22].
وهذه الأمور التي تقدَّمَتْ، والتي تحفظ للمجتمع توازنه وسلامته فيها السيئ وفيها الحسن، والسيئ هو المكروه من الله تعالى، والله تعالى لا يكره إلا ما خالف منهج العبودية له سبحانه، أما الإنسان فيكره ما يخالف هواه، ولا يتفق ومزاجه.
وهذه الأوامر والنواهي التي تقدَّمتْ يقولون: إنها الوصايا العَشْر التي نزلت على موسى عليه السلام والمقصود في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا..} [الأعراف: 145].
ولذلك يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة...}.

.تفسير الآية رقم (39):

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}
{ذَلِكَ} أي: ما تقدّم من الوصايا.
{الحكمة} هي: وَضعْ الشيء في مَوْضِعه المؤدّي للغاية منه، لِتظلَّ الحكمة سائدة في المجتمع تحفظه من الخلل والحمْق والسَّفَه والفساد.
وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ..} [الإسراء: 39].
لسائل أنْ يسأل: لماذا كرَّر هذا النهي، وقد سبق أنْ ذُكِر في استهلال المجموعة السابقة من الوصايا؟
الحق سبحانه وتعالى وضع لنا المنهج السليم الذي يُنظِّم حياة المجتمع، وقد بدأه بأن الإله واحد لا شريكَ له، ثم عدّل نظام المجتمع كله بطبقاته وطوائفه وأَرْسى قواعد الطُّهْر والعِفّة ليحفظ سلامة النسل، ودعا إلى تواضع الكُلِّ للكُلِّ.
فالحصيلة النهائية لهذه الوصايا أنْ يستقيم المجتمع، ويسعد أفراده بفضل هذا المنهج الإلهي.
إذن: فإياك أنْ تجعلَ معه إلهاً آخر، وكرَّر الحق سبحانه هذا النهي: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ..} [الإسراء: 39].
لأنه قد يأتي على الناس وقتٌ يُحْسنون الظن بعقول بعض المفكرين، فيأخذون بأقوالهم ويسيرون على مناهجهم، ويُفضّلونها على منهج الحق تبارك وتعالى، فيفتنون الناس عن قضايا دينهم الحق إلى قضايا أخرى يُوهِمون الناس أنها أفضل مما جاء به الدين.
إذن: لا يكفي أن تؤمن أولاً، ولكن احذر أنْ يُزحزك أحد عن دينك فلا تجعل مع الله إلهاً آخر يفتنك عن دينك، فتكون النتيجة: {فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} [الإسراء: 39] {مَلُوماً}: لأنك أتيتَ بما تُلاَم عليه، {مَّدْحُوراً}: أي: مطرود مُبْعَداً من رحمة الله، وهذا الجزاء في الآخرة.
أما الذي لا يؤمن بها، فلابد لكي نستطيع العيش معه في الدنيا، أن يُذيقه الله بعض العذاب، ويُعجِّله له في الدنيا قبل عذاب الآخرة، كما قال تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً..} [طه: 123-124] أي: في الدنيا.
وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في قصة ذي القرنين: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 86-87].
فقوله: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ..} [الكهف: 87] لأنه مُمكَّن في الأرض، ومَنُوط به حِفْظ ميزان الحياة واستقامتها، حتى عند الذين لا يُؤمنون بالآخرة، وإلا فلو أخَّرْنا العذاب عن هؤلاء إلى الآخرة لأفسدوا على الناس حياتهم، وعاثوا في الأرض يُعربِدون ويُفسِدون.
ولذلك لا يموت ظلوم في الكون حتى ينتقمَ الله منه، ويذيقه عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ولابد أنْ يراه المظلوم ليعلم أن عاقبة الظلم وخيمة، في حين أن المظلوم في رعاية الله وتأييده ينصره بما يشاء من نعمه وفضله، حتى أن الظالم لو علم بما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً...}.

.تفسير الآية رقم (40):

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}
لما جعل بعض المشركين لله ولداً، فمنهم مَنْ قالوا: المسيح ابن الله، ومنهم مَنْ قالوا: عزير ابن الله، ومنهم مَنْ قالوا: الملائكة بنات الله، فوبَّخهم الله تعالى: كيف تجعلون للخالق سبحانه البنات ولكم البنين، إنها قسمة جائرة، كما قال الحق سبحانه في آية أخرى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21-22].
أي: قسمة جائرة ظالمة.
قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ..} [الإسراء: 40] أي: اصطفاكم واختار لكم البنين، وأخذ لنفسه البنات؟
ويقول في آية أخرى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا..} [الزخرف: 15].
لذلك قال تعالى بعدها: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: 40] فوصف قولهم بأنه عظيم في القُبْح والافتراء على الله، كما قال في آية أخرى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم: 88-89].
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً}.