فصل: تفسير الآية رقم (41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (41):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)}
{صَرَّفْنَا} أي: حَوَّلْنا الشيء من حال إلى حال، ومنها قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرياح..} [البقرة: 164].
يعني تغييرها من حال إلى حال، فمرة: تراها سَكْسكَاً عليلة هادئة، ومرّة تجدها رُخَاءً أي: قوية، ومرة: تجدها إعصاراً مدمراً. والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء، وقد تكون عقيماً لا خير فيها. هذا هو المراد بالتصريف.
فمعنى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن} [الإسراء: 41].
أي: صرف مسألة ادعاء اتخاذ الله الأبناء في القرآن، وعالجها في كثير من المسائل؛ لأنه أمر مهم عالجه القرآن علاجاتٍ متعددة في مقامات مختلفة من سُوره، فتكرر ذِكْر هذه المسألة. والتكرار قد يكون في ذات الشيء، وقد يكون باللَّف بالشيء، كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ..} [الرحمن: 13].
وقوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [الإسراء: 41].
أي: بدلَ أنْ يذكروا ويعودوا إلى جَادّة الصواب ازدادوا إعراضاً ونفوراً. ولنا أن نسأل: لماذا الإعراض والنفور منهم؟
لأنهم أرادوا الاحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل الإسلام، ولكي نوضح المقصود بالسلطة الزمنية نقول: لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعيّ الذي وضعه البشر لم يَأْتِ أول الأمر، بل جاء نتيجة تسلُّط الكهنة، وكانوا هم أصحاب القانون يضعونَه باسم الدين، ويلزمون الناس به، ولكن لُوحِظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم، ثم بعد فترة يحكمون في نفس القضية بحكم مخالف للأول، فانصرف الناس عن أحكام الكهنة، ووضعوا لأنفسهم هذه القوانين الوضعية، وبذلك أصبح لهؤلاء ما يُسمَّى بالسلطة الزمنية.
وهذه السُّلْطة الزمنية هي التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته، وكانوا حينما يروْنَ عُبّاد الأصنام في مكة يقولون لهم: سيأتي زمان يُبعث فيه نبي في هذا البلد، وسوف نتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا.
وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لقد تنكَّر اليهود لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم على يقين من صِدْقه؛ لأن هذه الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية، وستقضي على السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل الإسلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً}.

.تفسير الآية رقم (42):

{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)}
أي: لو كان مع الله آلهة أخرى لَطلبتْ هذه الآلهةُ طريقاً إلى ذي العرش.
وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].
وهذه قضية: إما أنْ تكونَ صادقة، وإما أن تكون غير ذلك. فإنْ كانت صادقة فقد انتهتْ المسألة، وإنْ كانت غير صادقة، وهناك إله ثانٍ، فأين هو؟ لماذا لم نسمع به؟ فإنْ كان موجوداً، ولا يدري أو كان يدري بهذه القضية ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض، ففي كل الأحوال لا يستحق أن يكون إلهاً.
إذن: ما دام أن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية، ولم يَقُمْ له معارض فقد سَلِمتْ له هذه الدعوى.
وكلمة {ذِي العرش} لا تُقَال إلا لمَنْ استتبَّ له الأمر بعد عِرَاك وقتال، فيُصنع له كرسي أو سرير يجلس عليه.
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش، إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته، فإن غلبوا فقد انتهت المسألة، وإن غُلبوا فعلى الأقل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
أو: يبتغون إليه سبيلاً، ليكونوا من خَلْقه ومن عبيده؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون..} [النساء: 172].
ويقول: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].
فهؤلاء الذين أشركتموهم مع الله فقُلْتم: المسيح ابن الله، وعزيز ابن الله، والملائكة بنات الله، كُلُّ هؤلاء فقراء إلى الله يبتغون إليه الوسيلة، حتى أقربهم إلى الله وهم الملائكة يبتغون إلى الله الوسيلة فغيرهم إذن أَوْلَى.
وينزِّه الحق سبحانه نفسه، فيقول: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً}.

.تفسير الآية رقم (43):

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)}
وقوله {سُبْحَانَهُ} يعني تنزيهاً مطلقاً له تعالى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فلله تعالى ذات ليست كذاتك، وله صفات ليست كصفاتك، وله أفعال ليست كأفعالك؛ لأن الأشياء تختلف في الوجود بحَسْب المُوجِد لها.
فمثلاً: لو بني كُلٌّ من العمدة، ومأمور المركز، والمحافظ بيتاً، فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد للآخر، بحسب قدرته ومكانته. وكذلك لابد من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه، وبين رَبٍّ ومربوب، وبين عابد ومعبود.
إذن: كُلُّ الأشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس.
وقوله: {عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 43] أي: تعالى الله وتنزَّه عَمَّا يقول هؤلاء علواً كبيراً؛ لأن الناس تتفاوت في العلو.
ونلاحظ أن الحق سبحانه اختار(كبيراً) ولم يَقُلْ: أكبر. وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه المناسب؛ لأن كبيراً تعني: أن كل ما سواه صغير، لكن أكبر تعني أن ما دونه كبير أي: مُشَارِك له في الكِبَر.
لذلك نقول في نداء الصلاة: الله اكبر وهي صفة له سبحانه وليست من أسمائه؛ ذلك لأن من أعمال الحياة اليومية ما يمكن أن يُوصَف بأنه كبير، كأعمال الخير والسعي على الأرزاق، فهذه كبيرة، ولكن: الله اكبر.
ثم يقول تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ...}.

.تفسير الآية رقم (44):

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}
التسبيح: هو حيثية الإيمان بالله؛ لأنك لا تؤمن بشيء في شيء إلاَّ أنْ تثق أن مَنْ آمنت به فوقك في ذلك الشيء، فأنت لا تُوكِّل أحداً بعمل إلا إذا أيقنتَ أنه أقدر منك وأحكم وأعلم.
فإذا كنت قد آمنت بإله واحد، فحيثية ذلك الإيمان أن هذا الإله الواحد فوق كل المألوهين جميعاً، وليس لأحد شبه به، وإن اشترك معه في مُطْلَق الصفات، فالله غنيّ وأنت غِنَي، لكن غنى الله ذاتيّ وغِنَاك موهوب، يمكن أنْ يُسلب منك في أي وقت.
وكذلك في صفة الوجود، فالله تعالى موجود وأنت موجود، لكن وجوده تعالى لا عن عدم، بل هو وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت.
إذن: فتسبيح الله هو حيثية الإيمان به كإله، وإلا لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق أن يكون إلهاً.
والتسبيح: هو التنزيه، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد منْ خَلْقه مَنْ يُنزِّهه، والحق سبحانه مُنزَّه بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق؛ لأنه خالق قبل أن يخلق، كما نقول: فلان شاعر، أهو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم شاعر بذاته قبل أن يقول شعراً؟
الواقع أن الشعر موهبة، وملَكة عنده، ولولاها ما قال شعراً، إذن: هو شاعر قبل أن يقول.
كذلك فصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يوجد الخَلْق.
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة(سبح) يجدها بلفظ(سُبْحان) في أول الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى..} [الإسراء: 1].
ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه.
ثم بلفظ: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض..} [الحديد: 1].
بصيغة الماضي، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط، بل من السماوات والأرض، وهي خَلْق سابق للإنسان.
ثم يأتي بلفظ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض..} [الجمعة: 1].
بصيغة المضارع؛ ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع. إذن: ما دام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق مَنْ يُنزِّهه، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض، فلا تكُنْ أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1].
وقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ..} [الإسراء: 44].
أي: ما من شيء، كل ما يُقال له شيء. والشيء هو جنس الأجناس، فالمعنى أن كل ما في الوجود يُسبِّح بحمده تعالى.
وقد وقف العلماء أمام هذه الآية، وقالوا: أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين، وهندسة البناء، وحكمة الخلق، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى مُنزَّه ومُتعَالٍ وقادر، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط؛ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه.
وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..} [الإسراء: 44].
إذن: يوجد تسبيح دلالة فعلاً، لكنه ليس هو المقصود، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كُلّ بِلُغتِه.
فقوله تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..} [الإسراء: 44].
يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون، إنه تسبيح حقيقيّ ذاتيّ ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح، فقد قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..} [النور: 41].
إذن: كل شيء في الوجود عَلِم كيف يُصلّي لله، وكيف يُسبِّح لله، وفي القرآن آياتٌ تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عَالَم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لُغته، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها؟

وها هم الناس أنفسهم ولهم في الأداء القوليّ لغة يتفاهمون بها، ومع ذلك تختلف بينهم اللغات، ولا يفهم بعضهم بعضاً، فإذا ما تكلم الإنجليزي مع أنه يتكلم بألفاظ العربي ومع ذلك لا يفهمه؛ لأنه ما تعلَّم هذه اللغة.
واللغة ظاهرة اجتماعية، بمعنى أن الإنسان يحتاج للغة؛ لأنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه ليعطيه ما عنده من أفكار، ويسمع ما عنده من أفكار فلابد من اللغة لنقل هذه الأفكار، ولو أن الإنسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة؛ لأنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة.
واللغة لا ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة؛ لأنك لو أتيتَ بطفل إنجليزي مثلاً، ووضعتَه في بيئة عربية سيتكلم العربية؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة؛ لذلك إذا لم تسمع الأذن لا تستطيع أن تتكلم، ومن ذلك قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ..} [البقرة: 18].
فهم بُكْم لا يتكلمون؛ لأنهم صُمٌّ لم يسمعوا شيئاً، فإذا لم يسمع الإنسان اللفظ لا يستطيع أن يتحدثَ به؛ لأن ما تسمعه الأذن يحكيه اللسان.
إذن: بالسماع انتقلتْ اللغة، وكُلٌّ سمع من أبيه، ومن البيئة التي يعيش فيها، فإذا ما سلسلْتَ هذه المسألة ستصل إلى آدم عليه السلام وهنا يأتي السؤال: وممَّنْ سمع آدم اللغة التي تكلم بها؟
وقد حلَّ لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31].
وأكثر من ذلك، فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ولا تفهم عنه ما يقول، واللغة هي اللغة، كما حدث مع أبي علقمة النحوي، وكان يتقعَّر في كلامه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة، وقد أتعب بذلك مَنْ حوله، وخاصة غلامه الذي ضاق به ذَرْعاً لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر.
ويُروَي أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلامه:(أَصَقَعَتِ العَتَارِيفُ)؟ فردَّ عليه الغلام قائلاً:(زقْفَيْلَم).
وكانت المرة الأولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة، فقال: يا بني وما(زقْفَيْلَم)؟ قال: وما(صقعت العتاريف)؟ قال: أردتُ: أصاحت الديكة؟ فقال الغلام: وأنا أردتُ لم تَصِحْ.
إذن: فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم يكْفِنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات، وإنْ كنا لا نفهمها؛ لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط، ولكن اللغة أوسع من ذلك.
فهناك مثلاً لغة الإشارة، ولغة النظرات، ولغة التلغراف.
إذن: اللغة ليست اللسان فقط، بل هي استعداد لاصطلاح يُفْهم ويُتعارف عليه، فالخادم مثلاً يكفي أن ينظرَ إليه سيّده نظرة يفهم منها ما يريد، فهذه النظرة لَوْنٌ من ألوان الأداء.
والآن بدأنا نسمع عن قواميس يُسجّل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول.
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عَالَم لغة يتفاهم بها، كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ..} [الأنبياء: 79].
فالجبال تُسبّح مع داود، وتُسبِح مع غيره، ولكن المراد هنا أنها تُسبّح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة. إذن: فلابد أن داود عليه السلام قد فَهِم عنها وفهمتْ عنه.
وكذلك النملة التي تكلمتْ أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها، وتبسَّم ضاحكاً من قولها. وقد علَّمه الله منطقَ الطير. إذن: لكل جنس من الأجناس منطق يُسبّح الله به، ولكن لا نفقه هذا التسبيح؛ لأنه تسبيح بلغة مُؤدِّية مُعبّرة يتفاهم بها مَنْ عرف التواضع عليها.
وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقاً ينقاد له الجميع، حتى الكافر ينقاد لتنزيه الله قَهْراً عنه، مع أن لديه ملكةَ الاختيار بين الكفر أو الإيمان، لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه مُطْلقاً من الجماد والنبات والحيوان، ومن المؤمن والكافر. كيف ذلك؟
أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة(الله) فهو عَلَم على واجب الوجود، ثم تحدّى الكافرين أنْ يُسمُّوا أحداً بهذا الاسم، فقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65].
ومع ما عندهم من إِلْفٍ بالمخالفة وعناد بالإلحاد، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أنْ يُسمِّي ابناً له بهذا الاسم، ومعلوم أن التسمية أمر اختياريّ يطرأ على الجميع.
إذن: فهذا تنزيه لله تعالى، حتى من الكافر رَغْماً عنه، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبُّه به؛ ذلك لأنهم في كفرهم غير مقتنعين بالكفر، ويخافون بطش الله وانتقامه إنْ أقدموا على هذا العمل، لذلك لا يجرؤ أحد منهم أنْ يُجرِّب في نفسه مثل هذه التسمية.
وفي مجال العبادات، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى؛ لأن الناس كثيرا ما يتقربون لأمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة الله تعالى، فمنهم مَنْ ينحني خضوعاً لغيره؛ كأنه راكع أو ساجد، ومنهم مَنْ يمدح جباراً بأنه لا مثيلَ له، وتصل به المبالغة إلى جَعْله إلهاً في الأرض، ومنهم مَنْ يسجدُ للشمس كما فعل أهل سبأ وأخبر الهدهد عنهم بقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24].
ألسْنَا نرى إنساناً يتقرّب لأحد الحكام، بأن ينفق فيما يحبه هذا الحاكم، وكأنه يُخرِج زكاة ماله؟ ألسْنا نرى أحدهم يذهب كل يوم إلى قصر سيده، ويُوقّع في سجل التشريفات باسمه ليقدم بذلك فروض الولاء والطاعة؟
إذن: فالإيمان بالوحدانية في شيء متميز وارد عند الناس، والخضوع الزائد بالسجود أو بالركوع أو بالكلام وارد عند الناس.
لذلك تفرّد الحق سبحانه بفريضة الصوم، وجعلها خالصة له سبحانه، لا يتقرب بها أحد لأحد، وهل رأيت إنساناً يتقرّب لآخر بصوم؟ فانظر إلى هذه السُّبْحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه، فلا يجرؤ أحد أنْ يتسمى باسمه.
وفي العبادة لا يُصَام لأحد غيره تعالى، فلو تصوَّرنا أن يقول واحد للآخر: أنا سأتقرّب إليك بصوم هذا اليوم أو هذا الشهر، إذن: أنت تريد منه أن يجلس بجوارك يحرسك ويراعي صومك، فكأنك تريد له العنت والمشقة من حيث تريد أنت أنْ تتقرّب إليه.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
يعني من الممكن أن يتقرب بأيِّ ركن من أركان الإسلام لغيري، إلا الصوم، فلا يجرؤ أحد أنْ يتطوّع به أو يتقرب به لأحد.
إذن: فالسُّبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخَلْق؛ لذلك نقول للكافر: أيها الكافر لقد تأبَّيْتَ على الإيمان بالله، وللعاصي: لقد تأبيتَ على أوامر الله، وما دُمْتُم قد تأبيتم على الله، وألفتم هذا التأبِّي وهذا التمرد، فلماذا لا تتأبون على المرض إنْ أصابكم، وعلى الموت إنْ طرق بابكم؟
لماذا لا تتمرد على ملك الموت وتقول له: لن أموت اليوم؟! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى حتى على الكافر، فلا يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد.
وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادّة، وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الاختلاس أو التعدِّي على المال العام، فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبواباً للإنفاق تبتلع ما جمع من الحرام، وربما أخذت في طريقها الحلال أيضاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر).
فالتسبيح إذن لغة الكون كله، منه ما نفهمه، ومنه ما لا نفهمه، إلا مَنْ أطلعه الله عليه، فإذا مَنَّ الله على أحد وعلّمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد، فهمها وفقه عنها، كما أنعم بهذه النعم على داود وسليمان عليهما السلام.
ويقول سليمان عليه السلام شاكراً هذه النعمة: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} [النمل: 19].
فقول الحق سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ..} [الإسراء: 44].
يجب على العلماء أنْ ينقلوها من خاطر الدلالة إلى خاطر المقالة أيضاً، ولكنها مقالة، ولكنها مقالة بلغة يفهمها أصحابها إذا شاء الله لهم ذلك.
ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً..} [الإسراء: 44].
لأن الإنسانَ كثيراً ما يغفل الاستدلال بظواهر الكون وآياته دلالة الحال، فيقف على قدرة الله وبديع صُنْعه، وكذلك كثيراً ما يغفل عن تسبيح الله تسبيح المقالة؛ لذلك أخبر سبحانه أنه حليمٌ لا يعاجل الغافلين بالعقوبة، وغفور لمن تاب وأناب.
وهذا من رحمته سبحانه بعباده، فلولا أنْ يتداركَ الله العباد بهذه الرحمة لكان الإنسان سيد الكون أقلّ حظاً من الحيوان، ويكفي أن تتدبر قوله تعالى عن تسبيح المخلوقات له سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..} [الحج: 18].
فها هي جميع الأجناس من جماد ونبات وحيوان تسجد لله لا يتخلف منها شيء، فهي تسجد وتُسبّح بالإجماع، ولم ينقسم الأمر إلا في الإنسان السيّد المكرّم، ولكن لماذا الإنسان بالذات هو الذي يشذُّ عن منظومة التسبيح في الكون؟
نقول: لأنه المخلوق الوحيد الذي مَيَّزَهُ الله بالاختيار، وجعل له الحرية في أنْ يفعل أو لا يفعل، أما باقي المخلوقات فهي مُسخّرة مقهورة، فإن قال قائل: لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى الإنسان أيضاً مقهوراً كباقي المخلوقات؟
لقد جعل الله تعالى في الإنسان الاختيار لحكمة عالية، فالقهر يُثبتُ للحق سبحانه صفة القدرة على مخلوقه، فإذا قهره على شيء لا يشذ ولا يتخَلف، ولكنه لا يثبت صفة المحبوبية لله تعالى.
أما الاختيار فيثبت المحبوبية لله؛ لأنه خلقك مختاراً تؤمن أو تكفر، ومع ذلك اخترْتَ الإيمان حُباً في الله تعالى، وطاعة وخضوعاً، فأثبتَّ بذلك صفة المحبوبية.
وإياك أن تظن أن مَنْ يَعْصي الله يعصيه قهراً عن الله، بل بما ركَّب فيه من الاختيار، وقد يقول قائل: وما ذنب الإنسان أن يكون مختاراً من بين جميع المخلوقات؟
لو حققتَ هذه القضية منطقياً وفلسفياً لوجدتَ الكون كله كان مختاراً، وليس الإنسان فقط، لكن اختارت جميع المخلوقات أنْ تُسلِّم الأمر لله، وفضَّلتْ أن تكون مقهورة مسخرة من البداية، أما الإنسان ففضَّل الاختيار، وقال: سأعمل بحرص، وسأحمل الأمانة بإخلاص، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
وفي رَفْض هذه المخلوقات لتحمُّل الأمانة والاختيار دليل على العلم الواسع؛ لأنه يوجد فَرْق كبير بين قبول الأمانة وقت التحمُّل ووقت الأداء. فقد تتحمل الأمانة وأنت واثق من أدائها، لكن يطرأ عليك وقت الأداء مَا يحول بينك وبين أداء الأمانة.
والأمانة كما هو معروف لا تُوثَّق ولا تُكتب، وكثيراً ما يقع فيها التلاعب؛ لأنها لا تثبتُ إلا بذمّّة الآخذ الذي قد يضعف عن الأداء وتُلجِئه الأحداث إلى هذا التلاعب أو الإنكار، والأحداث قد تكون أقوى من الرجال.
فالإنسان إذن لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإنْ كان يضمنها وقت التحمُّل، ولهذا اختارت جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مُسيَّرة، أما الإنسان فقال: لي عقل وأستطيع التصرُّف والترجيح بين البدائل، فكان بذلك ظالماً لنفسه؛ لأنه لا يضمنها وقت الأداء، وجهولاً بما يكون من تغيُّر أحواله.
فالكون إذن ليس مقهوراً رَغْماً عنه، بل بإرادته واختياره، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رَغْماً عنه، بل بإرادته واختياره.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً}.