فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (47):

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)}
الحق سبحانه وتعالى لا يَخْفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه حقيقة كان على الكفار أنْ ينتبهوا إليها ويُراعوها، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله، فقد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: 8].
فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول: فهم قالوا في أنفسهم، ولم يقولوا لأحد، فمَنْ أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع، ومَنْ أطلعه عليه؟ أَلاَ يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله؟
وما دام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال، ولا يَخْفَى عليه شيء، فهو أعلم بأحوالهم هذه: الأول: يستمعون إليك. والثاني: وإذ هم نجوى. والثالث: إذ يقول الظالمون. إذن: هم يستمعون ثم يتناجون، ثم يقول بعضهم لبعض.
قالوا: إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حُبٍّ للغة وشغف بأساليب البيان؛ لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه، لتكون أوضح في التحدي، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل.
وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للأسلوب وملَكة عربية أصيلة، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها، ولديه منهج سيُقوِّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها.
ومن هنا كابروا وعاندوا، ووقفوا في وجه هذه الدعوة، وإنْ كانوا مُعْجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من مَلَكات عربية.
فيُرْوَى أن كباراً مثل: النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس ممن كانوا يقولون لهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] كانوا يذهبون إلى البيت يتسمَّعون لقراءة القرآن، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماع القرآن.
فقال تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ..} [الإسراء: 47].
أي: بالحال الذي يستمعون عليه، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب. ثم: {وَإِذْ هُمْ نجوى..} [الإسراء: 47] من التناجي وهو الكلام سِرّاً، أو: أن نَجْوى جمع نجى، كقتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى.
فالمعنى: نحن أعلم بما يستمعون إليه، وإذ هم متناجون أو نجوى، فكأن كل حالهم تناجٍ.
وقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى..} [الإسراء: 47].
فيه مبالغة، كما تقول: رجل عادل، ورجل عَدْل.
ومِنْ تناجيهم مَا قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن: (والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه).
ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهم: {إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47].
وهذا هو القول المعْلَن عندهم، أن يتهموا رسول الله بالسحر مرة، وبالجنون أخرى، ومرة قالوا: شاعر. وأخرى قالوا: كاهن. وهذا كله إفلاس في الحجة، ودليل على غبائهم العقديّ.
وكلمة {مَّسْحُوراً} اسم مفعول من السحر، وهي تخييل الفِعْل. وليس فعلاً، وتخييل القَوْل وليس قولاً، فهي صَرْف للنظر عن إدراك الحقائق، أما الحقائق فهي ثابتة لا تتغير.
لذلك نقول: إن معجزة موسى عليه السلام من جنس السحر وليست سِحْراً؛ لأن ما جرى فيها كان حقيقة لا سِحْراً، فقد انقلبتْ العصا حَيَّة تبتلع حبال السحرة وعِصيّهم على وَجْه الحقيقة، لكن لما كانت المعجزة في مجال السحر ظنها الناسُ سِحْراً؛ لأن القرآن قال في سحرة فرعون: {سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] وقال في آية أخرى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66].
إذن: فحقيقة الأشياء ثابتة لا تتغير، فالساحر يرى العصا عصا، أما المسحور فيراها حية، وليست كذلك مسألة موسى عليه السلام وليؤكد لنا الحق سبحانه هذا المعنى، وأن ما حدث من موسى ليس من سحرهم وتغفيلهم أنه حينما قال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17].
فأطال موسى عليه السلام الكلام؛ لأنه أحب الأُنْس بالكلام مع ربه تعالى فأجاب: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي...} [طه: 18] ثم أحس موسى أنه أطال فقال موجزاً: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18].
فهذا هو مدى عِلْمه عن العصا التي في يده، لكن الله تعالى سيجعلها غير ذلك، فقال له: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 19-20].
فهل خُيِّل لموسى أنها حيَّة وهي عصا؟ أم أنها انقلبت حيّة فعلاً؟ إنها حية فعلاً على وجه الحقيقة، بدليل قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67].
وموسى لم يَخَفْ إلا لأنه وجد العصا حيّة حقيقية، ثم طمأنه ربه: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} [طه: 68].
لذلك لما رأى السحرة ما تفعله عصا موسى علموا أنها ليست سحراً، بل هي شيء خارج عن نطاق السحر والسحرة، وفوق قدرة موسى عليه السلام، فآمنوا بربِّ موسى القادر وحده على إجراء مثل هذه المعجزة.
وقوله تعالى: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47].
أي: سحره غيره. وهذا قوْل الظالمين الذين يُلفِّقون لرسول الله التهمة بعد الأخرى، وقد قالوا أيضاً: ساحر. قال تعالى: {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2].
فمرّة قُلْتم: ساحر. ومرة قلتم: مسحور. وهذا دليل التخبُّط واللَّجج، فإن كان ساحراً فعندكم من السحرة كثيرون، فلماذا لا يُواجِهونه بسحر مثل سِحْره؟ ولماذا لم يسحركم أنتم كما سحر غيركم وتنتهي المسألة؟ وهل يمكن أن يُسْحر الساحر؟
وإنْ كان مسحوراً سحره غيره، فهل جرَّبْتُم عليه في سحره كلاماً مخالفاً لواقع؟ هل سمعتموه يهذي كما يهذي المسحور؟ إذن: فهذا اتهام بطل وقول كاذب لا أصل له، بدليل أنكم تأبَّيتم عليه، ولم يُصِبْكم منه أذى.
فلما أخفقوا في هذه التهمة ذهبوا إلى ناحية أخرى فقالوا: شاعر، وبالله أَمِثْلُكم أيها العرب، يا أربابَ اللغة والفصاحة والبيان يَخْفي عليه أن يُفرِّق بين الشعر والنثر؟ والقرآن وأسلوب متفرد بذاته، لا هو شعر، ولا هو نثر، ولا هو مسجوع، ولا هو مُرْسل، إنه نسيج وحده.
لذلك نجد أهل الأدب يُقسِّمون الكلام إلى قسمين: كلام الله وكلام البشر، فكلام البشر قسمان: شعر ونثر ويخرج كلام الله تعالى من دائرة التقسيم؛ لأنه متفرد بذاته عن كل كلام.
فلو قرأت مثلاً في كتب الأدب تجد الكاتب يقول: هذا العدل محمود عواقبه، وهذه النَّبْوة غُمّة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأُ الدِّلاَء فَيْضاً أحفلُها، وأثقل السحائب مَشْياً أحفلها، ومع اليوم غد، ولكلِّ أجل كتاب، له الحمد على احتباله، ولا عتب عليه في احتفاله.
فإِنْ يَكن الفِعْلُ الذي سَاءَ وَاحِداً ** فأَفْعالُه الَّلائِي سُرِرْنَ أُلُوفُ

فلا شكَّ أنك ستعرف انتقالك من النثر إلى الشعر، وسوف تُميِّز أذنك بين الأسلوبين، لكن أسلوب القرآن غير ذلك، فأنت تقرأ آياته فتجدها تناسب انسياباً لا تلحظ فيه أنكَ انتقلتَ من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر، واقرأ قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49].
أَجْرِ عليه ما يُجريه أهل الشعر من الوزن، فسوف تجد بها وزناً شعرياً: مستفعل فاعلات.. وكذلك: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} [الحجر: 50] تعطيك الشطر الثاني من البيت، لكن هل لاحظتَ ذلك في سياق الآيات؟ وهل لاحظتَ أنك انتقلت من شعر إلى نثر، أو من نثر إلى شعر؟
إذن: فالقرآن نسيج فريد لا يُقال له: شعر ولا نثر، وهذا الأمر لا يَخْفى على العربي الذي تمرَّس في اللغة شعرها ونثرها، ويستطيع تمييز الجيِّد من الرديء.
ثم يقول الحق سبحانه: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}.

.تفسير الآية رقم (48):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)}
أي: تعجَّبْ مما هم فيه من تخبُّط ولَجج، فمرَّة يقولون عن القرآن: سحر ومرة يقولون: شعر، ويصفونك بأنك: شاعر، وكاهن، وساحر.
ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلاثة: مُرسِل، وهو الحق سبحانه وتعالى، ومُرسَل وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومُرْسَلٌ به وهو القرآن الكريم، وقد تخبّط الكفار في هذه الثلاثة ودعاهم الظلم إلى أن يقول فيها قولاً كاذباً افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه.
وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وقولهم عن القضية الإيمانية العامة: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
أهذه دعوة يدعو بها عاقل؟! فبدل أنْ يقولوا: فاهدنا إليه تراهم يُفضّلون الموت على سماع القرآن، وهذا دليل على كِبْرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم ورِفْعة منزلته حتى عند الكافرين به، يردُّ على الكافرين افتراءهم، ويُطمئِن قلب رسوله، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ..} [الأنعام: 33].
أي: قولهم لك: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
فليست المسألة عندك يا محمد، فهُمْ مع كفرهم لا يكذبونك ولا يجرؤن على ذلك ولا يتهمونك، إنما المسألة أنهم يجحدون بآياتي، وكُلٌّ تصرفاتهم في مقام الألوهية، وفي مقام النبوة، وفي مقام الكتاب ناشئة عن الظلم.
وقولهم عن رسول الله: مجنون قوْلٌ كاذب بعيد عن الواقع؛ لأن ما هو الجنون؟ الجنون أن تُفسِد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل، والجنون قد يكون بسبب خَلْقي أي: خلقه الله تعالى هكذا، أو بسبب طارئ كأنْ يُضربَ الإنسان على رأسه مثلاً، فيختلّ عنده مجال التفكير.
ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخَّرَ له التكليف إلى سِنَّ البلوغ واكتمال العقل، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله؛ لأنه لو كلّفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سِنِّ التكليف لِيُعَوِّده الصلاة من الصغير ليكون على إِلْفٍ بها حين يبلغ سِنّ التكليف، وليألف صيغة الأمر من الآمر.
والإنسان لا يشك في حُبّ أبيه وحِرْصه على مصلحته، فهو الذي يُربّيه ويُوفّر له كل ما يحتاج، فله ثقة بالأب المحس، فالحق سبحانه يريد أنْ يُربِّبَ فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق؛ لأنها أصبحتْ عادة.
والذي أعطى للأب حَقَّ الأمر أعطاه حَقّ العقاب على ترْكه ليكون التكليف من الرب الصغير، والعقوبة من الرب الصغير لِتُعوِّده بالأُبُوة المحسَّة والرحمة الظاهرة على طاعة الحق سبحانه الذي أنعم عليَّ وعليك.
فالعقل إذن شرْط أساسي في التكليف، وهو العقل الناضج الحرّ غير المكْره، فإنْ حدث إكراه فلا تكليف.
فقوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال..} [الإسراء: 48].
أي: قالوا مجنون، والمجنون ليس عنده اختيار بين البدائل، وقد رَدَّ الحق سبحانه عليهم بقوله: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ ما أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4].
فنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة، وأثبت له صفة الخُلق العظيم، والمجنون لا خُلقَ له، ولا يُحاسَب على تصرفاته، فهو يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا، ولا نملك إلا أنْ نبتسم في وجهه ونُشفِق عليه.
ولقائل أنْ يقول: كيف يسلبه الخالق سبحانه وتعالى نعمة العقل، وهو الإنسان الذي كرّمه الله؟ وكيف يعيش هكذا مجرد نسخة لإنسان؟
ولنعلم الحكمة من هذه القضية علينا أنْ نُقارن بين حال العقلاء وحال المجنون، لنعرف عدالة السماء وحكمة الخالق سبحانه، فالعاقل نحاسبه على كل كبيرة وصغيرة ومقتضى ما تطلبه من عظمة في الكون، ومن جاه وسلطان ألاَ يُعقّب على كلامك أحد، وأنْ تفعلَ ما تريد.
أَلاَ ترى أن المجنون كذلك يقول ويفعل ما يريد، ثم يمتاز عنك أن لا يسأل في الدنيا ولا في الآخرة؟ أليست هذه كافية لتُعوِّضه عن فقد العقل؟ فلا تنظر إلى ما سلب منه، ولكن إلى ما أعطاه من مَيْزات في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} [الإسراء: 48].
أي: لم يستطيعوا أنْ يأتُوا بمثَلٍ يكون صَاداً وصارفاً لمن يؤمن بك أنْ يؤمن، فقالوا: مجنون وكذبوا. وقالوا: ساحر وكذبوا وقالوا: شاعر وكذبوا. وقالوا: كاهن وكذبوا. فَسُدّتْ الطرق في وجوههم، ولم يجدوا مَنْفَذاً لِصَدِّ الناس عن رسول الله.
فلما عجزوا عن إيجاد وَصْف يصدُّ مَنْ يريد الإيمان برسول الله، قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
ومنهم من قال: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فلم يستطيعوا إيجاد سبيل يُعَوقون به دعوتك، بدليل أنه رغم ضَعْف الدعوة في بدايتها، ورغم اضطهادهم لها تراها تزداد يوماً بعد يوم، وتتسع رُقْعة الإيمان، أما كَيْدهم وتدبيرهم فيتجمّد أو يقلّ.
كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا..} [الرعد: 41].
فكل يوم تزداد أرض الإيمان، وتِقلُّ أرض الكفر.
والحق سبحانه وتعالى في قضية استماع القرآن وقولهم: قلوبنا في أكنة، وقلوبنا غلف يريد أن يُلفِتَ أنظارنا إلى قضية هامة في الوجود ومنتظمة في كل الكائنات، وهي أن الأفعال تقتضي فاعلاً للحدث وقابلاً لفعل الحدث، ومثال ذلك: الفلاح الذي يُقلِّب التربة بفأسه، فتقبل التربة منه هذا الفعل، وتنفعل هي معه، فتعطيه ما ينتظره من محصول.
أما لو فعل هذا الفعل في صخرة فلن تقبل منه هذا الفعل. إذن: فثمرة الحدث تتوقف على طرفين: فاعل، وقابل للفعل.
لذلك أتعجب من هؤلاء الذين يقولون: إن الغرب يفتن المسلمين عن دينهم، ويأتي إلينا بالمغْريات وأسباب الانحراف، ويُصدّر إلينا المبادئ الهدامة ويُشككنا في ديننا.. إلخ.
ونقول لهؤلاء: مَا يضركم أنتم إنْ فعل هو ولم تقبلوا أنتم منه هذا الفعل؟! دَعُوه يفعل ما يريد، المهم ألاَّ نقبلَ وألاَّ نتفاعلَ مع مقولاته ومبادئه. فالخيبة ليست في فعل الغرب بنا، ولكن في تقبُّلنا نحن ولَهْثنا وراء كُلِّ ما يأتينا من ناحيته، وما ذلك إلا لِقلّة الخميرة الإيمانية في نفوسنا، فالغرب يريد أنْ يُثبِّت نفوذه، ويثبت مبادئه، وما عليك إلاّ أنْ تتأبّى على قبول مثل هذه الضلالات.
وعلى نظرية الفاعل والقابل هذه تُبنَى الحضارات في العالم كله؛ لأن الخالق سبحانه حينما استدعانا إلى الوجود جعل لنا فيه مُقوِّمات الحياة الأساسية من: شمس، وقمر، ونجوم، وأرض، وسماء، وماء، وهواء. ومن هذه المقوّمات ما يعطيك ويخدمك دون أنْ تتفاعَل معه أو تطلبَ منه، كالشمس والماء والهواء، ومنها ما لا يعطيك إلاَّإذا تفاعلتَ معه مثل الأرض لا تعطيك إلا إذا تعهدتها بالحرث والسَّقْي والبَذْر.
والمتأمل في الكون يجد أن جميع ارتقاءات البشر من هذا النوع الثاني الذي لا يعطيك إلا إذا تفاعلتَ معه، وقد ترتقي الطموحات البشرية إلى أن تجعلَ من النوع الأول الذي يعطيك دون أن تتفاعلَ معه ومن غير سلطان لك عليه، تجعل منه مُنْفَعِلاً بعملك فيه، كما يحدث الآن في استعمال الطاقة الشمسية في مجالات جديدة لم تكُنْ من قبل. إذن: فهذه ارتقاءاتٌ لا يُحْرَم منها مَنْ أخذ بالأسباب وسَعَى إلى الرُّقيّ والتقدم.
إذن: إنْ جاء يُشكِّك في دينك نَدَعْهُ، وما يقول فليس بملوم، إنما الملوم أنت إنْ قبلْتَ منه؛ ولذلك يجب علينا وعلى كُلّ قائم على تربية النشء أنْ نُحصِّن أولادنا ضد هجمات الإلحاد والتنصير والتغريب، ونُعلِّمهم من أساسيات الدين ما يُمكِّنهم من الدفاع والردِّ بالحجة والإقناع حتى لا يقعوا فريسة سَهْلة في أيدي هؤلاء.
وهذه هي المناعة المطلوبة وما أشبهها بما نستخدمه في الماديات من التطعيم ضد المرض، حتى إذا طرأ على الجسم لا يؤثر فيه. ألاَ ترى الحق سبحانه في قرآنه الكريم يَعْرِض لِشُبَه الكافرين والملاحدة ويُفصِّلها ويُناقشها، ثم يبين زَيْفها، فيقول: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5].
فلماذا يعرضها القرآن، هل لنأخذ بها ونتعلمها؟ لا بل لكي لا نُفَاجأ بها، فإذا أَتَتْ يكون لدينا المناعة الكافية ضِدّها، ولكي تتربّى فينا الحصانة المانعة من الانزلاق أو الانحراف.
إذن: فأصول الحياة فاعل وقابل، وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا: في الشتاء ينفخ الإنسان في يده ليدفئها، وكذلك ينفخ في كوب الشاي ليبرده، فالفعل واحد ولكن القابل مختلف. وكذلك حال الناس في سماع القرآن واستقبال كلمات الله، فقد استقبله أحد الكفار في حال هدوء وانسجام، فقال: (والله إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغْدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه) لقد استمعه بملكَة العربي الشَّغُوف بكل ما هو جميل من القَوْل، لا بملَكِة العناد والكِبْر والغطرسة.
وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه له حالان في سماع القرآن: حال كفر وشدة وغلظة عند سماع القرآن، وحال إيمان ورقَّة قلب حينما بلغه نبأ إسلام أخته، فأسرع إليها وهي تقرأ القرآن فصفَعها بقسْوة حتى أَدْمَى وجهها، فأخذتْه عاطفة الرحم، وتغلبت على عاطفة الكفر عنده، فلما سمع القرآنَ بهذه العاطفة الحانية تأثَّر به، فآمن مِنْ فَوْره؛ لأن القرآن صادف منه قَلْباً صافياً، فلابد أَنْ يُؤثِّر فيه.
فالمسألة إذن تحتاج أن يكون لدى القابل استعداد لِتقبُّل الشيء والانفعال به.
وقد لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً..} [محمد: 16].
فيأتي الرد عليهم: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى..} [فصلت: 44].
فالقرآن واحد، ولكن المستقبل مختلف، إذن: فإياك أنْ تلوم مَنْ يريد أن يلويَ الناس إلى طريق الضلال، بل دَعْه في ضلاله، ورَبِّ في الآخرين مناعة حتى لا يتأثروا ولا يستجيبوا له.
بعد أن تكلمنا عن موقف الكفار من الألوهية ومن النبوة نتكلم من موقفهم من المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا المنهج يتضمن قضايا كثيرة وأموراً متعددة، لكن أم هذا المنهج وأساسه أن نؤمن بالآخرة، وما دُمْنَا نؤمن بالآخرة فسوف تنسجم حركتنا في الحياة. فالإيمان بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب هو الحافز لنا على العمل والاستقامة في الدنيا، وما أشبه ذلك بالتلميذ الذي يجتهد ويجدّ؛ لأنه يؤمن بالامتحان آخر العام، وما ينتج عنه من توفيق أو إخفاق.
غبيّ مَنْ يظن أن الدنيا هي نهاية المطاف، وأنها الغاية التي ليس بعدها غاية؛ لأن الجميع عبيدٌ لله تعالى متساوون.. ومع ذلك نرى مَنْ يموت في بطن أمه، ومَنْ يموت بعد عدة شهور، وآخر بعد عدة أعوام، فلو أن الدنيا هي الغاية لاستوى الجميع في المكْث فيها، فاختلاف الأعمار في الدنيا دليل على أنها ليست غاية.
وعجيب في أمر الموت أن نرى الناس يحزنون كثيراً على مَنْ مات صغيراً ويقولون: أُخِذ في شبابه ويُكثِرون عليه العويل، لماذا؟ يقولون: لأنه لم يتمتع بالدنيا، سبحان الله أي دنيا هذه التي تتحدثون عنها، وقد اختاره الله قبل أنْ تُلوّثه آثامها وتُلطّخه ذنوبها، لماذا تحزنون كل هذا الحزن ولو رأيتم ما هو فيه لحسدتموه عليه؟
والناس كثيراً ما يُخطِئون في تقدير الغايات؛ لأن كل حَدَث يُحدِثه الإنسان له غاية من هذا الحدث، هذه الغاية مرحلية وليست نهائية، فالغاية النهائية والحقيقية ما ليس بعدها غاية أخرى، فالتلميذ يذاكر بالمرحلة الابتدائية لينتقل إلى المرحلة الإعدادية، ويذاكر الإعدادية لينتقلَ إلى الثانوية.
وهكذا تتوالى الغايات في الدنيا إلى أنْ يصل إلى غاية الدنيا الأخيرة، وهي أن يبني بيتاً ويتزوج ويعيش حياة سعيدة يرتاح فيها بما تحت يديه من خدم، يقضون له ما يريد، هذا على فرض أنه سيعيش حتى يكمل هذه المراحل، ولكن ربما مات قبل أنْ يصلَ إلى هذه الغاية.
إذن: فلابد للإنسان أنْ يتعبَ أولاً، ويبذل المجهود ليصبح مخدوماً، وهذه المخدومية تتناسب مع مجهودك الأول، فَمن اكتفى بالإعدادية مثلاً ليس كمن تخرّج من الجامعة، فلكُلٍّ مرتبته ومكانته؛ لأنك تعيش في الدنيا بالأسباب وعلى قَدْر ما تعطي تأخذ.
إذن: فغايتك في الدنيا أن تكون مخدوماً، مع أن خادمك قد يتمرَّد عليك وقد يتركك، أما غاية الآخرة فسوف تُوفّر عليك هذا كله، وليس لأحد علاقة بك إلا ذاتك أنت، فبمجرد أنْ يخطر الشيء على بالك تجده أمامك؛ ذلك لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب، وفي الآخرة تعيش بمُسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى.
وكذلك لو أجريتَ مقارنة اقتصادية بين متعة الدنيا ومتعة الآخرة لرجحَتْ كِفّة الآخرة؛ لأن الدنيا بالنسبة لك هي عمرك فيها فقط، وليس عمر الدنيا كله، كما يحلو للبعض أنْ يُحدِّد عمر الدنيا بعدة ملايين من السنين، فما دَخْلك أنت بكل هذه الملايين؟!
فالدنيا إذن هي عمري فيها، وهذا العمر مظنون غير مُتيقّن، وعلى فرض أنه مُتيقّن فهو خاضع لمتوسط الأعمار، وسوف ينتهي حتماً بالموت. أَضِفْ إلى ذلك أن نعيمك في الدنيا على قَدْر سَعْيك وأَخْذِك بأسبابها.
أما الآخرة فهي باقية لا نهاية لها، فلا يعتريها زوال ولا يُنهيها الموت، كما أن مُدتها مُتيقّنة وليس مظنونة، ونعيمك فيها ليس على قَدْر إمكانياتك، ولكن على قدر إمكانيات خالقك سبحانه وتعالى.
فأيّهما أحسن؟ وأيُّهما أَوْلَى بالسَّعْي والعمل؟ ويكفي أنك في الدنيا مهماً توفَّر لك من النعيم، وإنْ كنت في قمة النعيم بين أهلها فإنه يُنغّص عليك هذا النعيمَ أمران: فأنت تخاف أنْ تفوتَ هذا النعيم بالموت، وتخاف أن يفوتك هو بالفقر، فهي نعمة مُكدّرة، أما في الآخرة فلا تخاف أن تفوتها، ولا أن تفوتك، فأيُّ الصفقتين أربح إذن؟
ثم يقول الحق سبحانه عن إنكارهم للبعث بعد الموت: {وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً}.