فصل: تفسير الآية رقم (190):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (190):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتاق هو وصحابته إلى البيت الحرام، وأرادوا أن يعتمروا، فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة. وأرادوا أن يؤدوا العمرة. فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية، ووقفت أمامهم قريش وقالت: لا يمكن أن يدخل محمدٌ وأصحابه مكة.
وقامت مفاوضات بين الطرفين، ورضي رسول الله بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي في العام القادم، وتُخلى لهم مكة ثلاثة أيام في شهر ذي القعدة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين ومقصرين، وشاع ذلك الخبر، وفرح به المسلمون وسعدوا، ثم فوجئوا بمفاوضات رسول الله ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو متراً من مكة وحزن الصحابة. حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست رسول الله؟ ألست على الحق؟ فرد عليه سيدنا أبو بكر قائلا: الزم غرزك يا عمر إنه لرسول الله.
وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وهو موقف يعبر عن الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة. فحينما دخل عليها رسول الله وقال لها: هلك المسلمون يا أم سلمة، أمرتهم فلم يمتثلوا.
فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموماً، هنا تتجلى وظيفتها في السكن، قالت أم سلمة: اعذرهم يا رسول الله؛ إنهم مكروبون. كانت نفوسهم مشتاقة لأن يدخلوا بيت الله الحرام محلقين ومقصرين، ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها، اعمد إلى ما أمرك الله فافعله ولا تُكلم أحداً، فإن رأوك فعلت، علموا أن ذلك عزيمة.
وأخذ رسول الله بنصيحة أم سلمة، وصنع ما أمره به الله، وتبعه كل المسلمين، وانتهت المسألة. وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ الله أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف حتى لا يظل الشرخ في نفوس المؤمنين، وتلك عملية نفسية شاقة، لذلك لم يُطل الله عليهم السبب، وجاء بالعلة قائلا لهم: ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم مندسون بين الكفار، فلو أنكم دخلتم، وقاتلوكم، ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين، فتقتلون إخوانا لكم، فلو كان هؤلاء الإخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لأذنت لكم بقتال المشركين؛ كما تريدون. واقرأ قول الله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25].
بعد نزول الآية عرف المسلمون أن الامتناع كان لعلة ولحكمة، فلما جاءوا في العام التالي قال الله لهم: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
وكان الحق يطمئنهم، فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون في ذي القعدة من العام القادم. وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض قريش العهد وتقاتلهم، ونزل قول الحق: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [البقرة: 190].
وعندما نتأمل قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} فإننا نجد أن الحق سبحانه يؤكد على كلمة {فِي سَبِيلِ الله} لأنه يريد أن يضع حداً لجبروت البشر، ولابد أن تكون نية القتال في سبيل الله لا أن يكون القتال بنية الاستعلاء والجبروت والطغيان فلا قتال من أجل الحياة، أو المال أو لضمان سوق اقتصادي، وإنما القتال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دين الله، هذا هو غرض القتال في الإسلام.
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} والحق ينهى عن الاعتداء، أي لا يقاتل مسلم من لم يقاتله ولا يعتدي.
وهب أن قريشا هي التي قاتلت، ولكن أناساً كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا المسلمين مع أنهم في جانب من قاتل، لذلك لا يجوز قتالهم، نعم على قدر الفعل يكون رد الفعل. ماذا؟ لأن في قتال النساء والعجزة اعتداء، وهو سبحانه لا يحب المعتدين. لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد العدوان، ولا بداية عدوان.
ويقول الحق من بعد ذلك: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل...}.

.تفسير الآية رقم (191):

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}
ونحن نسمع كلمة (ثقافة)، وكلمة (ثقاف)، والثقافة هي يسر التعلم، أو أن تلم بطرف من الأشياء المتعددة، وبذلك يصبح فلان مثقفاً أي لديه كمٌّ من المعلومات، ويعرف بعض الشيء عن كل شيء، ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد.
كل هذه المعاني مأخوذة من الأمور المحسة، والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن، فقد كان العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحاً وعصياً، والغصن قد يكون معوجاً أو به نتوء، فكان العربي يثقفه، أي يزيل زوائده واعوجاجه، ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف ليقوِّم بها المعوج من الأغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء.
كأن المُثَقِّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون؛ فهو يعرف هذه وتلك، وأصبح ذا تقويم سليم. وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا. وقوله: {ثَقِفْتُمُوهُم} أي (وجدتموهم)، فثقف الشيء أي وجده.
والحق يقول: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم} [الأنفال: 57].
أي شردهم حيث تجدهم. ويقول الحق: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} أي لا تقولوا إنهم أخرجوكم من هنا، وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم، أي من أي مكان أنتم فيه، وعن ذلك لن تكونوا معتدين. وقوله تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى منها قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
وقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا...} [الشورى: 40].
وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (قد يرد هذا الخاطر) أخذت حقي ممن أساء إلي، وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي، هل يقال: إنني فعلت سيئة؟
وحتى نفهم المسألة نقول: الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الأحايين بلفظ (المشاكلة) وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته، ومثل ذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله}، إن الله لا يمكر، وإنما اللفظ جاء للمشاكلة، أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة {سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن المسيء، يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الآية بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} وبمثل ذلك كان ختام الآية السابقة {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}.
ويقول الحق: {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل}، والفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فصائغ الذهب يأخذ قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر، فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج ويبقى الذهب خالصا، فكأن الفتنة ابتلاء واختبار، وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل، فقد حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب، فخرج المؤمنون فراراً بدينهم.
والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام، فلا ينتهكوها بالقتال إلا إذا قاتلهم أهل الشرك.
وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسقط من أيدي خصوم الإسلام ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين، فهم يعلمون أن المؤمنين بالإسلام سيحترمون الأشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الإحرام فلا يقاتلون؛ وربما أغرى ذلك خصوم الإسلام ألا يقاتلوا المسلمين إلا في الأشهر الحرم، ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون أن يقاتلوهم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشرع لهم ما يناسب مثل هذا الأمر فأذن لهم في القتال، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، وإن قاتلوكم في المكان الحرام فقاتلوهم في المكان الحرام، وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم؛ لأن الحرمات قصاص.
إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين. إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن كان القتال في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الإحرام صعباً وشديداً فالفتنة في دين الله أشد من القتل، لأن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس دينهم، صحيح أنها لا تعوق الناس عن أن يتدينوا، ولكنها تفتن الذين تدينوا، وقد حاولوا إجبار المسلمين الأوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين، وكان ذلك أشد من القتل لأنها فتنة في الدين.
إن الله هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين الله ويُحملون على الشرك به ثم تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراماً إلا لأن الله هو الذي حرمه، فالفتنة في الله شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر الحرام، ولذلك فلا داعي أن يتحرج أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في دينه. وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعاً.
وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعاً كما يريد خصوم الإسلام أن يجعلوه دفاعاً عَمّن آمن فقط؟ أو كما يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام أنه دين قتال ويقولون: لا، الإسلام إنما جاء بقتال الدفاع فقط. نقول لهؤلاء: قتال الدفاع عَمَّن؟ هل دفاع عَمَّن آمن فقط؟ أم عن مطلق إنسان نريد أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه؟
هو دفاع أيضاً، وسنسميه دفاعاً، ولكنه دفاع عَمَّن آمن، ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه، وأيضاً عَمَّن لم يؤمن ندفع عنه من يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره، لا لنحمله على الدين، ولكن لنجعله حراً في الاختيار؛ فالقوى التي تفرض على الناس ديناً نزيحها من الطريق، ونعلن دعوة الإسلام، فمَنْ وقف أمام هذه الدعوة نحاربه؛ لأنه يفسد على الناس اختيار دينهم، وفي هذا أيضاً دفاع.
{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} لأنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم الله للمسجد الحرام، لكن إذا هم اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها المسلمون أن تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه. {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جزاء الكافرين فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وما أسمى هذا الدين.
إننا لا نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى الإيمان بما قدمت أيديهم من الاجتراء على أهل الإيمان ما داموا قد آمنوا، ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن الخطاب: وأشار رجل وقال: هذا قاتل زيد. فقال عمر: وماذا أصنع به وقد أسلم؟ لقد عصم الإسلام دمه.
لقد انتهت المسألة بإسلامه، فالإيمان بالله أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه وحين يؤمن فقد انتهت الخصومة. وهذا وحشي قاتل حمزة، يقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما يصنعه رسول الله هو أن يزوي وجهه عنه، لكنه لا يقتله ولا يثأر منه. وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت كبد حمزة، أسلمت وانتهت فعلتها بإسلامها. إذن، فالإسلام ليس دين حقد ولا ثأر ولا تصفية حسابات، فإذا كان الدم يغلي في مواجهة الكفر، فإن إيمان الكافر بالإسلام يعطيه السلامة، هذا هو الدين.

.تفسير الآية رقم (192):

{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}
أي ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بالله وَزُجِروا بالدين الآمر فانزجروا عن الكفر، بعدها لا شيء لنا عندهم؛ لأن الله غفور رحيم، فلا يصح أن يشيع في نفوسنا الحقد على ما فعلوه بنا قديما، بل نحتسب ذلك عند الله، وما داموا قد آمنوا فذلك يكفينا. والحق سبحانه وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ...}.

.تفسير الآية رقم (193):

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
وعرفنا أن الفتنة ابتلاء واختبار والحق يقول: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
إن الحق يختبر الإيمان بالفتنة، ويرى الذين يُعلنون الإيمان هل يصبرون على ما فيه من ابتلاءآت أم لا؟ فلو كان دخول الإسلام لا يترتب عليه دخول في حرب أو قتال ولا يترتب عليه استشهاد بعض المؤمنين لكان الأمر مغريا لكثير من الناس بالدخول في الإسلام، لكن الله جعل لهم الفتنة في أن يُهزَموا ويُقتل منهم عدد من الشهداء، وذلك حتى لا يدخل الدين إلا الصفوة التي تحمل كرامة الدعوة، وتتولى حماية الأرض من الفساد، فلابد أن يكون المؤمنون هم خلاصة الناس.
لذلك قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}. معنى أن يكون الدين لله، أي تخرجوهم من ديانة أنفسهم أو من الديانات التي فرضها الطغيان عليهم، وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان، ومن الديانات التي زينها الناس إلى ديانات الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم، وتلك مهمة سامية. كأنك بهذه المهمة السامية تريد أن ترشد العقل الإنساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ لمساو له؛ إلى أن يدين لمن خلقه. وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا الصواب. ولذلك يُجلى الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسول: {قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57].
فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار الاقتصاد لوجب أن يكون له أجر، لأنه يقدم المنفعة لنا، وبرغم ما قدمه من منفعة فهو لا يأخذ أجراً؛ لأنه زاهد في الأجر؛ فإنه يعلم أن الأجر من المساوي له قليل مهما عظم وهو يريد الأجر ممن خلقه، وهذا طمع في الأعلى؛ لأنه لا يعطي الأجر على الإيمان إلا الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطي بلا حدود.
ويختتم الحق هذه الآية الكريمة بقوله: {فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي أنهم إذا انتهوا إلى عدم قتالكم، فأنتم لن تعتدوا عليهم، بل ستردون عدوان الظالم منهم. والظالم حين يعتدي يظن أنه لن يقدر عليه أحد، والحق يطلب منا أن نقول له: بل نقدر عليك، ونعتدي عليك بمثل ما اعتديت علينا. ويعطينا الحق حيثية ذلك فيقول: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ...}.