فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (33):

{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)}
أي: أعطتْ الثمرة المطلوبة منها، والأُكُل: هو ما يُؤكل، ونعرف أن الزراعات تتلاحق ثمارها فتعطيك شيئاً اليوم، وشيئاً غداً، وشيئاً بعد غد وهكذا.
{وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً..} [الكهف: 33] كلمة {تَظْلِم} تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا، فالأرض وهي جماد لا تظلم، ولا تمنعك حقاً، ولا تهدِر لك تعباً، فإنْ أعطيتَها جهدك وعملك جادتْ عليك، تبذر فيها كيلة تعطيك إردباً، وتضع فيها البذرة الواحدة فتُغِلُّ عليك الآلاف.
إذن: فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حَرْثٍ وبَذْر ورعاية وسُقْيا، وقد تريحك السماء، فتسقى لك.
لذلك، لما أراد الحق سبحانه أنْ يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر، قال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261].
فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة، فما بالك بخالق الأرض؟ لا شك أن عطاءه سيكون أعظم؛ لذلك قال بعدها: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
إذن: فالأرض لا تظلم، ومن عدل الأرض أنْ تعطيك على قَدْر تعبك وكَدِّك فيها، والحق سبحانه أيضاً يُقدِّر لك هذا التعب، ويشكر لك هذا المجهود، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال: (هذه يَدٌ يحبها الله ورسوله).
يحبها الله ورسوله؛ لأنها تعبت وعملت لا على قَدْر حاجتها، بل على أكثر من حاجتها، عملتْ لها وللآخرين، وإلا لو عمل كُلُّ عامل على قَدْر حاجته، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل؟
إذن: فعلى أصحاب القدرة والطاقة أنْ يعملوا لما يكفيهم، ويكفي العاجزين عن العمل، وهَبْ أنك لن تتصدَّق بشيء للمحتاج، لكنك ستبيع الفائض عنك، وهذا في حد ذاته نوعٌ من التيسير على الناس والتعاون معهم.
وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تُجزِل لك العطاء إنْ بررْتَ بها، وكذلك الأرض، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإنْ كنت جاحداً، وكذلك الأرض ألاَ تراها تُخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرَمتها بالبر؟ لا شك ستزيد لك العطاء.
والحقيقة أن الأرض ليست أُمَّنا على وجه التشبيه، بل هي أُمّنا على وجه الحقيقة؛ لأننا من ترابها وجزء منها، فالإنسان إذا مرض مثلاً يصير ثقيلاً على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخ محب وكل قريب، في حين تحتضنه الأرض، وتمتص كل ما فيه، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر. ثم يقول تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً..} [الكهف: 33] ذلك لأن الماء هو أَصْل الزرع، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصاً يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج، فيحجبه أحد عنهما.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ...}.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)}
أي: لم يقتصر الأمر على أنْ كان له جنتان فيهما النخيل والأعناب والزرع الذي يُؤتي أُكُله، بل كان له فوق ذلك ثمر أي: موارد أخرى من ذهب وفضة وأولاد؛ لأن الولد ثمرة أبيه، وسوف يقول لأخيه بعد قليل: أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً.
ثم تدور بينهما هذه المحاورة: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف: 34].
دليل على أن ما تقدم ذِكْره من أمر الجنتين وما فيهما من نِعَم دَعَتْهُ إلى الاستعلاء هو سبب القول {لِصَاحِبِهِ}، والصاحب هو: مَنْ يصاحبك ولو لم تكن تحبه {يُحَاوِرُهُ} أي: يجادله بأن يقول أحدهما فيرد عليه الآخر حتى يصلوا إلى نتيجة. فماذا قال صاحبه؟ قال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً..} [الكهف: 34] يقصد الجنتين وما فيهما من نعم {وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف: 34] داخلة في قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] وهكذا استغنى هذا بالمال والولد.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ...}.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)}
عرفنا أنهما جنتان، فلماذا قال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ..} [الكهف: 35] نقول: لأن الإنسان إنْ كان له جنتان فلنْ يدخلهما معاً في وقت واحد، بل حَالَ دخوله سوف يواجه جنةً واحدة، ثم بعد ذلك يدخل الأخرى.
وقوله: {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ..} [الكهف: 35] قد يظلم الإنسان غيره، لكن كيف يظلم نفسه هو؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يُرخيِ لها عنان الشهوات، فيحرمها من مشتهيات أخرى، ويُفوِّت عليها ما هو أبقى وأعظم، وظلم الإنسان يقع على نفسه؛ لأن النفس لها جانبان: نفسٌ تشتهي، ووجدان يردع بالفطرة.
فالمسألة إذن جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون: أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه، فإنْ قلت: كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأملتَ لوجدتَ أنك ساعة تُحدِّث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه؛ لأن بداخلك شخصيتين: شخصية فطرية، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية، فإنْ مَالتْ النفس الشهوانية أو انحرفتْ قَوَّمتها النفس الفطرية وعَدلَت من سلوكها.
لذلك قلنا: إن المنهج الإلهي في جميع الديانات كان إذا عَمَّتْ المعصية في الناس، ولم يَعُدْ هناك مَنْ ينصح ويرشد أنزل الله فيهم رسولاً يرشدهم ويُذكِّرُهم، إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سبحانه حَمَّلهم رسالة نبيهم، وجعل هدايتهم بأيديهم، وأخرج منهم مَنْ يحملون راية الدعوة إلى الله؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.
وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن يَعُمْ، فإنْ وُجِد من بين هذه الأمة العاصون، ففيها أيضاً الطائعون الذين يحملون راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مسألة ضرورية، وأساسٌ يقوم عليه المجتمع الإسلامي.
ثم يقول تعالى: {قَالَ ما أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} [الكهف: 35].
فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ لا، لأنها جنتُه يدخلها كما يشاء، إنما المراد بالظلم هنا ما دار في خاطره، وما حَدَّث نفسه به حالَ دخوله، فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الاستعلاء بالغِنَى، والغرور بالنعمة، فقال: ما أظنُّ أنْ تبيدَ هذه النعمة، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك، لقد غَرَّهُ واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم، ليس هذا وفقط، بل دعاه غروره إلى أكثر من هذا فقال: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً...}.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}
هكذا أطلق لغروره العنان، وإنْ قُبلَتْ منه: {ما أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} [الكهف: 35] فلا يُقبَل منه {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً..} [الكهف: 36] لذلك لما أنكر قيام الساعة هَزَّته الأوامر الوجدانية، فاستدرك قائلا: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي..} [الكهف: 36] أي: على كل حال إنْ رُددتُ إلى ربي في القيامة، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أَعدَّ له ما هو أفضل من هذا.
ونقف لنتأمل قَوْل هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي..} [الكهف: 36] حيث يعرف أن له رباً سيرجع إليه، فإنْ كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً، لا تُناقِض نفسك، فما حدَث منك من استعلاء وغرور وشَكٍّ في قيام الساعة يتنافى وقولك {رَبِّي} ولا يناسبه.
و{مُنْقَلَباً} أي: مرجعاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ...}.

.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)}
هنا يردُّ عليه صاحبه المؤمن مُحَاوراً ومُجادلاً ليجُلِّيَ له وَجْه الصواب: {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ..} [الكهف: 37] أي: كلامك السابق أنا أنا، وما أنت فيه من استعلاء وإنكار، أتذكر هذا كله ولا تذكر بدايتك ومنشأك من تراب الذي هو أصل خَلْقك {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ..} [الكهف: 37] وهي أصل التناسل {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37] أي: كاملاً مُسْتوياً(ملو هدومك).
و{سَوَّاكَ..} [الكهف: 37] التسوية: هي إعداد الشيء إعداداً يناسب مهمته في الحياة، وقلنا: إن العود الحديد السَّويّ مستقيم، والخطاف في نهايته أعوج، والاعوجاج في الخطاف هو عَيْن استقامته واستواء مهمته؛ لأن مهمته أن نخطف به الشيء، ولو كان الخطاف هذا مستقيماً لما أدَّى مهمته المرادة.
والهمزة في {أَكَفَرْتَ..} [الكهف: 37] ليست للاستفهام، بل هي استنكار لما يقوله صاحبه، وما بدر منه من كُفْر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خَلْقه.
والتراب هو أَصْل الإنسان، وهو أيضاً مرحلة من مراحل خَلْقه؛ لأن الله تعالى ذكر في خلق الإنسان مرة {مِّن مَّآءٍ} [السجدة: 8] ومرة {مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59]،[الروم: 20] ومرة {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] ومرة {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14].

لذلك يعترض البعض على هذه الأشياء المختلفة في خَلْق الإنسان، والحقيقة أنها شيء واحد، له مراحل متعددة انتقالية، فإنْ أضفْتَ الماء للتراب صار طيناً، فإذا ما خلطْتَ الطين بعضه ببعض صار حمأ مسنوناً، فإذا تركته حتى يجفّ ويتماسك صار صَلْصَالاً، إذن: فهي مرحليات لشيء واحد.
ثم يقول الحق سبحانه أن هذا المؤمن قال: {لكنا هُوَ الله رَبِّي...}.

.تفسير الآية رقم (38):

{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)}
قوله: {لكنا..} [الكهف: 38] أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة وأُدغمت النون في النون. ولكن للاستدراك، المؤمن يستدرك على ما قاله صاحبه: أنا لستُ مثلك فيما تذهب إليه، فإنْ كنت قد كفرتَ بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة. ثم سوَّاك رجلاً، فأنا لم أكفر بمَنْ خلقني، فقَوْلي واعتقادي الذي أومن به: {هُوَ الله رَبِّي..} [الكهف: 38].
وتلاحظ أن الكافر لم يَقُلْ: الله ربي، إنما جاءتْ ربي على لسانه في معرض الحديث، والفرْق كبير بين القولين؛ لأن الربّ هو الخالق المتولّي للتربية، وهذا أمر لا يشكّ فيه أحد، ولا اعتراض عليه، إنما الشكّ في الإله المعبود المطاع، فالربوبية عطاء، ولكن الألوهية تكليف؛ لذلك اعترف الكافر بالربوبية، وأنكر الألوهية والتكليف.
ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقول: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 38].
ولم يكتفِ المؤمن بأن أبانَ لصاحبه ما هو فيه من الكفر، بل أراد أنْ يُعدّي إيمانه إلى الغير، فهذه طبيعة المؤمن أنْ يكون حريصاً على هداية غيره، لذلك بعد أنْ أوضح إيمانه بالله تعالى أراد أن يُعلِّم صاحبه كيف يكون مؤمناً، ولا يكمُل إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأيضاً من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر؛ لأن المؤمن صُحح سلوكه بالنسبة للآخرين، ومن الخير للمؤمن أيضاً أن يُصحِّح سلوك الكافر بالإيمان.
لذلك من الخير بدل أنْ تدعوَ على عدوك أن تدعو له بالهداية؛ لأن دعاءك عليه سيُزيد من شقائك به، وها هو يدعو صاحبه، فيقول: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله...}.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)}
يريد أنْ يُعلمه سبيل الإيمان في استقبال النعمة، بأنْ يردَّ النعم إلى المنعم؛ لأن النعمة التي يتقلّب فيها الإنسان لا فضْلَ له فيها، فكلها موهوبة من الله، فهذه الحدائق والبساتين كيف آتتْ أُكُلها؟ إنها الأرض التي خلقها الله لك، وعندما حرثْتها حرثْتها بآلة من الخشب أو الحديد، وهو موهوب من الله لا دَخْلَ لك فيه، والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تُسلبَ منك في أيِّ وقت، فتصير ضعيفاً لا تقدر على شيء.
إذن: حينما تنظر إلى كُلِّ هذه المسائل تجدها منتهيةً إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه.
خُذْ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحاً وهو في غاية الأناقة وإبداع الصَّنْعة، من أين أتى الصُّنّاع بمادته؟ لو تتبعتَ هذا لوجدته قطعةَ خشب من إحدى الغابات، ولو سألتَ الغابة: من أين لك هذا الخشب لأجابتْك من الله.
لذلك يُعلّمنا الحق سبحانه وتعالى الأدب في نعمته علينا، بقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63-64].
هذه الحبة التي بذرتها في حقلك، هل جلستَ بجوارها تنميها وتشدّها من الأرض، فتنمو معك يوماً بعد يوم؟ إن كل عملك فيها أن تحرث الأرض وتبذر البذور، حتى عملية الحرث سخّر الله لك فيها البهائم لتقوم بهذه العملية، وما كان بوُسْعك أنْ تُطوّعها لهذا العمل لولا أنْ سخرها الله لك، وذلّلها لخدمتك، كما قال تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72].
ما استطعت أنت تسخيرها.
إذن: لو حلَّلْتَ أيَّ نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى الله، وموهوب منه سبحانه. وحتى بعد أن ينمو الزرع ويُزهر أو يُثمر لا تأمن أن تأتيه آفةٌ أو تحلُّ به جائحة فتهلكه؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 65-67].
كما يقول تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 17-20].
وكذلك في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 68-69].
هذا الماء الذي تشربونه عَذْباً زلالاً، هل تعرفون كيف نزل؟ هل رأيتم بخار الماء الصاعد إلى الجو؟ وكيف ينعقد سحاباً تسوقه الريح؟ هل دريْتُم بهذه العملية؟ {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً..} [الواقعة: 70].
أي: مِلْحاً شديداً لا تنتفعون به.
فحينما يمتنُّ الله على عبيده بأيّ نعمة يُذكِّرهم بما ينقضها، فهي ليست من سَعْيهم، وعليهم أنْ يشكروه تعالى عليها لتبقى أمامهم ولا تزول، وإلاَّ فَلْيحافظوا عليها هم إنْ كانت من صُنْع أيديهم!
وكذلك في مسألة خَلْق الإنسان يوضح سبحانه وتعالى أنه يمنع الحياة وينقضها بالموت، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 58-60] فإنْ كنتم أنتم الخالقين، فحافظوا عليه وادفعوا عنه الموت. فذكر سبحانه النعمة في الخَلْق، وما ينقض النعمة في أَصْل الخَلْق.
أما في خَلْق النار، فالأمر مختلف، حيث يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 71-72].
فذكر سبحانه قدرته في خَلْق النار وإشعالها ولم يذكر ما ينقضها، ولم يقُلْ: نحن قادرون على إطفائها، كما ذكر سبحانه خَلْق الإنسان وقدرته على نقضه بالموت، وخَلْق الزرع وقدرته على جعله حطاماً، وخَلْق الماء وقدرته على جعله أجاجاً، إلا في النار، لأنه سبحانه وتعالى يريدها مشتعلة مضطرمة باستمرار لتظل ذكرى للناس، لذلك ذيِّل الآية بقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73].
كما نقف في هذه الآيات على ملمح من ملامح الإعجاز ودِقَّة الأداء القرآني؛ لأن المتكلم ربٌّ يتحدث عن كل شيء بما يناسبه، ففي الحديث عن الزرع ولأن للإنسان عملاً فيه مثل الحرْث والبذْر والسَّقْي وغيره نراه يؤكد الفعل الذي ينقض هذا الزرع، فيقول: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً..} [الواقعة: 65] حتى لا يراودك الغرور بعملك.
أما في الحديث عن الماء وليس للإنسان دخل في تكوينه فلا حاجةَ إلى تأكيد الفعل كسابقه، فيقول تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً..} [الواقعة: 70] دون توكيد؛ لأن الإنسان لا يدعي أن له فضلاً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء.
نعود إلى المؤمن الذي ينصح صاحبه الكافر، ويُعلِّمه كيف يستقبل نعمة الله عليه: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله..} [الكهف: 39] {لولا} بمعنى: هلاَّ وهي للحثِّ والتحضيض، وعلى الإنسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة عليه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قيل عند نعمة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، إلا ولا ترى فيها آفة إلا الموت».
فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألاَّ تُلهيكَ النعمة عن المنعم، كان عليك أن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أي: أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي، بل فضل من الله فتردّ النعمة إلى خالقها ومُسديها، وما دُمْتَ قد رددْتَ النعمة إلى خالقها فقد استأمنْتَهُ عليها واستحفظته إياها، وضمنْتَ بذلك بقاءها.
وذكرنا أن سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه كان عالماً بكنوز القرآن، ورأى النفس البشرية، وما يعتريها من تقلُّبات تعكر عليه صَفْو الحياة من خوف أو قلق أو همٍّ أو حزن أو مكر، أو زهرة الدنيا وطموحات الإنسان فيها.
فكان رضي الله عنه يُخرج لهذه الداءات ما يناسبها من علاجات القرآن فكان يقول في الخوف: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] وعجبتُ لمن اغتمَّ لأن الغَمَّ انسداد القلب وبلبلة الخاطر من شيء لا يعرف سببه وعجبتُ لمن اغتمَّ ولم يفزع إلى قول الله تعالى: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} [الأنبياء: 88] ليس هذا وفقط، بل: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] وكأنها(وصْفة) عامة لكل مؤمن، وليست خاصة بنبيّ الله يونس عليه السلام.
فقوْل المؤمن الذي أصابه الغم: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ..} [الأنبياء: 87] أي: لا مفزع لي سواك، ولا ملجأ لي غيرك {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين..} [الأنبياء: 87] اعتراف بالذنب والتقصير، فلعل ما وقعتُ فيه من ذنب وما حدث من ظلم لنفسي هو سبب هذا الغم الذي أعانيه.
وعجبتُ لمن مُكر به، كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله..} [غافر: 44] فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ..} [غافر: 45] فالله تبارك وتعالى هو الذي سيتولى الرد عليهم ومقابلة مكرهم بمكره سبحانه، كما قال تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].
وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله..} [الكهف: 39] فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 40].
فإن قلتها على نعمتك حُفظتْ ونمَتْ، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها.
والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا، رغم ما يتقلّب فيه من نعيمها، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن نقول: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله..} [الكهف: 39].
ويستطرد المؤمن، فيُبيِّن لصاحبه ما عَيَّره به من أنه فقير وهو غني، وما استعلى عليه بماله وولده: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39].
ثم ذكّره بأن الله تعالى قادر على أنْ يُبدِّل هذا الحال، فقال: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ...}.