فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (47):

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}
أي: اذكر جيداً يوم نُسيِّر الجبال وتنتهي هذه الدنيا، واعمل الباقيات الصالحات لأننا سنُسيّر الجبال التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الأجيال حجمها وجِرْمها، وقوتها وصلابتها، وهي باقية على حالها.
ومعنى تسيير الجبال: إزالتها عن أماكنها، كما قال في آية أخرى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ: 20].
وقال في آية أخرى {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 3].
وقال: {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} [المرسلات: 10] وقال: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} [المعارج: 8-9].
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمّر وغيرها كثير. فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه الجبال ويُزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أَوْلَى.
ثم يقول سبحانه: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47].
الأرض: كُلّ ما أقلَّك من هذه البسيطة التي نعيش عليها، وكل ما يعلوك ويُظِلُّك فهو سماء، ومعنى: {بَارِزَةً} البَرَازُ: هو الفضاء، أي: وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار، حتى البحر الذي يغطي جزءاً كبيراً من الأرض.
كل هذه الأشكال ذهبتْ لا وجودَ لها، فكأن الأرض بَرزَتْ بعد أنْ كانت مختبئة: بعضها تحت الجبال، وبعضها تحت الأشجار، وبعضها تحت المباني، وبعضها تحت الماء، فأصبحتْ فضاء واسعاً، ليس فيه مَعْلَمٌ لشيء.
ومن ذلك ما نُسمِّيه نحن المبارزة، فنرى الفتوة يقول للآخر(اطلع لي بره) أي: في مكان خال حتى لا يجد شيئاً يحتمي به، أو حائطاً مثلاً يستند عليه، وبرز فلان لفلان وبارزه أي: صارعه.
{وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47] أي: جمعناهم ليوم الحساب؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لَدُن آدم عليه السلام، والموت يحصد الأرواح، وقد جاء اليوم الذي يُجمع فيه هؤلاء.
{فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47] أي: لم نترك منهم واحداً، الكلُّ معرض على الله، وكلمة {نُغَادِرْ} [الكهف: 47] ومادة(غدر) تؤدي جميعها معنى الترْك، فالغدر مثلاً تَرْك الوفاء وخيانة الأمانة، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سُمِّي غديراً؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئاً قليلاً في المواطئ.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
قوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً..} [الكهف: 48] العرض: أن يستقبل العارض المعروضَ استقبالاً مُنظّماً يدلّ على كُلِّ هيئاته، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلاً، فيرى كل واحد من جنوده {صَفّاً} أي: صُفوفاً منتظمة، حتى الملائكة تأتي صُفوفاً، كما قال تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22].
أي: أنها عملية مُنظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي، ولن يكون لأحد منها مفَرٌّ، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يُخِفي فيها صَفٌّ الصفَّ الذي يليه، فالجميع واضح بكل أحواله.
وفي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يَحشر الله الخَلْق ثم ينادي: يا عبادي أحضروا حُجتكم ويسِّروا جوابكم، فإنكم مجموعون مُحَاسَبُون مَسْئولون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب).

ولك أنْ تتصوَّر المعاناة والألم الذي يجده مَنْ يقف على أطراف أنامل قدميْه؛ لأن ثقل الجسم يُوزَّع على القدمين في حال الوقوف، وعلى المقعدة في حال الجلوس، وعلى الجسم كله في حال النوم، وهكذا يخفّ ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها، فإنْ تركّز الثقل كله على أطراف أنامل القدمين، فلا شَكَّ أنه وَضْع مؤلم وشاقّ، يصعُب على الناس حتى إنهم ليتمنون الانصراف ولو إلى النار.
ثم يقول تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الكهف: 48].
أي: على الحالة التي نزلتَ عليها من بطن أمك عرياناً، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك، وقد فُصِّل هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].
وقوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} [الكهف: 48] والخطاب هنا مُوجَّه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب {زَعَمْتُمْ} [الكهف: 48] والزعْم مطيّة الكذب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ...}.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب} [الكهف: 49] أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي إذن صور متعددة، فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال: {هَآؤُمُ اقرءوا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مُشرِّف ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته، فهو كالتلميذ الذي حصل على درجات عالية، فطار بها ليعرضها ويذيعها.
وهذا بخلاف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول: {ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية ما أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25-29].
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة.
{فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذِّرهم ويُضخِّم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول: {وَيَقُولُونَ ياويلتنا} [الكهف: 49] يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانُك فاحضري.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم عليه السلام لما قتل قابيل هابيل، وكانت أول حادثة قتل، وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث الله له غراباً يُعلِّمه كيف يدفن أخاه، فقال: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي..} [المائدة: 31] {يَاوَيْلَتَا} [المائدة: 31] يا هلاكي كأن يتحسَّر على ما أصبح فيه، وأن الغراب أعقل منه، وأكثر منه خبرة؛ لكي لا نظلم هذه المخلوقات ونقول: إنها بهائم لا تَفهم، والحقيقة: ليتنا مثلهم.
قوله تعالى: {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدَّها وحسبها {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} [الكهف: 49] فكل ما فعلوه مُسجَّل مُسطّر في كُتبهم {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه.
ثم يقول الله سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ...}.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}
تكررتْ قصة سجود الملائكة لآدم عليه السلام كثيراً في القرآن الكريم، وفي كل مرة تُعطينا الآياتُ لقطةً معينة، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا: يجب عليكم أنْ تذكّروا جيداً عداوة إبليس لأبيكم آدم، وتذكروا جيداً أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أنْ يُغويكم أجمعين، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذه العداوة، فإذا حدّثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يُحذّرنا من إبليس فإنه يُربِّي فينا المناعة التي نُقاومه بها، والمناعة أنْ تأتيَ بالشيء الذي يضرُّ مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يُعوِّد الجسم على مدافعة المرض وتغلَّب عليه إذا أصابه.

فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس، ويُذكِّرنا ما كان منه لأبينا آدم واستكباره عن السجود له، وأن نذكر دائماً قوله: {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62].
فانتبهوا ما دُمنا سنُسيّر الجبال، ونُسوِّي الأرض، ونحصر لكلٍّ كتابه، فاحذروا أنْ تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة، ثم تُفَاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وها أنا أُذكّركم من الآن في وقت السَّعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأنْ تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والأمر هنا جاء للملائكة: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة..} [الكهف: 50] لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمَرُون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمُركُم أنْ تكونوا في خدمته.
لذلك سمَّاهم: المدبّرات أمراً، وقال تعالى عنهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جنَّد هؤلاء الملائكة وهم أشرفُ المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان، فمن باب أَوْلى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعلَه في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على مَنْ دونهم.
وقلنا: إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس: أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحَسَمَتْه، فقال تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن..} [الكهف: 50] وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يُوضّح جنسيته، فليس لأحد أن يقول: إنه من الملائكة.
وما دام كان من الجن، وهم جنس مختار في أنْ يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألاَّ يفعل: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..} [الكهف: 50] أي: رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر.
وقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ..} [الكهف: 50] فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أَوْلَى بهذه الولاية.
و{وَذُرِّيَّتَهُ..} [الكهف: 50] تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول: ذريته: كل مَنْ كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً..} [الأنعام: 112].
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] أي: بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أنْ يسجدَ لأبيكم وَلياً، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أنْ تسجدَ لأبيكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (51):

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
إن هذا الشيطان الذي واليتموه من دون الله، وأعطيتموه الميْزة، واستمعتم إليه ما أشهدتهم خَلْق السماوات والأرض مجرد المشاهدة، لم يحضروها لأن خَلْق السماوات والأرض كان قبل خَلْقهم، وكذلك ما شَهِدوا خَلْق أنفسهم؛ لأنهم ساعة خَلْقتهم لم يكونوا موجودين، إنهم لم يشهدوا شيئاً من ذلك لكي يخبروكم.
{وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] أي: مساعدين ومعاونين ومساندين، فما أشهدتهم الخَلْق وما عاونوني فيه.
والعَضُد: هو القوة التي تُسعفك وتسندك، وهو مأخوذ من عَضُد الإنسان، حيث يزاول أغلب أعماله بيده، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قَبْضاً وبَسْطاً واتجاهاً يميناً وشمالاً، وأعلى وأسفل، وكُلُّ هذه الحركات لابد لها من مُنظِّم أو موتور هو العضد، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آياتٌ عُظْمى تدلُّ على دِقَّة الصَّنْعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة، تجد سائق البلدوزر مثلاً يقوم بعدة حركات لكي يُحرِّك هذه الآلة، أما أنت فتحرِّك يدك كما شئْتَ دون أن تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تُفكّر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
فكل أجزائك مُسخَّرة لإرادتك، فإنْ أردتَ القيام مثلاً قمتَ على الفور؛ لذلك إياك أنْ تظن أنك خَلْق ميكانيكي، بل أنت صَنْعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يُوقِف جزءاً منك أمر المخ أنْ يقطعَ صِلَته به، فيحدث الشلل التام، ولا تستطيع أنت دَفْعَه أو إصلاحه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة موسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ..} [القصص: 35] أي: نُقوِّيك ونُعطيك السَّنَد والعَوْن.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ...}.