فصل: تفسير الآية رقم (199):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (199):

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
وعرفات ننطقها بمنطوقين: مرة نقول (عرفات) كما وردت في هذه الآية، ومرة ننطقها (عرفة) كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة». وعرفات جمع، وعرفة مفرد.
هذه الكلمة أصبحت علماً على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة، ولا تظن أنها جبل، فإذا سمعت: (جبل عرفات) كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل المنسوب إلى عرفات. وليس عرفات في ذاتها، ولذلك تجد أناساً كثيرين يظنون أنهم إن لم يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول الله في حجة الوداع فكأن الإنسان منهم لم يحج. نقول لهم: لا. الوقوف يكون في الوادي، والجبل المجاور للوادي أسميناه جبل عرفات، فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل.
وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة. وهناك فرق بين الاسم يكون وصفا ثم يصير اسماً. وبين أن يكون عَلَماً من أول الأمر. وقلنا: إنه إذا سميت العَلَم من أول الأمر فلا ضرورة أن يكون فيه معنى اللفظ؛ فقد تسمى واحداً شقياً ب (سعيد)، وتُسمى زنجية ب (قمر)، وهذا لا يُسمى (وصفا) وإنما يُسمى عَلََماً إلا أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالأصل، فيقال: أُسَمِّي ابني (سعيداً) تفاؤلا بأن يكون (سعيداً)، وعندما تكون بنتاً فقد تعطيها اسماً مخالفاً لحالها، فقد تكون دميمة وتسميها (جميلة) تفاؤلاً بالاسم. هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل. والعرب عندما كانوا يسمون الأسماء كانوا يتفاءلون بها. مثلاً كانوا يسمون (صخراً) ليتفاءلوا به أمام الأعداء. ويسمون (كلباً) حتى لا يجرؤ عليه أحد.
وقيل لعربي: إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون (سعيداً) و(سعداً) و(فضلاً) وتسيئون أسماء أبنائكم؛ تسمونهم: (مُرة)، (كلباً)، (صخراً) قال العربي: نعم؛ لأننا نسمي أبناءنا لأعدائنا ليكونوا في نحورهم، ونسمي عبيدنا لنا. وكلمة (عرفة) هي الآن علم على مكان، لكن سبب تسميتها فيه خلاف: قيل: لأن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان، وظل كلاهما يبحث عن الآخر حتى تلاقيا في هذا المكان، فسُمي (عرفة).
والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كلا منهما يبحث عن الآخر، إذا كان الله عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟. لك أن تتصور حال آدم وهو مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده، وينظر حوله فلا يجد بشراً مثله، بالله ألا يشتاق لإنسان يؤنس وحدته؟.
وماذا يكون حاله عندما يرى إنساناً؟. لاشك أنه سيقابله باشتياق شديد. من أجل هذا فرق الله بينهما وجعل كلاًّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته، ولو ظل كل منهما بجوار الآخر فربما كان الأمر عادياً. وهكذا أراد الله لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للآخر، فأبعدهما عن بعضهما ثم تلاقيا بعد طول بعاد، فكان الشوق للقاء. وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة والألفة والسكن، وهو مطلوب الحياة لزوجين. وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات: إن سيدنا آدم قالت له الملائكة وهو في ذلك المكان: اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب. أو حينما أراد الله أن يُعَلِّم إبراهيم عليه السلام، وهو الذي دعا ربَّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان. إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه. وتلك مسألة شاقة من ثلاثة وجوه: المشقة الأولى أنها رؤيا وليست وحياً. والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد، والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه.
إنها ثلاث مشقات صعاب، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر وسهولة، بل لابد أنه تحدّث فيها كثيراً بينه وبين نفسه، وهل هي رؤيا أم ماذا؟. ومن هنا سُمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية. وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى. والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة. أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم. أليس هو القائل: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الأولى، ثم عاوده مرة أخرى فرجمه سبعاً، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعاً، بعدها لم يأت له ثانية، فجرى إبراهيم مخافة أن يلاحقه، ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة، والمزدلف هو المسرع، ويسمى (ذا المجاز) أي أنه اجتاز المزدلفة، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة.
أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان، فيقول له: عرفتَ؟ فيرد إبراهيم: (عرفتُ). أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الأركان: هذا عرف، وذاك عرف، وثالث، ورابع، وهكذا فيكون كلنا: عرفات، ويصبح المكان عبودية لله. اشترك فيها جميع الحجاج.
{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام}. والمشعر الحرام في مزدلفة: {فاذكروا الله} معناها أن الله يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة، وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت الله الحرام، ثم تعودون مغفورا لكم، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان.
{واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ}؛ لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من الله لخلقه، والتحية يجب أن يُرَدّ عليها، فكما هداكم اذكروه. {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين}؛ لأنهم طالما حجوا كثيراً، في الجاهلية، فأنتم كنتم تحجون بضلال، والآن تحجون بهدى. {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. قوله: {ثُمَّ} تدل على أنه لابد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة؛ لأن {ثُمَّ} تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل.
إذن قوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ} حجة لمن قال: إنه لابد من المبيت في مزدلفة. وهذه الآية نزلت لأن قريشاً كانت ترى نفسها أهل الحرم فلا يُطالبون أبداً بما يُطالب به سائر الناس، ولذلك لا يذهبون مع الناس إلى عرفات، والله يريد بالحج المساواة بين الناس، ولذلك قال النبي في حجة الوداع: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» فلابد أن ينسخ الله مسلك قريش فقال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} يعني لا تميز لكم ولا تفرقة بين المسلمين.
وبعض المفسرين يقول: إن معنى {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المقصود به من حيث أفاض إبراهيم، بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن علمها الله له، فالناس وإن كانوا جمعاً إلا أن المراد بكلمة {الناس} هو إبراهيم. ولا نستغرب أن يكون معنى: {الناس} هو إبراهيم لأن الله وصفه بأنه أمة. وكلمة الناس تُطلق على الإنسان الذي يجمع خصائص متعددة؛ ولذلك قال الله عز وجل عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على ما آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54].
لقد وصف الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس. والرجل الذي ذهب للمؤمنين يخبرهم باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} إنه إنسان واحد ومع ذلك وصفه الله بالناس، كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون جمع كل صفات الخير في الناس.
{واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إنّ الحق سبحانه وتعالى يعلم أن بني آدم لا يمكن لهم أن يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى، فلابد أن تفلت منهم أشياء، وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك؛ لأنه خالقهم، فأمرهم جلت حكمته أن يستغفروه؛ ليكفروا عن سيئاتهم.
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً...}.

.تفسير الآية رقم (200):

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}
ونعرف أن (قضى) تأتي بمعان متعددة، والعمدة في هذه المعاني فصل الأمر بالحكمة، قد يُفصل الأمر بحكمة لأنه فرغ منه أداء {فَإِذَا قَضَيْتُمْ} أي إذا فرغتم من مناسككم، هذه واحدة. وقد يكون لأنك فصلت الأمر بخبر يقين مثل قوله الحق: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23].
وقد يكون (قضى) بمعنى حكم حكما لازماً كما تقول: قضى القاضي. إذن فكلها تدور حول معنى: فصل بحكمة. {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله}. أي إذا فرغتم من مناسككم، والمناسك هي الأماكن لعبادة ما، فعرفات مكان للموقف، و(مزدلفة) مكان للمشعر الحرام يبيت فيه الحجاج. و(منى) منسك للمبيت أيضا، إذن كل مكان فيه عبادة يُسمى (منسكا).
وقوله سبحانه: {فاذكروا الله} أي فلا يزال ذكر الله دائما وارداً في الآيات، كأنك حين توفق إلى أداء شيء إياك أن تغتر، بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم وفقك وأعانك. وكأن الحق يريد أن يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان فقديماً كانوا يحجون، فإذا ما اجتمعت القبائل في منى، كانت كل قبيلة تقف بشاعرها أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثر آبائه، وما كان لهم من مفاخر في الجاهلية ويحملون الديات، ويحملون الحمالات، ويطعمون الطعام، ويفعلون غير ذلك من العادات، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالآباء وبأعمالهم فقال: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} والذكر معناه توجيه الفكر إلى شيء غير موجود ساعة تأتي به، ولا يمكن أن يذكر الإنسان من أحداث الماضي إلا الحدث الذي له الأثر النافع فيه، وعلى مقدار الأثر النافع يكون الذكر.
وكانوا قديماً يطعمون الطعام، والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلاد البُدائية أي البدوية وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي مثلاً كانت له جفنة يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بها ساعة الهجير. والجفنة هي الوعاء الذي يوضع فيه الطعام، فتأمل الجفنة كيف تكون؟!
ويحملون الحمالات، بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقاً كثيراً يتطوع منهم ذو الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الآثار في ماله. والديات هي التي يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلاً، ولا يقدر على أن يعطي ديته، وكانت كل تلك الأعمال هي المفاخر.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته، فقال لهم: أنتم تذكرون آباءكم؛ لأنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وآباؤكم يفتخرون بآبائهم، انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الآباء وكل البشر، فكل ما يجري من خير على يد الآباء مرده إلى الله، فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير، فاذكروا من أمدهم بذلك الخير.
وهو يريد منهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لأن كل كائن إنما يستحق من الذكر على مقدار ما قدم من الخير، ولن تجد كل الخير إلا لله، إذن لابد أن نذكر الله.
وأيضاً فإن الإسلام أراد أن ينهي التفاخر بالآباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس المؤمن، أي فخراً من عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال هؤلاء الذين يفخرون بأسلافهم إنهم: (عظاميون) أي منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور، والله يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا، أي أن نفخر بما نفعل نحن، لا بما فعل آباؤنا، فالآباء أفضوا إلى ما قدموا، ويريد الله أن يأخذ الإنسان ذاتية إيمانية تكليفية. ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه ولذلك يقول الشاعر:
ولا تكونوا عظاميين مفخرة ** ماضيهم عامر في حاضر خرب

لا ينفع الحسب الموروث من قدم ** إلا ذوي همة غاروا على الحسب

والعود من مثمر إن لم يلد ثمراً ** عَدّوه مهما سَمَا أصلاً من الحطب

فالنبات الذي ليس له ثمرة، يعتبره الناس مجرد حطب، ويريد الحق أن ينبه في المؤمن ذاتية تفعل، وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان، بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر به:
ليس الفتى من يقول كان أبي ** إن الفتى من يقول هأنذا

وعندما كان العرب يتفاخر بعضهم على بعض يقول أحدهم للآخر: يا أخي أنت تفتخر عليّ بماذا؟
فيرد عليه الثاني: أفتخر عليك بآبائي وأجدادي.
فيرد الأول: اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك، ومجد آبائي بدأ بي، ولماذا لا أجعل لآبائي الفخر بأنهم أنجبوني؟
وفي ذلك يقول أحدهم:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ** كلا لعمري ولكن منه شيبانُ

وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شَرَفٍ ** كما عَلتْ برسول الله عدنانُ

وما دام القوم يفتخرون بحي منهم، فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقياً ومؤثراً في الوجود، وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم الطعام، ويحمل الحمالات ويؤدي الديات، وإنما يكون بحمل رسالة الإنسانية العالمية.
{فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}. لأن ذكركم الله سيصلكم بالمدد منه، ويعطيكم المعونة لتكونوا أهلا لقيادة حركة الحياة في الأرض، فتوطدوا فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل، وهذا هو ما يجب أن يكون مجالا للفخر.
وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن الإنسان إذا ما قضى المناسك كان أهلا لأن يضرع إلى الله، ويسأل الله بما يحب أن يسأله، والسؤال لله يختلف باختلاف همة السائلين، وكانوا لا يسألون الله إلا قائلين: يا رب أعطني إبلاً، يا رب أعطني غنماً، يا رب أعطني بقراً، ويا رب أعطني حائطاً أي بستاناً، يا رب كما أعطيت أبي أعطني.
ولم يكن في بالهم إلا الأمور المادية، وأراد الله أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة لله، وأن يُصَعِّدُوها إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع، ومن هنا تأتي المزية الإيمانية، فإذا كنتم ستسألون الله متاعا من متاع الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟
ذلك ما نفهمه من قول الله عز وجل في ختام هذه الآية: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ}. فالعبد حين يؤدي مناسكه لله يجد نفسه أهلا لأن يسأل الله، وما دمت قد وجدت نفسك أهلا لأن تسأل الله فاسأل الله بخير باق؛ لأن الإنسان إنما يُصَعدُ حاجته إلى المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش، وقد تذهب لآخر أغنى من الأول فتقول له: أعطني جنيها، ولثالث: تطلب منه عشر جنيهات، إنك تطلب على قدر همة كل منهم في الإجابة على سؤالك.
إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال لله فليُصَعِّدُوا مسألتهم لله وليطلبوا منه النافع أبداً، ولا ينحطوا بالسؤال إلى الأمور الدنيوية الفانية البحتة. {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} إن العبد قد لا يريد من دعائه لله إلا الدنيا، ولا حظ ولا نصيب له في الآخرة، ومثل هذا الإنسان يكون ساقط الهمة؛ لأنه طلب شيئاً في الدنيا الفانية، ويريد الله أن نُصَعِّد همتنا الإيمانية. ولذلك يتبعها بقوله الحق: {وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار}