فصل: تفسير الآية رقم (73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (73):

{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}
فما دُمْنا رجعنا من الإيمان بالبشر إلى الإيمان بخالق البشر، فهذا رُشْدٌ في تفكيرنا لا يصح أنْ تلومنَا عليه، ثم أوضحوا حيثية إيمانهم {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [طه: 73] فالإيمان بالله سينفعنا، وسيغفر لنا الخطايا وهي كثيرة، وسيغفر لنا ما أكرهتنا عليه من مسألة السحر، فقد صنعوا السحر مُكْرهين، ومارسوه مُجْبرين، فهو عمل لا يوافق طبيعتهم ولا تكوينهم ولا فطرتهم.
وما أكثر ما يُكْره الناس على أمور لا يرضونها، وينفذون أوامر وهم غير مقتنعين بها، خاصة في عصور الطُّغَاة والجبّارين، وقد سمعنا كثيراً عن السَّجانين في المعتقلات، فكان بعضهم تأتيه الأوامر بتعذيب فلان، فلماذا يفعل وهو يعلم أنه بريء مظلوم، ولا يطاوعه قلبه في تعذيبه، فكان يدخل على المسجون ويقول له: اصرخ بأعلى صوتك، ويُمثِّل أنه يضربه.
ثم يقولون: {والله خَيْرٌ وأبقى} [طه: 73] فأنت ستزول، بل دنياك كلها ستزول بمَنْ جاء بعدك من الطُّغَاة، ولن يبقى إلا الله، وهو سبحانه يُمتِّع كل خَلْقه بالأسباب في الدنيا، أما في الآخرة فلن يعيشوا بالأسباب. إنما بالمسبب عز وجل دون أسباب.
لذلك إذا خطر الشيء ببالك تجده بين يديك، وهذا نعيم الآخرة، ولن تصل إليه حضارات الدنيا مهما بلغتْ من التطور.
لذلك في قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24]، فمهما ظَنَّ البشر أنهم قادرون على كل شيء في دُنْياهم فهم ضُعفاء لا يستطيعون الحفاظ على ما توصّلوا إليه.
إذن: اجعل الله تبارك وتعالى في بالك دائماً يكُنْ لك عِوَضاً عن فائت، واستح أنْ يطلع عليك وأنت تعصيه. وقد ورد في الحديث القدسي: (إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟!).
ولما سُئل أحد العارفين: فيم أفنيتَ عمرك؟ قال: في أربعة أشياء: علمتُ أنِّي لا أخلو من نظر الله تعالى طَرْفة عَيْن، فاستحييتُ أن أعصيه، وعلمتُّ أنَّ لي رِزْقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعتُ به، وعلمتُ أن عليَّ ديناً لا يُؤدِّيه عنِّي غيري فاشتغلتُ به، وعلمتُ أن لي أَجَلاً يبادرني فبادرته.
وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع، فقال: اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه.
وهكذا جمعتْ هذه الأقوالُ الثمانية الدينَ كله.
ثم يُقدِّم السحرة الذين أعلنوا إيمانهم حيثيات هذا الإيمان، فقالوا: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً...}.

.تفسير الآية رقم (74):

{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)}
قوله: {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} [طه: 74] يعني مُجرِّماً عمل الجريمة، والجريمة أنْ تكسر قانوناً من قوانين الحق عز وجل كما يفعل البشر في قوانينهم، فيضعون عقوبة لمَنْ يخرج عن هذه القوانين، لكن ينبغي أن تُعيِّن هذه الجريمة وتُعلَن على الناس، فإذا ما وقع أحد في الجريمة فقد أعذر من أنذر.
إذن: لا يمكن أن تعاقب إلا بجريمة، ولا توجد جريمة إلا بنص.
وقوله: {يَأْتِ} أي: هو الذي سيأتي رغم إجرامه، ورغم ما ينتظره من العذاب. لكن لماذا خاطبوه بلفظ الإجرام؟ لأنه قال: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] ولم يفعلوا أكثر من أنْ قالوا كلمة الحق، فأيُّنا إذنْ المجرم؟
وقوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] لأن الموت سَيُريحهم من العذاب؛ لذلك يتمنَّوْنَ الموت، كما جاء في قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فيأتي رده {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
وفَرْقٌ بين عذاب وموت، فالموت إنهاء للحياة، وليس بعد الموت إيلام، أمَّا العذاب فلا ينشأ إلا مع الحياة؛ لأنه إيلام حَيٍّ.
لذلك، فالحق تبارك وتعالى لما عرض لهذه المسألة في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وأن سليمان قال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] فالعذاب شيء، والذبح شيء آخر؛ لأنه إنهاء للحياة الحاسة.
ومعنى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] أن هناك مرحلة وحلقة بين الموت والحياة، حيث لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياةً سالمة من العذاب، فبقاؤهم في جهنم في هذه المرحلة، التي لا هي موت ولا هي حياة.

.تفسير الآية رقم (75):

{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)}
فكأنهم كانوا يشيرون بقولهم: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} [طه: 74] إلى فرعون، والآن يشيرون إلى أنفسهم، وما سلكوه من طريق الإيمان {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} [طه: 75].
فجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان هو الينبوع الوجداني الذي تصدر عنه الحركات النزوعية على وَفْق المنهج الذي آمنت به، وإلا فما فائدة أنْ تؤمنَ بشيء، ولا تعمل له، وكثيراً ما جمع القرآن بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله: {فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} [طه: 75] الدرجات أي: درجات الجنة، فالجنة درجات، بعضها فوق بعض، أما النار فدركات، بعضها تحت بعض.
وقد جعل الحق تبارك وتعالى الجنة درجات؛ لأن أهلها متفاوتون في الأعمال، كما أنهم متفاوتون حتى في العمل الواحد؛ لأن مناط الإخلاص في العمل متفاوت.
لذلك جاء في الأثر: (الناس على خطر إلا العالمون، والعالمون على خطر إلا العاملون، والعاملون على خطر إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم).
والعُلاَ: جمع عُليا. فما الدرجات العُلاَ؟

.تفسير الآية رقم (76):

{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}
عدن: أي إقامة. مِنْ عَدَنَ في المكان: أقام فيه، فالمراد جنات أعِدَّتْ لإقامتك، وفرْق بين أنْ تُعِد المكان للإقامة وأنْ تُعِدَّ مكاناً لعابر، كما أن المكان يختلف إعداده وترفه حَسْب المُعِدْ وإمكاناته، فالإنسان العادي يُعِد مكاناً غير الذي يعده عظيم من العظماء، فما بالك إذنْ بمكان أعدّه لك ربك عز وجل بقدراته وإمكاناته؟
وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} [طه: 76].
نعلم أن الماء من أهم مقومات الحياة الدنيا، فبه تنبت الأرض النبات، وفيه تذوب العناصر الغذائية، وبدونه لا تقوم لنا حياة على وجه الأرض. والحق سبحانه وتعالى ساعةَ يُنزِل مطراً من السماء قد لا ينتفع بالمطر مَنْ نزل عليه المطر، فربما نزل على جبل مثلاً، فالنيل الذي نحيا على مائه يأتي من أين؟ من الحبشة وغيرها.
لذلك جعل الخالق عز وجل كلمة {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [طه: 76] رمزاً للخضرة وللنضارة وللنماء وللحياة السعيدة الهانئة، حتى الإنسان وإنْ لم يكُنْ محتاجاً للطعام بأنْ كان شبعان مثلاً، يجد لذة في النظر إلى الطبيعة الخضراء، وما فيها من زرع وورود وزهور، فليس الزرع للأكل فقط، بل للنظر أيضاً، وإنْ كنتَ تأكل في اليوم ثلاث مرات، والأكل غذاء للجسم، فأنت تتمتع بالمنظر الجميل وتُسَرُّ به كلما نظرتَ إليه، والنظر متعة للروح، وسرور للنفس.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا: لا تقصروا انتفاعكم بنعم الله على ما تملكون، فتقول مثلاً: لا آكل هذه الفاكهة لأنها ليست مِلْكي، لأن هناك متعةً أخرى: {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] فقبل أن تأكل انظر، فالنظر متعة، وغذاء مستمر.

فقوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [طه: 76] لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخُضْرة والخِصْب والإيناع، و{مِن تَحْتِهَا} [طه: 76] أي: أن الماء ذاتيّ فيها، ونابع منها، ليس جارياً إليك من مكان آخر، ربما يُمنَع عنك أن تُحرم منه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} [التوبة: 100] فتحتها أنهار جارية، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر.
ونسب الجريان إلى النهر، لا إلى الماء للمبالغة. فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء.
ثم يقول تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [طه: 76] وهذا هو التأمين الحقّ للنعيم؛ لأن آفة النعم أنْ تزولَ، إمّا بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي، أما نعيم الجنة فقد سَلَّمه الله تعالى من هذه الآفة، فهو خالد بَاقٍ، لا يزول ولا يُزال عنه.
{وذلك جزاء مَن تزكى} [طه: 76] الزكاة: تُطلَق على الطهارة وعلى النماء، فالطهارة: أن يكون الشيء في ذاته طاهراً، والنماء: أنْ توجَد فيه خصوصية نمو فيزيد عَمَّا تراه أنت عليه.
كما ترى مثلاً الورد الصناعي والورد الطبيعي في البستان، وفيه المائية والنضارة والرائحة الطيبة والألوان المختلفة والنمو، وكلها صفات ذاتية في الوردة، على خلاف الورد الصناعي فهو جامد على حالة واحدة.
وهذا هو الفرق بين صَنْعة البشر وصَنْعة الخالق للبشر؛ لذلك كانت صنعة الله أخلد وأبقى، وصدق الله العظيم حين قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
وتلحظ أنه لم يَضِنّ عليك بصفة الخَلْق؛ لأنك استعملتَ الأسباب وأَعلمتَ الفكر، فكان لك شيء من الخلق، لكن ربَّك أحسنُ الخالقين؛ لأنك خلقتَ من باطن خِلْقته، خلقتَ من موجود، وهو سبحانه يخلق من عدم، خلقتَ شيئاً جامداً لا حياة فيه، وخلق سبحانه شيئاً نامياً، يتكاثر بذاته.
ومن هنا سُمِّي المال الذي تُخرجه للفقراء زكاةً؛ لأنه يُطهِّر الباقي ويُنمِّيه. ومن العجائب أن الله تعالى سَمّى ما يخرج من المال زكاة ونماءً، وسَمَّى زيادة الربا مَحْقاً.
فمعنى: {وذلك جزاء مَن تزكى} [طه: 76] أي: تطهَّر من المعاصي، ثم نَمَّى نفسه، ومعنى التنمية هنا ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق، فهو مؤمن بداية، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقي يوماً بعد يوم، وكلما ازداد إيمانه ازداد قُرْبه من ربه، وازدادت فيوضات الله عليه. والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
إذن: زكَّى نفسه: طهَّرها أولاً، ثم يُنمِّيها ثانياً، كمَنْ يريد التجارة، فعليه أولاً أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم يُنمِّيه، لكن لا تأتي برأس المال مُدنّساً ثم تُنمِّيه بما فيه من دَنَسٍ.
وكلما نَمَّى الإنسانُ إيمانَهُ ارتقى في درجاته، فكانت له الدرجات العُلاَ في الآخرة.

.تفسير الآية رقم (77):

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}
كان هذا الوحي لموسى عليه السلام بعد أنِ انتهت المعركة، وانتصر فيها معسكر الإيمان، أما فرعون فقد خسر سلاحاً من أهمِّ أسلحته وجانباً كبيراً من سَطْوته وجبروته.
وهنا جمع موسى بني إسرائيل، وهم بقايا ذرية آل يعقوب ليذهب بهم إلى أرض الميعاد، وسرعان ما أعدَّ فرعون جيشه وجمع جموعه، وسار خلفهم يتبعهم إلى ساحل البحر، فإذا بموسى وقومه مُحَاصرين: البحر من أمامهم، وفرعون بجيشه من خلفهم، وليس لهم مَخْرج من هذا المأزق.
هذا حُكْم القضايا البشرية المنعزلة عن ربِّ البشر، أما في نظر المؤمن فلها حَلٌّ؛ لأن قضاياه ليست بمعزل عن ربه وخالقه؛ لأنه مؤمن حين تصيبه مصيبة، أو يمسه مكروه ينظر فإذا ربُّه يرعاه، فيلجأ إليه، ويرتاح في كَنَفِه.
لذلك يقولون: لا كَرْبَ وأنت ربٌّ، وما دام لي رب ألجأ إليه فليست هناك معضلة، المعضلة فيمن ليس له رَبٌّ يلجأ إليه.
وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى لو أن إنساناً معه في جيبه جنيه، فسقط منه في الطريق، فإذا لم يكُنْ عنده غيره يحزن أمّا إنْ كان لديه مال آخر فسوف يجد فيه عِوَضاً عَمَّا ضاع منه، هذا الرصيد الذي تحتفظ به هو إيمانك بالله.
وهنا جاء الأمر من الله تعالى لموسى عليه السلام ليُخرجه وقومه من هذا المأزق: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} [طه: 77].
أَسْرِ: من الإسراء ليلاً. أي: السير؛ لأنه أستر للسائر.
وقوله: {بِعِبَادِي} [طه: 77] كملة (عبد) تُجمع على (عبيد) و(عباد) والفَرْق بينهما أن كل مَنْ في الكون عبيد لله تعالى؛ لأنهم وإنْ كانوا مختارين في أشياء، فهم مقهورون في أشياء أخرى، فالذي تعوَّد باختياره على مخالفة منهج الله، وله دُرْبة على ذلك، فله قَهْريات مثل المرض أو الموت.
أما العباد فهم الصَّفْوة التي اختارت مراد الله على مرادها، واختياره على اختيارها، فإنْ خيَّرهم: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] خرجوا عن اختيارهم لاختيار ربهم.
لذلك نسبهم الله إليه فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وقال عنهم: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقال: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63].
ويقول الحق سبحانه: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} [طه: 77] أي: يابساً جافاً وسط الماء.
والضرب: إيقاع شيء من ضارب بآلة على مضروب، ومنه ضرَب العملة أي: سكَّها وختمها، فبعد أنْ كان قطعةَ معدن أصبح عملة متداولة.
وضرب موسى البحر بعصاه فانفلق البحر وانحسر الماء عن طريق جافّ صالح للمشي بالأقدام، وهذه مسألة لا يتصورها قانون البشر؛ لذلك يُطمئنه ربه {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} [طه: 77] أي: من فرعون أنْ يُدرِككَ {وَلاَ تخشى} [طه: 77] أي: غرقاً من البحر؛ لأن الطريق مضروب أي: مُعَد ومُمهَّد وصالح لهذه المهمة.
وهذه معجزة أخرى لعصا موسى التي ألقاها، فصارت حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق فصار ما تحت العصا طريقاً يابساً، وما حولها جبالاً {كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] وهي التي ضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.
والسياق هنا لم يذكر شيئاً عن الحوار الذي دار بين موسى وقومه حينما وقعوا في هذه الضائقة، لكن جاء في لقطة أخرى من القصة حيث قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61- 62].
وبتعدد اللقطات في القرآن تكتمل الصورة العامة للقصة، وليس في ذلك تكرار كما يتوهّم البعض.
فقبل أنْ يُوحِي إليه: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} [طه: 77] قال القوم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فقال:(كَلاّ). لكن كيف يقولها قَوْلة الواثق وما يخافون منه محتمل أنْ يقع بعد لحظة؟
نقول: لأنه لم يقل(كَلاَّ) من عنده، لم يَقُلها بقانون البشر، إنما بقانون خالق البشر {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فأنا لا أغالطكم، ولسْتُ بمعزل عن السماء وتوجيه ربي.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ...}.