فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (115):

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}
كأن الحق تبارك وتعالى يُعزِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له: اقبلهم على عِلاَّتهم، فهُمْ أولاد آدم، والعصيان أمر وارد فيهم، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسى، فإذا نسى هؤلاء فاقبل منهم فهم أولاد (نسَّاي).
لذلك، إذا أوصيتَ أحداً بعمل شيء فلم يَقُمْ به، فلا تغضب، وارجع الأمر إلى هذه المسألة، والتمس له عُذْراً.
وقوله: {عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ} [طه: 115] أي: أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا، وقلنا كل شيء.
{مِن قَبْلُ} [طه: 115] هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن، وقد حسمتْ لنا مواقف عدة، منها قوله هنا عن آدم والمراد: خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الذي كلّفه الله مباشرة، ليس بواسطة رسول الله، وكلّفه بأمر واحد، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد: كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه بأمر واحد، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد: كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه الشجرة، هذا هو التكليف، ومع ذلك نسى آدم ما أُمِر به.
إذن: حينما يأتي التكليف بواسطة رسول، وبأمور كثيرة، فمَنْ نسى من ولد آدم فيجب أنْ نعذره ونلتمس له عذراً، ولكثرة النيسان في ذرية آدم قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه: 82] بالمبالغة؛ لأن الجميع عُرْضَة للنسيان وعُرْضة للخطأ، فالأمر إذن يحتاج إلى مغفرة كثيرة.
كذلك جاءتْ(من قبل) في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} [البقرة: 91].
فكان لها دور ومَغْزى، فلو قال الحق سبحانه: فَلِمَ تقتلون أنبياء الله؟ فحسْب، فربما جرَّأهم على الاعتداء على رسول الله أنْ يقتلوه، أو يفهم منها رسول الله أنه عُرْضة للقتل كما حدث مع سابقيه من الأنبياء. لذلك قيَّدها الحق تبارك وتعالى وجعلها شيئاً من الماضي الذي لن يكون، فهذا شيء حدث من قبل، وليس هذا زمانه.
وقوله: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] أي: نسي العَهْد، هذه واحدة. {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] ليس عنده عزيمة قوية تُعينه على المضيِّ والثبات في الأمر.
فالحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمْر فيه نفع لك تتهافت عليه، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتك تأبَّيْتَ وخالفتَ، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضيّ فيه والثبات عليه، فإنْ أقبلتَ على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرتَ فيه وتأملتَ: كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذلٌّ آجل مستمر، فالعَزْم هنا ألاَّ تغريك الشهوة.
ألا ترى أن الله تعالى سمَّى الرسل أصحاب الدعوات والرسالات الهامة في تاريخ البشرية {أُوْلُواْ العزم} [الأحقاف: 35] لأنهم سيتحملون مشاقَ ومهامَ صعبة تحتاج إلى ثبات وصبر على التكليف.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] أي: عزيمة تدفع إلى الطاعات، وتمنع من المعاصي.
ومسألة نسيان العبد للمنهيات التي يترتب عليها عقاب وعذاب أثارتْ عند الناس مشكلة في القضاء والقدر، فتسمع البعض يقول: ما دام أن الله تعالى كتب عليَّ هذا الفعل فَلِمَ يعاقبني عليه؟
ونعجب لهذه المقولة، ولماذا لم تَقُلْ أيضاً: لماذا يثيبني على هذا الفعل، ما دام قد كتبه عليَّ؟ لماذا توقفتَ في الأولى و(بلعْت) الأخرى، بالطبع؛ لأن الأولى ليست في صالحك. إذن، عليك أن تتعامل مع ربك معاملة واحدة، وتقيس الأمور بمقياس واحد.
والعهد الذي أخذه الله على آدم أنْ يأكل رَغَداً من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذَّره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [البقرة: 35].
وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى أمّا المحرمات فقليلة معدودة محصورة؛ لذلك حينما يُحدِّثنا الحق سبحانه عن التكليف يقول: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] فالمحرَّمات هي التي يمكن حصرها، أما المحللات فخارجة عن نطاق الحَصْر.
ونلحظ أن الله تعالى حينما يُحذِّرنا من المحرمات لا يُحذِّرنا من مباشرتها، بلْ مِن مجرد الاقتراب منها {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] ولم يقُلْ: لا تأكلا منها؛ ليظل الإنسان بعيداً عن منطقة الخطر ومظنّة الفِعْل.
وحينما يُحدِّثنا ربُّنا عن حدوده التي حدَّهَا لنا يقول في الحدّ المحلَّل: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وفي الحدِّ المحّرم يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ذلك لأن مَنْ حامَ حول الحِمَى يوشك أنْ يقع فيه.
وقد كان للعلماء كلام طويل حول ما نسيه آدم عليه السلام، فمنهم مَنْ قال: نسى(كُل من هذه ولا تقرب هذه)، وعلى هذا الرأي لم يَنْسَ آدم لأنه نفَّذ الأمر فأكل مِمّا أحله الله له، أما كونه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فليس في هذه أيضاً نسيان؛ لأن إبليس ذكّره بهذا النهي فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20].
فحينما أكل آدم من الشجرة لم يكُنْ ناسياً ما نهاه الله عنه. إذن: ما المقصود بالنسيان هنا؟
المقصود أن آدم عليه السلام نسى ما أخبره الله به من عداوة إبليس لعنه الله حين قال له: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117].
والفكر البشري لابد أن تفوتَهُ بعض المسائل، ولو كان عند الإنسان يقظه وحَذَر ما انطلى عليه تغفيل إبليس، فتراه يُذكِّر آدمَ بالنهي ولم يَدَعْهُ في غفلته ثم يحاول إقناعه: إنْ أكلتُما من هذه الشجرة فسوف تكونَا ملَكين، أو تكونَا من الخالدين.
وما دُمْتَ أنت يا أبليس بهذا الذكاء، فلماذا لم تأكل أنت من الشجرة وتكون مَلَكاً أو تكون من الخالدين؟ لماذا تضاءلت فصْرتَ أرنباً تقول: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14].
إذن: هذا نموذج من تغفيل إبليس لآدم وذريته من بعده، يلفتنا الله تعالى إليه يقول: تيقظوا واحذروا، فعداوته لكم مُسْبقة منذ سجد الجميع لآدم تكريماً، وأَبَى هو أن يسجد.
فكان على آدم أنْ يُحذِّر عدوه، وأنْ يتحصَّن له بسوء الظن فيه، فينظر في قوله ويفكر في كلامه ويفتش في اقتراحه.
والبعض يقول: إن خطأ آدم ناتج عن نسيان، فهو خطأ غير مُتعَمَّد، والنسيان مرفوع، كما جاء في الحديث الشريف: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
فهل كان النسيان قديماً لا يُرْفَع، ورُفِع لهذه الأمة إكْراماً لها؟ فأصحاب هذا القول يلتمسون العُذْر لآدم عليه السلام، لكن كيف وقد كلَّفه ربُّه مباشرة، وكلَّفه بأمر واحد، فالمسألة لا تحتمل نسياناً، فإذا نسي آدم مع وحدة التكليف وكَوْنه من الله مباشرة، فهذا على آية حال جريمة.
ثم يقص الحق سبحانه علينا قصة آدم مع إبليس: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ}

.تفسير الآية رقم (116):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)}
الحق تبارك وتعالى يقصُّ علينا قصة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنه سبحانه أعطانا مُجْمل القصة ومُوجزها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] وأصلْ القصة وترتيبها الطبيعي أنه سبحانه يقول: خلقْتُ آدم بيدي وصوَّرته، وكذا وكذا، ثم أمرْتُ الملائكة بالسجود له ثم قلت له: كذا...
وعَرْض القصة بهذه الطريقة أسلوبٌ من أساليب التشويق يصنعه الآن المؤلفون والكُتَّاب في قصصهم، فيعطوننا في بداية القصة لقطة لنهايتها؛ لإثارة الرغبة في تتبُّع أحداثها، ثم يعود فيعرض لك القصة من بدايتها تفصيلاً، إذن: هذا لوْنٌ من ألوان الإثارة والتشويق والتنبيه.
ومن ذلك أسلوب القرآن في قصة أهل الكهف، حيث ذكر القصة مُوجَزة فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} [الكهف: 912].
ثم أخذ في عَرْضها تفصيلاً: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} [الكهف: 13].
وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن، ففي قصة لوط عليه السلام يبدأ بنهاية القصة وما حاق بهم من العذاب: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} [القمر: 33- 34].
ثم يعود إلى تفصيل الأحداث: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بالنذر وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 36- 37].
ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى في قصة موسى وفرعون: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [الأعراف: 103] أي: من بعد موكب الرسالات إلى فرعون وملَئِه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مُجمل القصة، ثم يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتفصيل: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الأعراف: 104].
وهكذا أسلوب القرآن في قصة آدم عليه السلام، يعطينا مُجْمل القصة، ثم يُفصِّلها: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا} [طه: 116] يعني: إذكر إذ قُلْنا للملائكة {اسجدوا لأَدَمَ} [البقرة: 34].
وقبل أن نخوضَ في قصة أبينا آدم عليه السلام يجب أن نشير إلى أنها تكررتْ كثيراً في القرآن، لكن هذا التكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمع في النهاية لتعطيك القصة الكاملة من جميع زواياها.
كما أن الهدف من قَصَص القرآن تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشدائد، سيحتاج في كل منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصة مرة واحدة، كما في قصة يوسف عليه السلام مثلاً.
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا} [طه: 116] البعض يعترض يقول: كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن ما سجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله لهم، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله. ولقائل هذا الكلام: أأنت مَلِكيٌّ أكثر من الملك؟ يعني: أأنت ربانيّ أكثر من الربّ؟
وما معنى السجود؟ السجود معناه: الخضوع، كما جاء في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} [يوسف: 100] أي: سجودَ تعظيم وخضوع، لا سجودَ عبادة.
وآدم عليه السلام هو خليفة الله في الأرض، لكنه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقات كثيرة منها المحسّ، كالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة التي تدير خفى هذا الكون، فمنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلَّفون بالريح وبالمطر.. إلخ من الأمور التي تخدم الخَلْق. فلابد إذن أن يخضع الجميع لهذا المخدوم الآتي.
وقد يحلو للبعض أن يقول: لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى ربه، فأنزلنا من الجنة إلى الأرض. نقول: يجب أن نفهم عن الله تعالى، فالحق تبارك وتعالى لم يخلق آدم للجنة التي هي دار الخُلْد، إنما خلقه ليكون خليفة له في الأرض، كما قال سبحانه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
فأوّل بلاغ من الله عن آدم أنه خالقه للأرض لا للجنة. والجنة، وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النعيم الأُخْروي فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدنيا، كما جاء في قول الحق سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17].
وقوله: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32].
إذن: تُطلَق الجنة على شيء في الدنيا يضمُّ كل ما تطلبه النفس وسمَّوْها الجنة؛ لأنها تستر بشجرها وكثافتها مَنْ يدخل فيها، أو جنة لأنها تكفي الإنسان ولا تُحوجه إلى شيء غيرها.
فلا تظلموا آدم بأنه أخرجكم من الجنة؛ لأنه لم يكُنْ في جنة الخُلْد، إنما في مكان أعدَّه الله له، وأراد أنْ يُعطيه في هذا المكان درساً، ويُدرِّبه على القيام بمهمته في الحياة وخلافته في الأرض.
أرأيتَ ما نفعله الآن من إقامة معسكرات للتدريب في شتى مجالات الحياة، وفيها نتكفّل بمعيشة المتدرب وإقامته ورعايته.
إنها أماكن مُعدَّة للتدريب على المهام المختلفة: رياضية، أو علمية، أو عسكرية.. إلخ.
هكذا كانت جنة آدم مكاناً لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمته كخليفة لله في الأرض، فأدخله الله في هذه التجربة العملية التطبيقية، وأعطاه فيها نموذجاً للتكليف بالأمر والنهي، وحذَّره من عدوه الذي سيتربص به وبذريته من بعده، وكشف له بعض أساليبه في الإضلال والإغواء.
وهذه هي خلاصة منهج الله في الأرض، وما من رسول إلا وجاء بمثل هذا المنهج: أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشيطان ووسوسته حتى يُخرِجنا عن أمر الله ونَهْيه.
وبعد هذا(الكورس) التدريبي في الجنة عَلِم آدم بالتطبيق العملي أن الشيطان عدوه، وأنه سيُغريه ويخدعه، ثم بعد هذه التجربة أنزله الله ليباشر مهمته في الأرض، فيكون من عدوه على ذِكْر وحذر.
والبعض يقف طويلاً عند مسألة عصيان آدم: كيف يعصي الله وهو نبي؟ ويذكرون قوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
نقول: ما دام أن آدم عليه السلام هو خليفة الله في أرضه، ومنه أَنْسَالُ الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرسل والمرسل إليهم. إذن: فهو بذاته يمثل الخَلْق الآتي كله بجميع أنواعه المعصومين وغير المعصومين.
كما أن آدم عليه السلام مرَّ بهذه التجربة قبل أن يُنبأ، ومَرَّ بها بعد أن نُبئ، بدليل قوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 121- 122].
فكان الاجتباء والعصمة بعد التجريب، ثم لما أُهبِط آدم وعدوه إلى الأرض خاطبه ربه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثَّل آدم الدَّوْريْن: دَوْر العصمة والنبوة بعدما اجتباه ربه، ودَوْر البشر العادي غير المعصوم والمعرَّض للنسيان وللمخالفة كأيِّ إنسان من أناس الأرض.
ينبغي إذن أن نفهم أن آدم خُلِق للأرض وعمارتها، وقد هيَّأها الله لآدم وذريته من بعده، وأعدَّها بكُلِّ مقوِّمات الحياة ومُقوِّمات بقاء النوع، فمَنْ أراد ترف الحياة فليُعمل عقله في هذه المقوّمات وليستنبط منها ما يريد.
لقد ذكرنا أن في الكون مُلكاً وملكوتاً: الملْك هو الظاهر الذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفى عنّا وراء هذا الملْك، ومن الملكوت أشياء تؤدي مهمتها في حياتنا دون أنْ نراها، فمثلاً ظاهرة الجاذبية الأرضية التي تتدخل في أمور كثيرة في حياتنا، كانت في حجاب الملكوت لا نراها ولا نعرف عنها شيئاً، ثم لما اهتدتْ إليها العقول واكتشفتْها عرفنا أن هناك ما يسمى بالجاذبية.
ومن الملكوت الملائكة الموكّلون، كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11].
ومنهم الكَتَبة: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
فلما خلق الله آدم، وخلق الملائكة الموكلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسجود له؛ لأنهم سيكونون في خدمته، فالسجود طاعة لأمر الله، وخضوع للخليفة الذي سيعمر الأرض.
وقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} [طه: 116] وفي آية أخرى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر} [ص: 74].
وقد أوضح الحق سبحانه سبب رَفْض إبليس للسجود لآدم بقوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75].
أي: لا سبب لامتناعك إلا الاستكبار على السجود، أو تكون من العالين. أي: الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود، فكأن الأمر كان للملائكة خاصة هم الموكّلون بخدمة آدم، أمّا العالون فهم الملائكة المهيّمون، ولا علاقة لهم بآدم، وربما لا يدرُون به.
ومن الأساليب التي أثارتْ جَدَلاً حول بلاغة القرآن لدى المستشرقون قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] وقوله في موضع آخر: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] فأيُّ التعبيريْن بليغ؟ وإنْ كان أحدهما بليغاً فالآخر غير بليغ.
وهذا كله ناتج عن قصور في فَهْم لغة القرآن، وعدم وجود الملَكة العربية عند هؤلاء، فهناك فَرْق بين أنك تريد أن تسجدَ ويأتي مَنْ يقول لك: لا تسجد، وبين أنْ يُقنعك شخص بألاَّ تسجد. فقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] كنت تريد السجود وواحد منعك، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] يعني: أمرك ألاَّ تسجد، وأقنعك وأنت اقتنعتَ.
ومن المسائل التي أثيرتْ حول هذه القصة: أكان إبليس من الملائكة فشمله الأمر بالسجود؟ وكيف يكون من الملائكة وهم لا يعصُون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون؟ وإذا لم يكُنْ مَلَكاً فماذا أدخله في الأمر؟
ولتوضيح هذه المسألة نقول: خلق الله الثَّقليْن: الجن والإنس، وجعلهم مختارين في كثير من الأمور، ومقهورين في بعض الأمور، ليثبت طلاقة قدرته تعالى في خَلْقه، فإنْ كنتَ مختاراً في أمور التكليف وفي استطاعتك أنْ تطيع أو أنْ تعصي، فليس من اختيارك أنْ تكون صحيحاً أو مريضاً، طويلاً أو قصيراً، فقيراً أو غنياً، ليس في اختيارك أنْ تحيا أو تموت.
والحق تبارك وتعالى لا يُكلِّفك بافعل كذا ولا تفعل كذا، إلا إذا خلقك صالحاً للفعل ولعدم الفعل، هذا في أمور التكليف وما عداه أمور قَهْرية لا اختيارَ لك فيها هي القدريات.
لذلك نقول للذين أَلِفُوا التمرد وتعوَّدوا الخروج على أحكام الله في التكليفات: لماذا لا تتَمردوا أيضاً على القدريات ما دُمْتم قد أَلِفْتم المخالفة؟ إذن: أنت مقهور وعَبْد رَغماً عنك.
لذلك، إذا كان المختار طائعاً يلزم نفسه بمنهج ربه، بل ويتنازل عن اختياره لاختيار الله، فمنزلته عند الله كبيرة، وهي أفضل من المَلَك، لأن المَلك يطيع وهو مرغم. ومن هنا يأتي الفرْق بين عباد وعبيد، فالكل في القهر عبيد، لكن العباد هم الذين تركوا اختيارهم لاختيار ربهم.
ومن هنا نقول: إن إبليس من الجن، وليس من الملائكة؛ لأنه أُمِر فامتنع فعُوقِب، وإنْ كان الأمر في الأصل للملائكة.
وقد حسم القرآن هذه القضية حين قال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وهذا نصٌّ صريح لا جدالَ حوله.
فإنْ قُلْتَ: فلماذا شمله الأمر بالسجود، وهو ليس مَلَكاً؟
نقول: لأن إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً، وقد شهد عملية خَلْق آدم، وكان يُدْعَي «طاووس الملائكة» لأنه ألزم نفسه في الأمور الاختيارية ففاق بذلك الملائكة، وصار يزهو عليهم ويجلس في مجلسهم، فلما جاء الأمر للملائكة بالسجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين:
الأولى: إنْ كان أعلى منهم منزلةً وهو طاووسهم الذي ألزم نفسه الطاعة رغم اختياره فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذات؟
الأخرى: إنْ كان أقلّ منهم، فالأمر للأعلى لابد أنْ يشمل الأدنى، كما لو أمرتَ الوزراء مثلاً بالقيام لرئيس الجمهورية، وبينهم وكلاء ومديرون، فطبيعيٌّ أنْ يشملهم الامر.
ثم يقول الحق: {فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ}